في الوقت الذي بات فيه العالم يعيش حالة عجز أمام وباء مثل (كوفيد19) باتت الأسئلة تطرح نفسها بل تفرض نفسها بقوة، ساعية إلى إيجاد سبل لإنقاذ المجتمع من الضغوط النفسية، القلق، الخوف والرعب.. وليس المجتمع العربي أو الغربي كل على حدة، بل العالم بأسره، ذلك أن الوباء لم يفرق بين لون أو جنس. وفي ظل هذا القلق والتوتر النفسي تجاه المجهول، لا مناخ محفز ولا ثقافة حاضنة أكثر من الفن وممارساته على اختلاف أنواعه وألوانه الإبداعية والجمالية، فالفن قادر على استيعاب كل الحالات النفسية وهو الجامع بين كل الشعوب. الفن لغة يفهمها كل الشعوب ولا يحتاج للتفسير، إنه بمثابة العرى الوثقى لتماسك كل الشعوب لمواجهة تحديات الداخل والخارج، إنه العابر للحدود دون الحاجة إلى تأشيرة.
ويمكننا أن نفهم عن الفن بالنظر في علاقته بالمجتمع ووظيفته فيه وما ينطوي عليه من دلالات في ما يختص بطريقة معيشته أنه حجر الزاوية في تغيير وتجديد طرق التفكير عند الفرد ولاسيما إذا خصصنا له الإمكانات، من ذلك إخضاع الفنان ممارساته لدراسة أوضاع المجتمع الذي يعيش فيه والانطلاق من واقعه وتلبسه بهويته وليس النهج على منوال الفن الغربي، ولعله حال العديد من الفنانين الناسخين لتجارب عالمية. بالإضافة إلى الإكثار من المؤسسات الراعية للثقافة الفنية وتشجيعها بتقديم تسهيلات لها وتخصيص أمكنة للعروض الفنية فيها إما مجانية أو برسوم مناسبة، كأن تحض كل دور الثقافة بقاعات عرض دورية ومتاحف فنية دائمة وذلك في كل الأقاليم فلا تكون حكراً على العواصم، حتى أن البلديات نفسها ومؤسسات الدولة على اختلافها يمكن أن تحظى بمتاحف فنية دائمة، فكلما مر الداخل إليها تملى منها وتساءل عن ماهية موضوعاتها وتشرب من تاريخ الفن وتذوق الجمال الإبداعي، فالعين إذا تملت وتعودت على الجمال ستمتلئ الذاكرة وسيعشق اللب الجمال ويتعود عليه فيكون ثقافة اجتماعية. كل ذلك بمشاركة الجمهور بطبيعة الحال سيخلق سياسات هادفة لإنتاج الفن ومن ثم الترويج له من خلال إنتاج سوق فنية.
إذا أخذنا هذا في الاعتبار فإن الفن بالتأكيد لن يكون مجرد ممارسة أكاديمية مخصوصة يدرسها نخبة من الشعب ولن يكون كذلك حكراً على من يرون في أنفسهم الموهبة (الفنانين العصاميين) يتمعشون منه أو يقضون به أوقات فراغهم. الفن أكبر وأعمق من كل ذلك، هو ملك الجميع يهتم بهموم وأمور المجتمع، وهو ثقافة يعيش بها ذلك المجتمع، إذ يزوده برؤى متجددة وقد تكون في أغلب الأحيان مُحفزة في عدة جوانب حياتية له (المجتمع) تتصل بالتعليم وحتى بالسياسة والاقتصاد.
من هذا المنطلق على كل الدول العربية، المجتمع، الفرد عدم النظر للفن من وجهة نظر سطحية وبديهية، وأن الفن تزيين وصفة مسبوغة على أشخاص بعينهم يطلق عليهم اسم (فنان)، على العكس أن ننظر إليه جميعنا من وجهة نظر جوهرية، فالفن منذ القدم كان يستخدم لأغراض ثقافية وبطرق مميزة، ولعل فنون العصور الوسطى الصامدة إلى اليوم أجل شاهد على ثقافة ذلك العصر، ذلك أن الأيقونات الدينية التي تزدان بها جدران وأسقف ومداخل الكنائس، وحتى فيما تلاه من عصور لطالما ارتبط الفن بثقافة العصر وثقافة المجتمع، ولطالما كان له رعاة ومستثمرون، إنه مرآة عاكسة لثقافة الشعوب وهوياتها، هو المُعبر عن الظروف الاجتماعية، السياسية، العالمية، وقد ندرج مثالاً هنا عن الفن الفلسطيني الذي لم يتوقف عند حدود الوطن بل جعل الفنان الفلسطيني قضية بلده المسلوب قضية دولية، وكذلك فعل فنانون من العراق عند فضح ما وقع في سجن أبو غريب لتكون قضية رأي عام، وحتى مع الربيع العربي حاول الفنانون نقل الوقائع إلى العالم من خلال الفن، ولكن..
أي شروط تضمن استقبال الفن من قبل المجتمع؟
الفن يساهم في إثراء الثقافة ويعمل على توليد الطاقات الجديدة والمتجددة التي تمكن الإنسان من المشاركة في صناعة مستقبله وهو قادر على تخطي الحدود دون الحاجة إلى تأشيرة أو إذن كما قلنا سابقا، وهو لا يتوقف عند جنس فني أو إبداعي بعينه، بل إنه يتجدد ولطالما ارتبط الفن بالعبقرية والفكر والثورة والمقاومة، ولعل ما قام به فنانو المدرسة الرومانسية من نقد للمجتمع البورجوازي الصناعي والسلطة آنذاك وحتى فنانو العصور المتوالية وصولاً إلى الفن المعاصر. وهكذا هو الفن يؤثر ويتأثر بحالات المجتمع وهو قادر بالتالي على تغيير نمط بعينه، وكلما ارتبط الفن بهويته وتراثه وجذوره كلما اقترب من المجتمع الذي يعيش فيه وكلما ابتعد اغترب.
من هذا المنطلق، يغدو الفن مفتاحاً للتجدد والتغيير الثقافي والاقتصادي من المحلي إلى العالمي، فعلاً هو مفتاح الشعوب الذهبي لدعم اقتصادها وانفتاحها على السوق الفني العالمي الذي يخضع اليوم لأكبر المبادلات التجارية والاستثمارية، وذلك من نواح عديدة؛ منها خلق مؤسسات داعمة للفن والاستثمار في الفنان ففي شهرته ربح وفير لها. ويبدو خلق سوق للفن في العالم العربي الذي يشهد طفرة هائلة في المنجز الفني، وفي المقابل ليس هناك من تقييم له، ما يجعل العديد من الفنانين يندفعون نحو الفنون التزويقية للتمعش أولوية يجب التأسيس لها والعمل عليها. كما أن إيجاد متاحف فنية إقليمية يساعد على خلق ثقافة فنية ما من شأنه أن يبني لاحقاً لذائقة جمالية عند المجتمع وبالتالي خلق ثقافة التذوق الفني والاهتمام بتاريخ الفن من قبل الجمهور لتكون علاقة المجتمع بالفن علاقة تواصلية وليس فوقية.
إن النقص الهائل في المسارح، وقاعات وصالات العرض الفني، والمتاحف، بالإضافة إلى فقدان سوق الفن للترويج للفن والفنان، غياب مؤسسات داعمة ومستثمرة في الحقل الفني وبالتالي غياب مؤرخي ونقاد الفن الذي يبقى حسير الكتابات الصحفية أو بعض البحوث من الأسباب التي عمقت الهوة بين المجتمع والفن ما جعل الجمهور بعيداً عن استهلاك الفن واعتباره ثقافة رفيعة خاصة بنخبة رفيعة من المجتمع. من هذه الخلفية وجب أن يخلق نوع من المحبة بين الفن والجمهور، ذلك أن الفن هو رسالة يوجهها الفنان إلى المجتمع يمكن أن تكون شيفراتها اجتماعية، سياسية أو اقتصادية، ...، بناء علاقة تواصلية ترتقي بالمنجز من مجرد أثر تزييني إلى ثقافة ولن يكون ذلك إلا من خلال إدراج الفن ضمن سياسات الدول وأن يدخل الفن البرمجة التعليمية من أول مرحلة تعليمية في المدرسة والمعاهد الإعدادية والثانوية وحتى الجامعة وفي كل الاختصاصات دون تحديد، وعندها من الممكن أن يُخلق ذلك الحب الذي يخلق عند المتلقي ذائقة تتذوق الجمال وتفهم رسائل الفنان وتحل شيفرات عمله من خلال تلقي تكوين فني وإن كان بسيطاً بالرجوع إلى الاختصاص المدروس فإنه سيعمق معارفه تجاه الفن كما سيخلق لديه تجدداً في الرؤى والفكر، بالإضافة إلى أن الفن يخلص التلميذ، والطالب من التوتر أو الضغط الذي تتركه الدروس النظرية في الذهن باعتباره أداة تفريغ إيجابية لكل الضغوط والتوترات، ولهذا كلما كانت الخلفية الاجتماعية متملكة لثقافة الفن ومتعودة على ارتياد قاعات العرض ومتذوقة للفنون كلما كان تقديرها للفن واعترافها بالجمال والثقافة كبيراً وبالتالي فهمه وتذوقه فهي الدافع والمؤشر لهذا التقدير، ولكن...
أي سياسات تجعل من الفن داعماً لاقتصاد الدول العربية؟
كي نجيب عن هذا السؤال يتعين علينا أن ننظر إلى الفن كمنتج قابل للعرض والطلب والاستهلاك، ولا يمكن أن يحصل ذلك في غياب سياسات تحدد المعايير الجمالية وتحدد الذوق الذي يتم به تلقي الفن واستهلاكه، ومن أجل ذلك على الفن أن يصبح ثقافة شعبية وينزل عن ثقافة النخبة الرفيعة إلى حيز الجمهور البسيط، غير أن ذلك لا يتم إلا من خلال إدراك الدول لتنظيم أشكال ثقافية وإبداعية جديدة للفن من ذلك خلق سوق فنية تروج العمل الفني وتبني بالتالي علاقة تواصلية بين الفنان كمنتِج للعمل والمتلقي، وبين العمل الفني كمنتَج قابل للبيع والاستهلاك.
من هذا المنطلق تكون أولويات الدول العربية أن تبعث مؤسسات ترعى الفن وتهدف إلى الترويج له، وتكون مدفوعة بعامل الربح أيضاً فتبعث إستراتيجيات تهتم باقتصاديات الإنتاج الفني، وكل ذلك سيخلق سوق فن جديد. في هذه الحالة ستكثر الإنتاجات الفنية وسينتج عن ذلك البائع وهو الفنان والمشتري وهو الجمهور وستكون قاعات العرض هي الوسيط بينهما. وفي ظل ذلك ستظهر أدوار جديدة على غرار ما يحصل في الدول المتقدة من ذلك المزادات الخاصة بالفن، الاستثمار في الفن من خلال تبني الفنانين ذوي الشهرة من قبل مالكي دور العرض وها نحن اليوم نعيش مثل هذه الأدوار في العالم الغربي حيث تباع لوحات كبار الفنانين مثل فان جوخ وغيره بملايين الدولارات.
وهكذا يصبح الفن تجارة قابلة للعرض والطلب وسيؤثر ذلك حتماً على المجتمع حيث ستتغير رؤيته للفن وسيطلب لوحات فنية يعلقها على الحائط بدل تلك التزويقية المنسوخة وسيتحول تصنيف الفن من النخبوي الرفيع إلى الشعبي. وفضلاً عن هذا ستخلق وظائف جديدة تؤثثها قاعات العرض، المتاحف الفنية، العروض النقدية في المجلات، الإعلان، الصحف وحتى الكتب، وستظهر وظائف جديدة مثل أمناء المتاحف الفنية، وحكام المسابقات الفنية، ومنظمي الدورات التكوينية أو التدريبية والندوات الفنية. وبهذه الطريقة يكون الفن خالقاً لإمكانات اقتصادية وقدرات تشغيلية، وتنافسية متجددة. وكل ذلك يدعم ويؤسس لاقتصاد بديل أساسه الثقافة الإبداعية التي تطور الذوق وتجدد الفكر، كما سيؤسس إلى خلق أنظمة عملية جديدة سيفتحها سوق الفن، كالتمويل سواء للفنان نفسه الذي سيكتسب سمعة قد تستدعي المستثمرين لأن يكونوا رعاة له وحتى المؤسسات التجارية، بالإضافة إلى الصيت الدولي، ما سيجعله مطلوباً عند دور العرض، والمقابلات الصحفية، والإعلامية، إلى جانب تأثير التكنولوجيا ما سيوسع دائرة شهرته من الإقليمي الوطني إلى الدولي، وسيزداد العرض والطلب من المحلي إلى العالمي.
من المأمول أن تنظر الدول العربية فعلاً للفن على أنه حقل فكري ونتاج اقتصادي مهم لدعم ثقافة المجتمع وحتى اقتصاده ولاسيما أن الفن كما أسلفنا الذكر عابر لحدود المكان والزمان دون احتياجه لتأشيرة عبور. عليها أن تعي أنه في تحويلها للثقافة الفنية إلى مؤسسة فإنها تعزز مجلات الدعم الذاتي والاستثمار الربحي. والرأي عندي أن الفن بما هو نشاط إبداعي وابتكاري وتعبيري يحقق التواصل بين الناس وهو موجود بطبيعته ضمن حياتهم اليومية في لباسهم وبيوتهم وحياتهم اليومية، غير أنهم لا ينتبهون له وهنا وجب إعادة اكتشافه من خلال تقدير الدولة للفن والفنانين وخلق مفاهيم جديدة مثل الاقتصاد الثقافي البديل في الفن فيما يتصل بالمجتمع والحياة الثقافية الإبداعية وسوق الفن.