مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

بلسم وتعبير

تاريخياً تشير الدراسات والسير إلى دور الفنون في التواصل بين الناس وكمصدر رزق لبعضهم بل ووسيلة تعليم وترفيه وعلاج نفسي لا سيما في الأزمنة الحديثة التي تطورت فيها العلوم وتوسعت المعارف وتعقدت أساليب الحياة وسبل كسب العيش وما تبع ذلك من مشاكل وأزمات مختلفة. والمتابع لما ورد في أمهات الكتب ومقدساتها لا يفوته الوقوف على معلومات كثيرة حول هذا الأمر ودوننا بعض ما تم تناوله عن دور الفنون التشكيلية في قصص الرسل والأنبياء لا سيما قصة النبي نوح وبناء السفينة ودورها في تحقيق رسالته. لقد كان بناء السفينة كعمل فني هندسي بمثابة بلسم ومعبر عن الذات ونهج أسلوب حياة يحتذى أو معادل موضوعي لما واجهه من صدود وسخرية. وهنالك المعروف عبر الحضارات البشرية بعده شرقاً وغرباً منها، مثلاً، ما ورد عن النبيين داود وسليمان، حيث تفرد الأول بصوت شجي وقدرة مذهلة في التشكيل بالحديد، بينما عرف الثاني بتوظيف الفن (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (القرآن الكريم، سورة سبأ، الآية 13).
في القرن الماضي والحالي تعمقت المعارف البشرية مما مهد لقيام دراسات متخصصة ومجالات علمية متداخلة كالعلاج النفسي والعلاج بالفن والعمل بهما وقد ساعد التقدم التقني المشهود في الاتصالات في التعريف بهما بشكل غير مسبوق. وبالرغم من أن المجالين يذكران بسيجموند فرويد، رائد التحليل النفسي فهما أيضاً يقربان للأذهان شعار (العقل السليم في الجسم السليم). ولعله من نافلة القول، اليوم الإشارة إلى دعوات سياسيين وعلماء بينهم اختصاصيون في العلاج النفسي والعلاج بالفن وغيرهم إلى الاهتمام بالصحة النفسية ضمن إجراءات أخرى ضرورية لمجابهة جائحة كورونا الحالية. هذه الجائحة التي شبهت من قبل كثيرين في دول مثل بريطانيا بواقع الحرب العالمية الثانية أكدت أنه (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان) وأن تضافر كل الجهود وتوظيف طاقاتهم الإبداعية لتحسين أوضاعهم النفسية ضروري لبقائهم. من المناسب استلهام قول وينستون شرشل رئيس وزراء بريطانيا المعروف كأحد أشهر الزعماء السياسيين في التاريخ الحديث في هذا السياق (بالتسلح بعلبة ألوان، المرء لا يسأم، لا يبقى في مهب الريح)، (محاولة التعامل مع الألوان متعة في حد ذاتها). ما قال شرشل يذكر بالشاعر العراقي معروف الرصافي وغيره من أعلام حول دور الفنون في التخفيف من أحزان ومعاناة البشر (إن رمت عيشاً ناعماً ورقيقا/ فاسلك إليه من الفنون طريقا).

ريادة فريدا كالو (6 يوليو 1907-
13 يوليو 1954)
ولدت فريدا لأم من أصل مكسيكي وإسباني وأب هنقاري يعمل بالتصوير الضوئي. لقد أصيبت بمرض شلل الأطفال في رجلها اليمنى في السادسة من عمرها مما أحدث خللاً في مشيتها حاولت مداراته بارتداء ملابس طويلة لمجابهة سخرية بعض الأطفال التي أثرت في نفسها. في تلك الفترة وباكر شبابها كانت تحلم بدراسة الطب وتعد نفسها لها وقد كانت ضمن 35 فتاة في إحدى أفضل المدارس المكسيكية، لكنها أصيبت بخيبة أمل بسبب تعرض الحافلة التي كانت تقلها لمدرستها لحادث مرور سبب أذى جسيماً في هيكلها العظمي ورحمها. لذا اضطرت لإجراء نحو 30 عملية جراحية وتعد إصابة رحمها سبباً في حرمانها من الإنجاب لاحقاً. عقب تعرضها للحادث طلبت من والدها إحضار مواد لممارسة الفن التشكيلي الذي لعب دوراً كبيراً في التخفيف من معاناتها وسطوع نجمها. لقد تزوجت من ديقو ريفيرا فنان الجداريات المكسيكي الشهير في ربيعها العشرين وكان يكبرها بنحو 20 عاماً، غير أن حياتها معه لم تكن على ما يرام نتيجة لمغامراته العاطفية وعدم إنجابها منه رغم حملها ومن ثم طلاقهما. من أقوالها عن تجربتها وحياتها معه: (لقد عانيت من حدثين محزنين في حياتي. أحدهما حادث حركة أقعدني والآخر ديقو).
لقد كرست فريدا جل وقتها لممارسة الفن التشكيلي للتخفيف من حجم ما تعانيه سواء كان ذلك في فترات النقاهة بعد العمليات الجراحية التي أجريت لها أو عند زواجها وعزلتها. لقد استطاعت رغم معاناتها وعدم قدرتها على الحركة في بعض الأوقات (كانت ترسم وتلون وهي راقدة على السرير أو على كرسيها المتحرك) إنجاز نحو 200 لوحة منها 150 لوحة ملونة تصور أدق تفاصيل حياتها بكل صدق وأمانة. جدير بالذكر أنها صورت في 55 لوحة من ملوناتها وجهها (سيلف بورتريه) مجسدة حالات معاناتها في أوضاع مختلفة وبخلفيات عكست حبها للطبيعة مع حيوانات أليفة لا سيما قرد وغزال ونباتات بعينها وأشياء أخرى في عدد لوحات من أعمالها.
وإذا كان العلاج بالفن يرتبط بالتعبير عن النفس عبر شكل فني يساعد في علاج أزمات ومشكلات مختلفة وينمي مهارات داخلية بجانب المساعدة في ضبط السلوك وتعزيز الثقة والوعي بالنفس وتحقيق تطلعاتها، فلا عجب أن تنسب لفريدا كالو ريادة العلاج بالفن، لأنه لم يعرف رسمياً إلا في منتصف تسعينات القرن المنصرم. لا شك أن وصفها بالريادة والتأثير إيجابياً في غيرها كأيقونة فنية عالمية ترمز للقوة والتحدي بقوة ناعمة قد لاقى تقديراً منقطع النظير، باعتبار تطبيقها للعلاج بالفن وترويجها له من أجل خلق تفاعل إيجابي في أحلك الظروف. لقد أصبحت أعمالها وسيرة حياتها في صميم مناهج الفنون العالمية كما لقي أسلوب حياتها ولبسها طريقه الى عالم الموضة والأزياء. أما أقوالها التي تثبت قوة شخصيتها وتبث الأمل وتشجع على العمل والإنتاج والتفرد فقد غدت ضمن عيون الكلام الخاص بالبوح ومعرفة النفس. تقول عن نفسها: (أنا أصور نفسي لأنني كثيراً ما أكون لوحدي ولأنني الموضوع الذي أعرفه أفضل).
من أقوالها الشهيرة: (الفن أكمل حياتي. لقد فقدت ثلاثة أطفال وسلسلة أشياء أخرى يمكنها ملء حياتي المرعبة. فني شغل هذا الحيز). أما عن الذين يعتقدون بتأثرها بالمدرسة السريالية أو فوق الواقعية التي تعبر عن الأحلام تقول: (أنا لم أصور أحلاماً أو كوابيس. أنا أصور حياتي) كذلك: (اعتقدوا أنني فنانة فوق واقعية، لكنني لست كذلك. أنا ما صورت أحلاماً قط. أنا صورت واقعي). في عام 1958 أسس في مدينة مكسيكو متحف يحمل اسمها وهو مخصص لسيرة حياتها وأعمالها بجانب أعمال لريفيرا وفنانين مكسيكيين آخرين وهو من معالم المدينة الشهيرة ويسمى الدار الزرقاء أيضاً وهو مكان مولدها ومسكنها لاحقاً.

ذو صلة