مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

لغة العالم

في عز الأزمات الإنسانية والمشاكل المتلاحقة التي عرفتها البشرية كان الفن هو الملاذ الذي يلجأ إليه أولاً الفنان للتعبير عما يخالج نفسه من مخاوف وهواجس، وثانياً الإنسان للترفيه عن نفسه في محاربة القبح والمرض بمختلف أنواعه، كما كان الفن اللغة المثلى والمشتركة التي يتم التواصل بها عبر العالم لتوثيق التحضر والرقي الإنساني عند الأمم والشعوب، وتضييق هوة الاختلاف بين الثقافات والديانات، ولهذا نجد عبر التاريخ شخصيات مهمة لم تجد بداً من الاعتراف بالفن والثقافة كأحسن وسيلة للتقريب بين الشعوب، وكسر حدة شوكة السياسة.
وفي زمن جائحة (كورونا) التي ألقت بظلالها الشاحبة والمقيتة على الإنسانية جمعاء خلال هذه السنة وما زالت، وفي ظل الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي الذي طبقته الكثير من البلدان عبر العالم؛ لم يكن أمام الكل إلا الفن وسيلةً للبحث عن الخلاص وتحقيق التوازن النفسي، لأن الفن ضرورة إنسانية وروحية نابعة من الحاجة إلى الجمال والتحرر من القيود والقواعد والأنساق والبشاعات على اختلاف أنواعها، في اتجاه تحقيق الجديد والتقدم نحو الأفضل والأرقى.

الفن وتقارب الثقافات والشعوب
مهما اختلفت التعاريف حول الفن وماهيته وأدواره، فإنه كان ومايزال نواة أساسية ومكوناً من مكونات الثقافة الإنسانية، ولغة الشعوب المشتركة، لأنه استطاع تخطي حواجز اللغة والأنماط السائدة لتعزيز التفاهم والحوار بين الشعوب، وهو ما كان موجوداً منذ أقدم العصور، حيث كانت الحضارات بمختلف أنواعها في الشرق والغرب على حد سواء تتواصل مع بعضها بفضل الفن، فالحضارة العربية الإسلامية مثلاً تواصلت مع مختلف الحضارات في الشام والعراق والهند والصين واليونان ومصر، واستفادت منها كما أنها أفادتها، إضافة إلى ذلك فإن الحضارة العربية الإسلامية نقلت جزءاً مهماً من الحضارات التي احتكت بها إلى العالم الأوروبي، وهو بدوره نقلها إلى باقي بلدان العالم، فحدث نوع من التلاقح الثقافي والفني الذي أسهم بشكل كبير في التقريب بين الشعوب وثقافاتها، وساهم في غرس بذور الاحترام والمساواة والتسامح مع الآخر المختلف.
وكما أن الفن وسيلة لحفظ الهوية، فهو أيضاً وسيلة للحوار الحسي بين المجتمعات منذ القدم وحتى يومنا هذا، فمن خلاله يستطيع الفرد إيصال رسالته لكل البشرية، متجاوزاً حدود اللغات. فمن خلال الفنون استطاعت البشرية تتبع آثار الحضارات المختلفة، واكتسبت منها الكثير من الخبرات والمعلومات المهمة، وهو ما جعل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) تركز على أهمية الفن في جميع خطاباتها، وتحث على جعله الوسيلة الأنجع للتعايش بين الشعوب لعدة أسباب من بينها: كونه لغة مشتركة بين شعوب العالم تتجاوز كل الفوارق والاختلافات، بل إن الفن يلغي تلك الفوارق في غالب الأحيان، ويخلق الألفة والمتعة بين الناس، ويعزز قيم التسامح وقبول الاختلاف، وهي القيم التي تناهضها الجماعات الإسلامية المتطرفة، التي أصبحت تحرم وتحلل ما تشاء باسم الدين، وصار الرسم والنحت والفن بشكل عام لديها منبوذاً، معلنة عن نوع من الصراع بين الفن والدين الإسلامي، في حين أن هذا الأخير بريء من كل ذلك، وهو ما حدا بأنصار تلك الجماعات إلى تحطيم كل معالم الحضارة العربية الإسلامية المتمثلة في المنحوتات والتماثيل، أو بترها عبر قطع رؤوسها (قطع رأس تمثال أبي العلاء المعري في مدفنه بمعرَّة النعمان بسوريا، وتمثال شاعر الفرات محمد الفُراتي، تحطيم تمثال الطاهر حداد بتونس، اختطاف تمثال طه حسين في المنيا بمصر، تغطية تمثال أم كلثوم بحجاب، محاولة تحطيم تمثال عين الفوارة بالجزائر).. وغيرها من السلوكيات التدميرية التي عرفتها العديد من البلدان العربية كأفغانستان والعراق وسوريا..
وفي شهر نيسان/أبريل 2020، أطلقت منظمة (اليونسكو) حركة (صمود الفن) ResiliArt من أجل الفنانين والمهنيين العاملين في القطاع الثقافي، وعبرت مديرتها العامة أودري أزولاي قائلة: (نحتاج في هذه الأوقات المضطربة التي يلفها الغموض إلى الالتفات إلى ما يجمعنا وما يرينا العالم بكل تنوعه، ولكي يتحقق ذلك نحتاج إلى الفنانين). كما أطلقت العديد من البلدان العربية مجموعة من المبادرات الفنية، وذلك للحفاظ على هذا الجانب المشع والمنير في الإنسان.

الفن عبر منافذ العالم الافتراضي
في ظل الظروف العامة الصعبة التي نعيشها بسبب جائحة (كورونا)، وفي ظل استمرار إغلاق العديد من الفضاءات والمسارح والمتاحف التي كانت تحتضن تظاهرات فنية موسيقية وتشكيلية وسينمائية ومسرحية، والتي جعلت الإنسان يفتقد هذا الجانب المهم في حياته، التي لا تقوم على المأكل والمشرب والصحة فقط، وهي من الأساسيات، بل تقوم على الفن أيضاً، باعتباره الرئة التي تتنفس بها المجتمعات؛ انبرى العديد من الفنانين عبر العالم للبحث عن وسائل جديدة ومنافذ للعمل الفني عبر استثمار الإنترنت والعالم الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي واليوتيوب. ففي المغرب مثلاً عرض المركز السينمائي المغربي مجموعة كبيرة من الأفلام المغربية في موقعه الإلكتروني، ونظم متحف محمد السادس للفن المعاصر بالرباط معرضاً افتراضياً شارك فيه مجموعة من الفنانين المغاربة، كما نظم معرضاً استعادياً للفنان المغربي الراحل الجيلالي الغرباوي، ونظمت فيدرالية فنون الشارع مبادرة فنية باسم (شارع الحجر)، تمكن من خلالها فنانون موسيقيون وممارسو فنون السيرك من مواصلة عملهم وإمتاع جمهورهم على العالم الافتراضي. وأعاد بعض المسرحيين المغاربة (المسرح الإذاعي) من أجل خلق متنفس جديد للمسرحيين، وقدمت الفنانة المغربية نبيلة معن رفقة مجموعة من الفنانين والعازفين باقة من الموشحات الأندلسية في حفل افتراضي تحت عنوان (تراثنا من دارنا). والتجربة نفسها قام بها فنانون عالميون وعرب، كما عمدت الكثير من المهرجانات والملتقيات الفنية العربية والعالمية إلى الاشتغال افتراضياً، واستثمار ما هو متاح في انتظار أن تزول الجائحة وتعود الأمور إلى سابق عهدها، بل منها ما توجه إلى محاولة الاستثمار فنياً في السوق الرقمي للتخفيف من المضاعفات السلبية لجائحة (كورونا) وآثارها على القطاع الفني بالخصوص، لأن الفن أصبح معادلتنا الافتراضية للحياة ومواجهة القبح والجائحة.

هشاشة الفنون بالعالم العربي
لعبت الفنون بمختلف أشكالها: الموسيقى، الرقص، السينما، المسرح، التصوير، الرسم، النحت، والعمارة، وعلى اختلاف مستوياتها وتنوع أصولها؛ دوراً مهماً في التقريب بين الثقافات والشعوب، بل كانت محط تقدير وتقديس حتى أثناء الحروب والأزمات، لأنها استطاعت بفنية عالية أن تعمل على تحقيق الحوار الثقافي بين الحضارات والشعوب، وأن تعبر عن رفضها للعنصرية والكراهية والإرهاب والاستعمار، وتنتقد التقتيل والترويع والحرب والدمار، وكل ما لا يمت للحس الإنساني بصلة، ولايزال التاريخ يحتفظ بالكثير من المنجزات الفنية الكبيرة، نذكر من بينها لوحة (الإعدام رمياً بالرصاص) للفنان الإسباني فرانشيشكو دي غويا، التي شكلت مادة فاعلة لإدانة نابليون بونابرت الذي كان يقتل كل من يقف ضده أثناء احتلاله إسبانيا، ولوحة (الغرنيكا) للفنان الإسباني بابلو بيكاسو، والتي استوحاها من قصف مدينة (غرنيكا) من قبل الطائرات الألمانية والإيطالية في عام 1937. وكذا الفنان الروسي فاسيلي فيرتشاغين صاحب لوحة (أنا طائر في السّماء)، التي قدم فيها ثلة من الجماجم تحلق فوقها الغربان السود. ومن الفنانين العرب نذكر الفنان الفلسطيني إسماعيل شموط، والفنان والنحات الفلسطيني سليمان منصور، والتشكيلي الكويتي سامي محمد، والفنان السوري يوسف عبدلكي.. وآخرين. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الأهمية الكبرى التي تكتسيها الفنون في حياة البشرية، والدور الكبير الذي يمكن أن تقوم به من أجل تبديد الخلافات الثقافية والعرقية والدينية، وتضييق الهوة بين الشعوب. ولكن مجرد إطلالة على واقع هذه الفنون في بلداننا العربية، على الرغم من التطور الذي حققته بفضل دعم المنظمات العربية الثقافية الحكومية وغير الحكومية مثل المورد الثقافي والصندوق العربي للثقافة والفنون، وبفضل مجهودات بعض دول الخليج العربي الداعمة للفنون والثقافة بشكل كبير؛ يجعلنا نتحسر على هذا الواقع، الذي ساهمت في فضح هشاشته جائحة (كورونا)، والتي كشفت وبالملموس أننا نفتقر إلى مؤسسات فنية وثقافية بمعنى الكلمة، وأنه لا يمكن للفنون والثقافة أن تنهض في غياب سياسة ثقافية وفنية واضحة.
وعلى الرغم من الطفرة المهمة التي شهدناها في مجالات الثقافة والفنون في عالمنا العربي، وتوسع أنشطة التبادل الثقافي والفني مع أوروبا، والتي لم يكن لها أن تتحقق لولا المساعدات الدولية كالاتحاد الأوروبي، ومؤسسة أنا ليند الأورومتوسطية للحوار بين الثقافات، وغيرها من المؤسسات الغربية؛ فإن الوعي بأهمية العمل الفني والثقافي ما زال في بداياته، وما زالت مفاهيم أساسية، كالإدارة الثقافية والحوكمة الثقافية والسياسات الثقافية، لم تترسخ بعد، وما زالت حرية التعبير فنياً وفكرياً وثقافياً حلماً بعيد المنال، حيث يظل سؤال الفن والثقافة في المجتمعات العربية سؤالاً إشكالياً، يعيدنا دائماً إلى سؤال جوهري، وهو: عن أي فن يمكن لنا الحديث، ولأي مجتمع؟!

ذو صلة