مجلة شهرية - العدد (589)  | أكتوبر 2025 م- ربيع الثاني 1447 هـ

الاحتفاء الشعري بالصالونات الثقافية نماذج مختارة

وجد الأدباء والمثقفون في الصالونات الثقافية أو المنتديات البيتيّة متنفساً جديداً لهم، ورافداً مهماً للمؤسسات الثقافية الرسمية، بل إن ندوة الشيخ عبدالعزيز الرفاعي بدأت نشاطها الثقافي قبل إنشاء الأندية الأدبية بأكثر من عشر سنوات.
وقد عرف عدد من الأدباء السعوديين والعرب الطريق إلى هذه الصالونات التي تكاد تغطي أيام الأسبوع، فهذه سبتيّة، وهذه أحدية، وهذه اثنينيّة، وهذه ثلوثية، وهكذا، ووجد فيها الشعراء تحديداً مجالاً للقول، فأنشدوا فيها قصائد عامة من شعرهم القديم أو الجديد، ثم وجدوا أن الصالون نفسه مجال للحديث عنه، وبيان أهميته، وما يتسم به من ثراء معرفي وثقافي، حتى حظيت بعض الصالونات في المملكة العربية السعودية بقصائد معينة نظمها أصحابها تنويهاً بمكانة الصالون وثناء على صاحبه.
وهذا المقال امتداد لمقال سابق تناولت فيه ندوتين أو صالونين، وعرضت لما قيل فيهما من شعر، وهما: ندوة عبدالعزيز الرفاعي، ومجلس أوراف الأدبي.
ويمتاز هذا المقال عن سابقه بأن فضاءه أوسع؛ إذ حاولت أن أتحدث عن أكثر من صالون، وفي مدن مختلفة من المملكة. والصوالين هي: اثنينية عبدالمقصود خوجة في جدة، واثنينية عثمان الصالح في الرياض، ومجلس محمد بن ناصر العبودي، وندوة النخيل في الرياض، وثلوثية محمد المشوّح في الرياض، وندوة الوفاء لأحمد باجنيد في الرياض، ومنتدى سامي غتّار الثقفي بالطائف.
والملاحظ أن معظم هذه الصالونات أهملت جمع الشعر الذي قيل فيها باستثناء اثنينيّة عبدالمقصود خوجة في جدة التي وثّقت كل ما قيل عن الاثنينية من مقالات وقصائد، وطبعت في عدة مجلدات، منها مجلد يضم كل ما ألقي من شعر يخصها، وبلغت صفحاته نحو أربعمئة، وصدر في عام 1428هـ/2007م بمناسبة مرور ربع قرن على تأسيسها.
أما مصادر القصائد التي قيلت في الصالونات الأخرى فهي دواوين الشعراء، أو الصحف والمجلات، أو الإعلام الجديد، وبخاصة منصة (إكس).
وبالنظر إلى المجلد الثامن الذي أصدره عبدالمقصود خوجة بمناسبة مرور خمسة وعشرين عاماً على تأسيسها، وحمل عنواناً فرعياً، وهو (في مرآة الشعر العربي: قصائد ألقيت في حفل التكريم)؛ نجد فيه عدداً من القصائد التي ألقاها الشعراء المكرّمون، أو ألقاها بعض الشعراء في تكريم زملائهم أو أصدقائهم، وتضمنت القصائد الشكر لصاحب الاثنينية عبدالمقصود خوجة، والإشادة بدور الاثنينية والتنويه بمكانتها، والثناء على الشخصية المكرّمة.
ومن أبرز الشعراء السعوديين: عبدالعزيز الرفاعي، وإبراهيم العواجي، وأحمد سالم باعطب، وأحمد بن صالح الصالح (مسافر)، ومحمد العيد الخطراوي، وفاروق بنجر، وزاهر الألمعي، ومحمد بن سعد الدبل، وعدنان العوّامي.. وغيرهم.
ونتوقف أولاً عند همزية أحمد سالم باعُطب التي ألقاها في ليلة تكريمه، وفيها شكرٌ لصاحب الاثنينية، وثناء على الصالون ومناشطه وفعالياته في تكريم الأدباء، يقول:
ماذا أقدّم للكريم وفاءَ
وأنا الخليّ بلاغة وثراءَ
في ليلةٍ حملت لنا نسماتُها
من كل مكرمة شذا وعطاءَ
في ليلةٍ للحب فيها موكبٌ
تسري به ساعاتُها خيلاءَ
في دارة للفضل فيها منتدى
يزدادُ منها بهجة وثناءَ
تُهدي إلينا كل إثنين بها
حُلماً وتُشرق فتنة ورواءَ
يا من يمد إليّ إن صافحته
قلباً يفيض مروءة وإباءَ
ما جئت أزجيك الثناء تملقاً
لا منصباً أرجو، ولا استجداء
أما أحمد الصالح (مسافر) فقد ألقى قصيدة في حفل تكريمه، أزجى فيها الشكر لعبدالمقصود وندوته، ومما قال:
أحباب ناديك قد وصلوا
وبحبك وحدك قد ثملوا
والقلب إليك تتيمه
ندوات أنت لها الأملُ
عانقت سجايا قد شرفت
برحيق العلم فلا خطلُ
وليالٍ أنت نسجت لها
صبحاً فالليل بها شُعلُ
عبدالمقصود لأنتَ هنا
علمٌ قد سار به المثلُ
ومن بين المكرّمين في اثنينية عبدالمقصود خوجة، الشيخ عائض القرني الذي استهل كلمته بمقدمة نثرية ثم مقطوعة شعرية، ومنها قوله:
قد أحسن المجدُ إذ سمّاك مقصودا
جمعت في كفك الإيمانَ والجودا
فمثلكم يا كريم الذات مقعده
على النجوم فدم كالغيثِ محمودا
في كل إثنين يلقاك الطموحُ على
مشارف العز وقتاً كان معهودا
أما اثنينية عثمان الصالح في الرياض فقد حظيت ببعض القصائد، ومنها قصيدة لمحمد منير الجنباز عنوانها (ندوة الاثنين)، وفيها يشيد بالندوة وصاحبها، ويشير إلى حظ الشعر الوافر فيها، واصفاً الندوة بأنها (مهوى قلوب الأدباء)، يقول:
ندوة الإثنين زانت بالعطاء
أصبحت مهوى قلوب الأدباء
فتحت أبوابها مشرعة
وبدت للفكر في أحلى بهاء
فبها إحياء تاريخ مضى
حين تروى نادرات الخلفاء
ولصوت الشعر حظ وافر
تتجلّى نفحاتُ الشعراء
ندوة أضحى لها روّادها
عبقت عطراً بأجواز الفضاء
ورعاها فاضلٌ زيّنها
بوقار وأناة الحكماء
ذاك عثمان الندى شيّدها
رجل العلم مربي الأوفياء
وللشاعر محمد بن سعد الدبل قصيدة عنوانها (اثنينيّة العطاء)، كتبها ثناء على صاحبها عثمان الصالح، وفيها يقول:
يا ذائعَ الصيت دم للعلم مفخرة
والفكر يصقله مسعاك والقلمُ
لقاؤنا طاب في اثنينيّة عمرت
بكل رأي إذا ما سيق يُحترمُ
عثمانُ يا رائدَ اثنينيّة نُسبت
إليكَ أنت لها المضيافُ والحكمُ
وللدبل قصيدة أخرى في ندوة النخيل لصاحبها الدكتور محمد بن سعد بن حسين، وعنوان القصيدة (ليلة في ثلاثية النخيل)، ومنها قوله:
لأبي عبدالحميد الحر طبعٌ
وله في العلم والآداب سُمعه
كلما أنشدنا زدنا سروراً
كم أديب ماهر شنّف سَمعه
في ثلاثيته تلقى صحاباً
جدّدوا ميعادهم فارقبه وارعه
أما محمد بن حسن العَمري فقد كان من روّاد ندوة عبدالعزيز الرفاعي والندوة التي خلفتها، وهي (ندوة الوفاء) التي أنشأها رجل الأعمال أحمد باجنيد، جار الرفاعي؛ فكتب قصيدة يشيد فيها بجهود باجنيد في إنشاء الندوة في حياة الرفاعي وبعد وفاته، وعنوان القصيدة (مرحى باجنيد):
أنا ممن قاده الحظُ السعيد
لارتياد المنهل العذب الفريدْ
منهلٌ ينساب عذباً مستساغاً
كحليب الأم في فم الوليدْ
ندوة الآداب شدّتنا إليها
بحبال الود والحب الأكيدْ
فتسابقنا شيوخاً وشباباً
وأتينا من قريب وبعيدْ
الرفاعي لم يمت ما دمت حيّاً
تبعثُ الآمال فينا من جديدْ
لا تزال الندوة الغرّاء رمزاً
بعد أن ألبستها الثوبَ الجديدْ
قمت بالأعباء وضّاح المحيّا
فغدا كل خميس يومَ عيدْ
وحين حضر سليمان بن عبدالعزيز الشريّف مجلس محمد بن ناصر العبودي في الرياض أعجب به، وأصبح يتردد عليه، ثم كتب قصيدة طريفة يقص فيها حواراً بينه وبين أحد أصدقائه ممن لاحظ غيابه يوم الاثنين عن بيته، وتساءل: هل وجدت وظيفة؟ فأجابه قائلاً:
خرجتُ قبيل المغرب اليوم راكباً
وفي الجو شيءٌ من غبارِ العواصفِ
فساءلني بعضُ الصحاب مداعباً:
إلى أين تمضي هل لكم من وظائفِ؟
فقلت نعم لكنّها دون راتبٍ
فنحن أناسٌ نكتفي بالعواطفِ
ففي مغرب الإثنين يلتمّ شملنا
ونسعد فيما بيننا بالتعارفِ
وفي مجلس الشيخ العبوديّ نلتقي
لننهلَ ممّا عنده من معارفِ
وحينما كُرّم الشاعر خالد بن محمد الخنين في ثلوثيّة محمد المشوّح عام 1445هـ/2023م كتب قصيدة احتفاء بالثلوثيّة وصاحبها، وشكر فيها كل من حضر حفل تكريمه، يقول:
ثلوثية تاهت على كل منتدى
ومدّت رواق الفكر نهلاً وموردا
أضاءت سماء العلم فاخضل غصنها
وأينع إثماراً وراق مع الندى
على منهج للعلم فاض نميره
ليهدي سراة الفكر بالنور والهدى!
ومن يعشق المجد الرفيع ينل به
فخاراً، ويبقى في الزمان مخلدا
إذا أمة لم تعنَ حقاً بفكرها
فلا نالت الجلى ولن تبلغ المدى
ويا جمعكم في دار أكرم رائد
لأنتم جمال الأرض: طيباً ومحتدا
بكم أينعت كل الحقول وأزهرت
فجاج بأرض النور تسمو تفردا
لك الشكر يامن أتعب المجد سعيه
ودمت لنا نجماً مضيئاً وفرقدا
وأختم هذه المقالة بقصيدة كتبها عائض الثبيتي، مشيداً بمنتدى سامي غتّار الثقفي بالطائف، وعنوان القصيدة (منتدى الثقافة في ثقيف)، يقول:
عُد بي صعوداً والمزارُ ثقيفُ
إن الفؤادَ بحبها لشفيفُ
يا هاجسي لا غبت عن متألّف
يدني مداك وشأنك التأليفُ
إن المجالسَ قد تُزان بحلية
إن ساد فيها بالجواب ظريفُ
إلى أن يقول:
قل يا ابن (غتّار) المؤثّل بالعلا
أو قال عنك على المجاز منيفُ
قل إن فناً رُمت بكر قطافه
في أرضكم وعلا به التصنيفُ
لن يُستهان تعمداً بثماره
ولسوف يقطفُ حلوها الغطريفُ
لله أنت فقد لمست مطالباً
لذوي العقول فما جفاك حصيفُ
أوجدت من نهر الجمال منابعاً
تُرجى وما لنميرها تجفيفُ
وثمة ظواهر في شعر الصالونات، منها: تشبيه كرم صاحب الصالون بحاتم الطائي أو غيره من كرماء العرب، مثل قول عائض القرني:
أنسيتنا حاتم الطائي وسيرته
وابن العميد بكم ما كان مفقودا
وقول محمد العيد الخطراوي واصفاً الشيخ عبدالمقصود خوجة:
منح الصحب والأخلاء حباً
حاتمياً وللمكارم سنّا
ومن الظواهر تكرار اسم الندوة أو الصالون، أو ذكر يوم انعقادها، ومن الأمثلة على ذلك قول إبراهيم بن ناصر المدلج متحدثاً عن اثنينيّة عبدالمقصود خوجة:
أشدّ على يمين الشيخ أشدو
بإثنينيّة أضحت محجّة
وقوله من قصيدة أخرى:
عُدتم فعاد لنا الإثنين ذا وهجٍ
تختالُ في الحسن والبهاء ليلاهُ
ومن الظواهر استدعاء الشعراء القدامى في قصائدهم، وكأنهم يرون أن حضور كبار الشعراء المعاصرين لهذه الصالونات يشبه حضور القامات الشعرية القديمة، مثل قول محمد عبدالمنعم خفاجي في حفل تكريمه في اثنينيّة خوجة:
امرؤ القيس بيننا وأبو الطيـ
ــيب ناداه نورها الوضّاءُ
وأبو تمّام يرى كيف ضاءت
بسنا النادي الليلة الظلماءُ
ومن الظواهر الإشارة إلى سوق عكاظ، وتشبيه حراك الصالونات الثقافية بما كان يجري في سوق عكاظ من إنشاد للشعر ونقد له، ومن الأمثلة قول أحمد بن علي المبارك في حفل تكريمه في اثنينيّة خوجة:
قالوا مضت دولة الأشعار وانقرضت
وجاء من بعدها التمجيدُ للمالِ
فقلت كفّوا عن التثبيط ويحكمُ
وأقبلوا وانظروا ما ليس بالبالِ
مجالساً لعكاظ زانها أدبٌ
يشع منها ضياءٌ ساطعٌ عالي
وبعد، فهذه مقالة أردت من خلالها أن أذكّر بما نهضت به الصالونات الثقافية في المملكة العربية السعودية من أعمال جليلة خدمت الأدب والثقافة، وكانت رافداً مهماً للعمل الثقافي المؤسسي المتمثل في الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون وغيرها من الجهات الرسمية، وما زال هناك بحمد الله صالونات تعمل حتى اليوم، في حين توقفت أخرى بوفاة أصحابها.

ذو صلة