مجلة شهرية - العدد (589)  | أكتوبر 2025 م- ربيع الثاني 1447 هـ

مصر كما أرادها طه حسين

في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) (1938م)، يجادل طه حسين أن مصر -عقلاً وذوقاً وثقافة وفهماً- أقرب إلى الغرب منها إلى الشرق، بل إنه ينفي عنها (شرقيتها) حتى بالمعنى الجغرافي، إذا كان مركز التحديد هو أوروبا.
يبني طه حسين فرضيته المركزية على دلائل تاريخية متفرقة تشير إلى وجود صلات وتفاعلات قديمة بين مصر واليونان، ومن ثم بينها وبين أوروبا، وريثة للعقل اليوناني.
ولأسباب مفهومة، يتذبذب الكاتب في تعريف (الشرق)؛ ففي مواضع يضمّ تحت هذا المفهوم الفرس والعرب، وفي أخرى يقتصر على الصيني والهندي والياباني.
لكن الثابت هو وجود (شرق) معيّن (غير مرغوب فيه) كان طه حسين يسعى جاهداً لفصل مصر عنه ذهنياً وروحياً، وربطها بدلاً من ذلك بالأسرة الأوروبية الغربية المطلة على (بحر الروم).
وعلى الرغم من تفريقه بين (شرق جغرافي) و(شرق ثقافي وحضاري)، إلا أن مركز التحديد في ذهنه يتغير أحياناً، ما يؤدي إلى اتساع أو انكماش حدود الموضوع حسب السياق أو الحاجة التي تقتضيها الفكرة والرسالة.
لا ينكر طه حسين أن مصر خضعت لفترة من الزمن للغزو الفارسي، لكنه يؤكد أن هذا الغزو لم يطمس الشخصية المصرية، التي يقول إن ملامحها الأساسية قد تحددت بالمكان والظروف الطبيعية منذ زمن أقدم بكثير، ولم يجعل هذا الغزو من الحضارة المصرية حضارة شرقية.
وعند تناوله للفتح العربي الإسلامي، يعرض طه حسين رأيه بلباقة وأناة، لكنه لا يتردد في مساواته بالغزو الفارسي والروماني، وإن بصيغة ألطف ونبرة أكثر تحفّظاً.
كانت هذه المقارنة في حينها تتطلب جرأة فكرية غير مألوفة، لأنها تضع الفتح الإسلامي على قدم المساواة مع غزوات أجنبية سابقة، وهذا يعني مساواته بها أخلاقياً.
ما كان يريده طه حسين هو إقناع القارئ بأن مصر لم تكن شرقية في جوهرها قبل الإسلام، ولم تصبح كذلك بعده، وأن هناك عقلية مصرية، وجوهر مصري خالد، يستقبل المؤثرات الخارجية إما برحابة صدر أو على مضض، ويمتص ما يحتاجه منها ويدمج عناصره في كيانه الخاص الذي لم يكن شرقياً قط.
وكما أن المسيحية الوافدة من الشرق إلى أوروبا لم تجعل من الأوروبيين شرقيين، فكذلك الإسلام العربي الوافد من الشرق الجغرافي إلى مصر لم يجعل من المصريين شرقيين على وجه الحصر.
يقول: «إذا صح أن المسيحية لم تمسخ العقل الأوروبي، ولم تخرجه عن يونانيته الموروثة، ولم تجرِّده من خصائصه التي جاءته من إقليم البحر الأبيض المتوسط؛ فيجب أن يصح أن الإسلام لم يغير العقل المصري، أو لم يغير عقل الشعوب التي اعتنقته والتي كانت متأثرة بهذا البحر الأبيض المتوسط، بل يجب أن نذهب إلى أبعد من هذا فنقول مطمئنين إن انتشار الإسلام في الشرق البعيد وفي الشرق الأقصى قد مد سلطان العقل اليوناني وبسطه على بلادٍ لم يكن قد زارها إلا لماماً، ولم يستطع أن يستقر فيها استقراراً متصلاً إلا بعد أن استقر فيها الإسلام».
ويذهب إلى أن الإسلام كدين شأنه شأن المسيحية قد اتصل وتفاعل مع الفلسفة اليونانية بشكل إيجابي فأخذ منها وأخدت منه، وانتشرت معه إلى أنحاء مختلفة من الشرق والغرب: «وأغرب من هذا أن بين الإسلام والمسيحية تشابهاً في التاريخ عظيماً، فقد اتصلت المسيحية بالفلسفة اليونانية قبل ظهور الإسلام فأثرت فيها وتأثرت بها، وتنصرت الفلسفة، وتفلسفت النصرانية، ثم اتصل الإسلام بهذه الفلسفة اليونانية فأثر فيها وتأثر بها، وأسلمت الفلسفة اليونانية وتفلسف الإسلام.
وتاريخ الديانتين واحد بالقياس إلى هذه الظاهرة، فما بال اتصال المسيحية بالفلسفة يجعلها مقوماً من مقومات العقل الأوروبي، وما بال اتصال الإسلام بهذه الفلسفة نفسها لا يجعله مقوماً من مقومات هذا العقل؟».
لكنه كان يرى أن السمة الغالبة على علاقة العقل المصري بالعقل الشرقي هي الخصام والتنافر، بينما كانت السمة البارزة في علاقته بالعقل اليوناني الغربي علاقة اتصال وتعاون وتوافق وتبادل مستمر منظم للمنافع.
وهو لا يحاول إخفاء غرضه تحت شعار ضرب من النزعة العلمية المجردة، فمن الواضح أنه يكتب متأثراً بعاطفة وطنية إصلاحية تنويرية، ومدفوعاً بهواجس وهموم تلك الحقبة، فهو يطمح إلى تسريع التحاق مصر بركب الحضارة الأوروبية، وهذا لن يتحقق من وجهة نظره إلا بإقناع المصريين أن يسيروا في حياتهم سيرة الأوروبيين.
ومع أن مصر حينها كانت قد قطعت شوطاً لا بأس به في اقتفاء أثر الحضارة الأوروبية، إلا أن طه حسين يلتفت متحسراً إلى أن الممانعة النظرية (العقلية) كانت رغم ذلك لا تزال على أشدها: «والغريب أنا نسير هذه السيرة (سيرة الأوروبيين) ونذهب هذا المذهب في حياتنا العملية اليومية، ولكننا ننكر ذلك في ألفاظنا وعقائدنا ودخائل نفوسنا، فنتورط في نفاقٍ بغيض لا أستطيع أن أسيغه ولا أن أسكن إليه، إن كنا صادقين فيما نعلن ونسرُّ من بغض الحياة الأوروبية؛ فما يمنعنا أن نعدل عنها عدولاً ونصد عنها صدوداً ونطَّرحها اطِّراحاً؟
وإن كنا صادقين فيما نقدم عليه كل يوم وفي كل ثني من أثناء حياتنا العملية من تقليد الأوروبيين ومجاراتهم؛ فما يمنعنا أن نلائم بين أقوالنا وأعمالنا وبين آرائنا وسيرتنا، فإن هذا النفاق لا يليق بالذين يكبرون أنفسهم ويريدون أن يرتفعوا بها عن النقائص والدنيات؟».
صدر هذا الكتاب بعد عامين من توقيع مصر (معاهدة الشرف والاستقلال) (1936م)، التي علق المصريون عليها آمالاً كبيرة لتحقيق سيادة واستقلال.
غير أن الواقع كان مختلفاً، ومن هنا جاءت رسالة طه حسين للتذكير بأن الاستقلال السياسي وحده لا يكفي، ولا يُعتد به إذا لم يُترجم إلى نهضة فعلية وانفتاح على أسباب التقدم.
ففي تصوره، لا فرق بين الاستعمار الأجنبي الذي يُقيِّد، وبين القوى المحلية التي -باسم الأصالة أو الدين أو الهوية- تعزل البلاد عن العالم وتمنعها من الأخذ بأسباب الرقي.
الاستقلال -في عُرفه وهو محق- ليس غاية، بل وسيلة إلى حياة أكمل؛ فإن لم يتحقق من خلاله الالتحاق بركب الحضارة، فوجوده وعدمه سواء.
وكان طه حسين قد كتب عام 1933م، مقالاً أنكر فيه على عباس العقاد مفاضلته بين اللاتين والسكسون كعرقين وثقافتين، وترجيحه لثقافة السكسون (ممثلة في بريطانيا) على ثقافة اللاتين (ممثلة في فرنسا).
رغم ميول طه حسين اللاتينية الفرانكفونية؛ إلا أنه لم يستصوب المفاضلة على هذا النحو الفج بين الثقافات، وحجَّته حينها أن «الثقافات كلها قيمة خصبة وأن المنفعة الصحيحة منها إنما تتحقق عندما نأخذ منها جميعاً بحظوظ مختلفة فلا نكون أسرى الإنجليز ولا أسرى الفرنسيين ولا أسرى الألمان، وإنما نكون مصريين قبل كل شيء يأخذون بحظهم من الثقافات الحية حسب أمزجتهم ومنافعهم وحاجاتهم وطاقاتهم».
كان هذا موقفاً حكيماً من طه حسين الذي دعا في مقالته تلك إلى جعل مدارس وجامعات مصر ملتقى رحب لأعظم حظ ممكن من الثقافات.
لكنه في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر)، وكما ذكرنا، بدا العميد وكأنه يأبى على العقل المصري أن يغتذي من مائدة غير المائدة الغربية الأوروبية، وهو بهذا يخون موقفه الحكيم السابق الرافض للمفاضلة بين الثقافات والحضارات والداعي إلى الأخذ منها كلها بلا استثناء حسب المزاج والمنفعة والحاجة والطاقة.
وقد عاب جورج طرابيشي على طه حسين خلطه -سيما في كتابه المذكور- بين التحديث والتغريب والأوربة التي تعني التماهي الكامل مع أوروبا،
فإذا كان (التحديث) مفهوم أغنى وأخصب وأوسع وأعمق من مفهوم التغريب، فإن (التغريب) أحادي المرجعية وإلزامي النموذج.
خلاصة القول: إن (مستقبل الثقافة في مصر) ليس مجرد نص فكري يحدد موقع مصر بين الشرق والغرب، بل هو وثيقة تاريخية تكشف عن قلق جيلٍ بأكمله إزاء سؤال النهضة والهوية.
طه حسين كتب بروح إصلاحية متحمسة، أراد بها أن ينتشل بلاده من أسر التقاليد المعيقة إلى أفق الحداثة، لكنه وهو يفعل ذلك وقع في أسر النموذج الأوروبي وجعله معياراً أوحد للتقدم.
وبينما يظل الكتاب علامة بارزة في مشروع التنوير العربي، فإنه يثير اليوم سؤالاً لم يزل مفتوحاً:
كيف يمكن للأمم أن تنجز تحديثها دون أن تقع في التماهي مع الآخر أو في الانغلاق على الذات؟

ذو صلة