يُعرّف المراسل الثقافي بأنه الشخص الذي يغطّي الأحداث والفعاليات الثقافية ويرصد الحراك الأدبي والفني في مجتمع ما أو في مدينة معينة. غير أن دوره لا يقتصر على الإخبار والتغطية بل يتجاوز ذلك إلى التحليل والتفسير وتقديم سياق الأحداث الثقافي والاجتماعي. إن مهمته تقوم على إقامة صلات مع المثقفين والفنانين والمؤسسات الثقافية ثم نقل هذه الصورة إلى الجمهور في صياغة تجمع بين الإخبار والتحليل. ومن هنا فإن تجربة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب (1926 - 1964) مراسلاً ثقافياً تكتسب دلالة خاصة، إذ جاءت في مرحلة متأخرة من حياته، بعد أن أنهكه المرض وضاق به الحال المادي لتكون أقرب إلى محاولة مواصلة الحضور الثقافي على الرغم من انكسارات جسده ووظيفته.
في أيلول 1962 عاد السياب إلى البصرة بعد أن تدهورت صحته ثم سافر إلى لندن للعلاج، حيث سجّل طالباً في جامعة أوكسفورد بهدف الحصول على الدكتوراه، غير أنّ محاولته لم تكلل بالنجاح. انتقل بعدها إلى جامعة درم في بريطانيا، ثم إلى باريس في آذار 1963 قبل أن يعود إلى العراق على كرسي متحرك. وبعد أسبوعين من وصوله فقط فُصل من الخدمة الحكومية بدءاً من نيسان 1963 بسبب غيابه الطويل ليجد نفسه بلا عمل ولا مورد ثابت. في تلك الفترة أتته فرصة العمل مراسلاً ثقافياً لمجلة (حوار) البيروتية التي كان يشرف على تحريرها الشاعر توفيق صايغ، وهكذا بدأ يكتب تقارير عن الحركة الأدبية في العراق لقاء مبلغ مالي متواضع، وهو ما مكّنه من سدّ بعض حاجاته. عاد لاحقاً إلى وظيفته في مصلحة الموانئ في تموز 1963 لكن يمكن القول إن تلك الأشهر القاسية هي التي شهدت ولادة تجربة المراسلة الثقافية لديه.
رسالتا السياب الثقافيتان
نشرت مجلة (حوار) أول رسالة ثقافية للسياب في عددها السادس (تشرين الأول 1963)، ثم نشرت رسالته الثانية في نيسان 1964 أي في الوقت الذي كان فيه الشاعر طريح الفراش إثر إصابته بالتهاب رئوي حاد وتفاقم مرض التصلب الذي أصاب نخاعه الشوكي وأدى إلى شلله. يطرح هذا الأمر تساؤلاً: كيف أمكن لرجل مريض عاجز عن الحركة أن يواكب النشاطات الثقافية في العراق؟ يبدو أن السياب اعتمد على شبكة علاقاته الأدبية الواسعة في البصرة وبغداد فكان يتلقى أخبار الأمسيات والكتب الجديدة عبر الأصدقاء والمهتمين وربما وصلت إليه نصوص أو ملاحظات مكتوبة حوّلها إلى تقارير. كما أن طبيعة عمله لم تكن تتطلب حضوره المباشر لكل فعالية بل تقديم صورة عامة وانطباعات نقدية عن الوسط الثقافي وهو ما استطاع إنجازه بالاعتماد على الذاكرة والقراءة والتحليل.
لم يكن دور السياب أشبه بالصحفي الإخباري المحايد بل أقرب إلى المحلل الثقافي الذي يدمج الخبر بالقراءة النقدية، فقد كتب عن الحركة الشعرية الحديثة والمؤتمرات الأدبية والكتب الجديدة التي صدرت في العراق، كما ربط بين ما يجري في بغداد من سجالات والتيارات الفكرية والأدبية في العالم العربي والعالم، فناقش الواقعية الاشتراكية والأدب الوجودي وأبدى آراءه في قضية الالتزام الأدبي. لقد تحولت مراسلاته إلى منبر يكشف خلاله موقفه من القضايا الأدبية والفكرية أكثر مما كانت تغطية إخبارية محضة.
أتاحت مجلة (حوار) للسياب أن يمدّ صلته بالمشهد الثقافي العربي في خارج العراق، إذ كان ينشر إلى جانب رسائله بعض قصائده الشهيرة مثل (من ليالي السهاد) و(رحل النهار) و(إرم ذات العماد)، فتعرف إليه قرّاء من مصر ولبنان وسوريا، غير أن هذه المجلة ستثير بعد وفاته جدلاً واسعاً حين انكشف العام 1966 أنها كانت ممولة من منظمة مرتبطة بالمخابرات الأمريكية لم يكن السياب على علم بذلك على الأرجح فقد كان مشغولاً بصراعه مع المرض والفقر وهو في أمسّ الحاجة إلى دخل يقي أسرته الفاقة.
بين الحياد والانحياز
تكشف مراسلات السياب عن مفارقة لافتة فمن جهة نجح في تقديم صورة بانورامية عن واقع الأدب العراقي بعد الانقلاب الدموي في 8 شباط 1963 والذي يسميه ثورة 14 رمضان! وذكر أسماء الشعراء والكتب والمجلات وناقش قضايا النشر والرقابة. ومن جهة أخرى لم يكن محايداً في عرضه، إذ أظهر انحيازاً واضحاً ضد الأدباء اليساريين، فوصف بعض أعمالهم بأنها إلزامية أو هلوسة، وربط أسماء مثل عبدالوهاب البياتي وسعدي يوسف ورشدي العامل بالخيانة السياسية. في المقابل بدا متعاطفاً مع التيار القومي فعده أكثر صدقاً في التزامه. هذه اللغة الحادّة تجعل من رسائله أقرب إلى المقالة النقدية الموجهة إلى التقرير الصحفي البارد.
قوة التجربة وضعفها
تكمن قوة تجربة السياب في خلفيته الثقافية الواسعة التي مكّنته من قراءة الظواهر الأدبية بعمق وفي قدرته على الربط بين المحلي والعربي وإعطاء صورة شاملة عن الوسط الأدبي العراقي لكنه افتقر في المقابل إلى بعض مقومات العمل الصحفي المهني مثل الاعتماد على مقابلات مباشرة أو حضور الفعاليات الميدانية، كما أن أسلوبه الاستطرادي جعله يكتب نصوصاً طويلة أقرب إلى المقالات الفكرية منها إلى التقارير الصحفية المكثفة.
يروي الدكتور إحسان عباس في كتابه (بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره) أن السياب قبل مهمة مراسلة مجلة (حوار) بتشجيع من صديقه سيمون جارجي بعد أن طمأنه أن المنظمة العالمية لحرية الثقافة وافقت على ذلك. ويضيف عباس أن السياب لم يكن في وضع يسمح له برفض هذا العرض فقد كان مفصولاً من عمله الحكومي ومثقلاً بالمرض. ويورد أن السياب كتب في رسالة له أن ما يعادل أربعمئة ليرة لبنانية في الشهر يكفيه ليعيش مع أسرته عيش الكفاف، ثم ذكر لاحقاً أنه تسلّم صكاً بأربعين دولاراً لقاء عمله مراسلاً للمجلة. يتضح من هذا أن الدافع المادي كان أساساً في قبوله المهمة أكثر من الحماسة الصحفية أو الرغبة في خوض التجربة.
نقد التجربة وتقييمها
عند قراءة الرسالتين اللتين نشرتهما (حوار) نلمس أن السياب ركّز على نشاطات بغداد الثقافية ولم يتطرق إلا عرضاً إلى البصرة سوى إشارته إلى صدور مجموعة قصصية لإحسان وفيق السامرائي، كما أورد محاضرة لزميلته نازك الملائكة في القاهرة وهي ليست حدثاً عراقياً محلياً، ما يؤكد على أن مفهوم (المراسلة) عنده كان مرناً وغير مرتبط بحدود المكان، وقد رأى الشاعر شاكر لعيبي أن هذه الرسائل تمثل أسوأ ما كتب السياب نثراً لأنها مشبعة بالأيديولوجيا والمصالحات وتفتقر إلى العمق الشعري الذي ميّز قصائده، وخلص إلى أن السياب الشاعر كان يذهب إلى الجوهري بينما السياب المراسل انشغل بالمصالح والتوازنات.
لا يمكن فصل تجربة السياب الصحفية عن سياقها الصحي والنفسي فقد كتب هذه الرسائل وهو منهك بالمرض يعيش على هامش الحياة اليومية ويحاول أن يثبت حضوره الثقافي على الرغم من عجزه الجسدي.
المرض جعله ميالاً إلى الاستطراد والتحليل النظري وأبعده عن الطابع الميداني المباشر ثم جاء الموت سريعاً فأوقف التجربة قبل أن تكتمل. توفي السياب في الكويت في كانون الأول 1964 وقد خصصت مجلة (حوار) بعد وفاته ملفاً خاصاً كرّمه فيه عدد من الشعراء والنقاد العرب.
لا يمكن وصف السياب بالمراسل الفاشل فمراسلاته، وإن لم تبلغ المعايير الصحفية الكاملة من حياد واستقصاء ميداني، تركت وثائق غنية عن المشهد الثقافي العراقي في مطلع الستينات. لقد كتب بصفته شاعراً ناقداً أكثر منه صحفياً فجاءت نصوصه مزيجاً من المقالة الفكرية والتحليل الأيديولوجي. صحيح أنها افتقرت إلى الطابع الميداني لكن قيمتها تكمن في توثيقها حالة ثقافية وسياسية وكشفها عن شاعر يكتب على عتبة الموت ممزقاً بين إبداعه الشعري وحاجته المادية.
السياب والحرب الباردة
لقد أثار الباحث الفرنسي إليوت كولا جدلاً حين كتب مقالة بعنوان (بدر شاكر السياب شاعر الحرب الباردة) رأى فيها أن مراسلات السياب لم تكن تقارير أدبية محض بل تدخلت في سياق الحرب الباردة الثقافية. اعتبر كولا أنّ السياب وجد نفسه مجنَّداً في معركة أيديولوجية لم يخترها بكامل إرادته بل فرضتها ظروف فقره ومرضه، ومع ذلك فإنّ مقالاته تكشف عن وعيه بالدور الذي يؤديه بل واستمتاعه أحياناً بمهاجمة خصومه الأيديولوجيين.
إن تجربة السياب مراسلاً ثقافياً لمجلة (حوار) تجربة قصيرة ومبتورة لكنها تضيء جانباً مهمّاً من سيرته، فقد مثّلت محاولة اندماج في الوسط الثقافي العربي الأوسع، وفي الوقت ذاته كشفت عن حدود المراسل الثقافي حين يكون شاعراً عليلاً مثقلاً بالهموم. لقد أعطت رسائله صورة عن الثقافة العراقية في مرحلة انتقالية صاخبة لكنها أظهرت انحيازاته ومواقفه الشخصية أيضاً. وهكذا يظل السياب في هذه التجربة أقرب إلى (الأديب الصحفي) الذي يوظف الأدب في خدمة موقفه لا إلى المراسل المحايد الذي ينقل الوقائع ببرود، ومع ذلك فإن هذه النصوص بما تحمله من ضعف وقوة تظلّ جزءاً من إرثه الثقافي، وشاهداً على شاعر قاوم المرض بالعطاء، وحاول أن يجعل من الصحافة الثقافية امتداداً لصوته الشعريّ قبل أن يطفئه الموت مبكراً.