ولد حنا مينه في اللاذقية في 9 مارس آذار 1924، إنْ كان أحد والديه قد سجّل تاريخ ولادته، وهو أمر مشكوك فيه. فالراجح في القاع الاجتماعي الذي تنتمي إليه هذه الأسرة ألّا يتم تسجيل الولادات بدقة، فتترك الأرقام للذاكرة أو لتقدير الموظف الذي يقوم بالتسجيل، ربما عندما يكون الوليد قد صار فتى. وقد استمر هذا الأمر في سوريا حتى منتصف القرن الماضي. وها هو حنا مينه، كما ينقل عنه المؤرخ عبدلله حنا، أنه كان في السادسة عشرة عندما هرب من إسكندرون إلى اللاذقية في سبتمبر أيلول 1939، وبذلك تكون ولادته في عام 1923.
على السجلات الرسمية إذن هي العهدة، وبذلك تكون مئوية حنا مينه قد حلت في التاسع من مارس - آذار 2024. وكان قد رحل عن أربعة وتسعين عاماً في 21 أغسطس - آب 2018، أورثنا فيها ثمان وثلاثين رواية، ومجموعة قصصية واحدة، وعشرة كتب أخرى. وإذا كانت رواياته -ولما تزل- موضع النقد، وكذلك الترجمة، فقد كانت مفخرة حنا مينه الكبرى التي طالما رددها أن نجيب محفوظ، بعد نيله جائزة نوبل، رشّح حنا مينه للجائزة، ولم يرشح سواه.
بالنسبة لي، قدمت مساهمة صغيرة متواضعة في دراسة روايات حنا مينه، أو الحديث عن تجربته. ولذلك سأحتفل بمئويته باستذكار ما كان من علاقتنا، وما كان له ولرواياته في روحي. وأبدأ بلقائنا الأول وجهاً لوجه عام 1972. وكانت قد صدرت لي في مطلع ذلك العام رواية (السجن) عن دار الفارابي اللبنانية، وهي دار الحزب الشيوعي اللبناني. ومن المعلوم أن حنا مينه انخرط في شطر من شبابه في الحزب الشيوعي السوري قبل أن ينأى عنه تنظيمياً، دون أن يغادر الشيوعية روحياً وفكرياً قط. وقد نقل عنه المؤرخ عبدالله حنا أنه هو من أسس الخلية الشيوعية الأولى في مدينة اللاذقية عام 1940 مع عبدالجليل سيريس الذي حضر من حلب من أجل ذلك، وقدمت رواية حنا مينه (الفم الكرزي) صياغتها لهذه المرحلة من حياته.
في مطلع عام 1972 انتقلت من الرقة إلى حلب، مدرساً في ثانوياتها. وقد أرسلت بالبريد نسخة من رواية (السجن) هدية إلى الشاعر وصفي البني (1912 - 1983). وسرعان ما تلقيت منه رسالة تحيّي الرواية وتدعوني إلى زيارته عندما أحضر إلى دمشق. وقد كان ذلك في مطلع الصيف. ولا أنسى ذهولي وأنا أتأمل هذا الستيني الذي كان في نهاية ثلاثينات القرن الماضي عَلَماً في (عصبة العمل القومي)، ورئيس تحرير الجريدة الناطقة باسمها (العمل القومي)، ثم صار قائداً شيوعياً. وسوف يكون له ظل مكين في إحدى شخصيات روايتي (التيجان) - الجزء الثالث من (مدارات الشرق).
اقترح وصفي البني أن يعرفني على حنا مينه، فأسرعنا إلى مبنى وزارة الثقافة، حيث كان الكاتب الشهير خلف طاولة، وبجواره خلف طاولة أخرى نجاح العطار، وفي الغرفة المقابلة لغرفتهما أنطون مقدسي، والثلاثة كانوا كادر مديرية التأليف والترجمة والنشر.
غمرني اللقاء بالبهجة، ولم أصدق أذنيّ وأنا أسمع حنا مينه يحدّث زميلته عن هذا الكاتب الشاب - كنت في السابعة والعشرين - الذي نشر روايته الأولى (ينداح الطوفان) منذ سنتين، ومنذ شهور نشر الرواية الثانية (السجن). ووجدتني أتأتئ وأنا أحدثهم عما كان منذ سنتين في الرقة، عندما تحدث حنا مينه عن روايتي الأولى في برنامجه الإذاعي في إذاعة دمشق، فصارت الرواية وصرتُ حديثَ المدينة.
بعد شهور أقيم في حلب مهرجان للقصة القصيرة، حضره حنا مينه وزكريا تامر وسواهما، ومن حلب وليد إخلاصي وجورج سالم وسواهما. ولا أدري كيف وجدتني أهمس لحنا مينه بالدعوة إلى العشاء والسهرة في منزلي، فاعتذر بالمواعيد الرسمية، واقترح أن أدعوه إلى الفطور الصباحي.. يا لفرحتي!
في الفراندة المطلة على جامع الميدان جلسنا أخيراً لتناول القهوة، وكانت تغفو على الترابيزة مجلة روز اليوسف التي كانت تنشر رواية (الشمس في يوم غائم) مسلسلةً. وحين أزاحت سميعة بركات (زوجتي) المجلة بادرها بالسؤال عما إذا كانت تقرأ فيها روايته. ولما أجابت بالإيجاب عاجلها بالسؤال عن رأيها فيما تقرأ، فأسقط في يدي حين قالت غير هيّابةٍ ولا وجلة: لم تعجبني حتى الآن.
لا أذكر كيف مضى الوقت إلى أن وقفت بجانبه على رصيف الجامع بانتظار تاكسي تعود بضيفي إلى الفندق، وإذا به يخاطبني: أنت يا نبيل مثل ابني، وخذها مني نصيحة: إياك أن تأخذ برأي زوجتك. ليس للرجل أن يأخذ برأي زوجته.
تعددت لقاءاتنا من بعد خلال أكثر من أربعين سنة، أكثرها في دمشق، ومنها في تونس ما لا يُنسى: لقاء كان فيه ثالثنا سهيل إدريس، وفي الطريق من تونس إلى قابس كانت الاستراحة الأولى في القيروان في بار، وحنا مينه (بارمان) بامتياز، ولا ننسى شخصية البارمان في رواياته. في لقاء آخر في ندوة نظمها مركز الرواية العربية في مدينة قابس أيضاً، خُصصت الجلسة الختامية للقاء حنا مينه مع الجمهور. وكنت قبيل ذلك قد كتبت في مجلة (الجديد) الأردنية المحتجبة عن كلاسيكية روايات حنا مينه، وإذا به في جواب على سؤال من أحدهم يصرح أنه جرب الحداثة في (المسراوية) كرمى نبيل سليمان، ولكي لا يظل يقول: حنا كلاسيكي فقط.
أما المفاجأة في لقاءاتنا فقد كانت في عمّان التي سبقته إليها عشية ندوة نظمتها رابطة الكتاب الأردنيين. ولما حلّ في الفندق كان غاضباً لأن أحداً من الجهة الداعية والمنظمة لم يكن في استقباله على الحدود البرية، ولا حتى في الفندق. ولم تنفع محاولات تهدئته، وفجأة قرر أن يعود إلى دمشق، وقد عاد.
ليست كل اللقاءات السابقة بالأهم. فالأهم هي اللقاءات مع حنا مينه في رواياته، وأولها كان مع رواية (المصابيح الزرق) التي صدرت عام 1954. وكنت في سنة البكالوريا الصناعية (1962) قد صادفت الرواية في مكتبة المركز الثقافي. وسحرني أن الخان الذي تتوزع الأسر غرفه هو ها هنا، على بعد مئتي متر من الغرفة التي سكنت فيها في حي القلعة منذ سنتين، مع زميلين آخرين: ثلاثة طلاب في الصف الأول الثانوي في ثانوية الصناعة، وكل طالب يدفع خمس ليرات أجرة الغرفة، أي ما يعادل أقل من دولارين.
هذا إذن كان الشاب فارس، وأم فارس، وأبو فارس، والصبية رندة التي عشقها فارس، هنا كانت مريم السودا وزوجها نايف الفحل من سكان الخان وشخصيات الرواية. هذا كيدون الأرمن وهذه هي الكنيسة، وهذا هو القندلفت بشارة، وغير بعيد هو الفرن حيث توزيع الخبز بالبطاقة، وحيث الزحام أمام الفرن، فهل نحن في سنوات الحرب العالمية الثانية، أم نحن في اللاذقية هذا اليوم من سنة 2024، كأن ثمانين سنة لا تفصلنا عن زمن الرواية؟
في أول شارع المالكي الذي كان اسمه شارع فرنسا، في بداية مشواري اليومي من القلعة إلى البحر، كان ثمة الحلاق الذي لم أبدله حتى عندما ابتعدت عن الحي. وأنّى لي أن أصدق أن حنا مينه عمل ها هنا حلاقاً، ثم صار كاتباً، وله هذه الرواية الساحرة: (المصابيح الزرق)!
سنوات ثلاث كانت دراستي في الثانوية الصناعية (1959 - 1962). وكانت في مبتدأ الحارة التي ستهب حنا مينه روايتين. إنها حارة الشحادين، وباسمها تعنونت رواية عام 2000، ومنها جاءت الرواية التالية في السنة التالية (صراع امرأتين).
حارة الشحادين الشعبية صار اسمها الرسمي حي الأشرفية، ولم يبق من قديمها إلا القليل، إذ تبدد أغلب الأزقة الضيقة والقناطر، ونجا جامع الضحى. حسناً. لم تكن حديقة أبي تمام ولا مدرسة أبي تمام الابتدائية، ولا الثانوية الصناعية خلفها، لم يكن من ذلك أثر عندما سقطت حكومة فيشي الفرنسية الموالية للنازية، وسقط ظلها في سوريا، واختفى أنصار النازية ذوو القمصان السود من اللاذقية، زمن روايتي حنا مينه (حارة الشحادين) و(صراع امرأتين)، زمن حمداش الكاسر الذي سجنته السلطة الفرنسية، زمن زوجته غنوج الزرقا وعاهرة الضابط الفرنسي التي ستقتله، فتقتلها شكوس عشيقة حمداش، ففي أي ركن من حارة الشحادين كان هذا كله؟
رئة اللاذقية هي ميناؤها الذي سيحضر في روايات حنا مينه في النصف الأول من القرن الماضي. وها أنذا أتشرب رواية (نهاية رجل شجاع) التي صدرت عام 1998، لأرى مراكب الصيادين ومفيد الوحش يدافع عنها، أو يعمل مع الريس بكري الغطاس، أو ينخرط في صراعات الميناء، وهذا العجوز الحاكم بأمره في الميناء، وجاسوسه الزقلوط، وعينه على الميناء: النورس، وهؤلاء رجال حي الشيخ ضاهر ضد رجال الميناء، وهذا بيت مفيد الوحش في البساتين بين السجن والمبغى، بل هذا بيته قرب الميناء وقد فتك مرض السكري بساقيه، وأولاً وآخراً هذا مقهى الميناء، فأين هو إذن المقهى البدائي الذي أقامه في رواية (الشراع والعاصفة 1966) محمد بن زهدي الطروسي على الشاطئ، في جوف صخرة بعد تحطم مركبه (المنصورة)؟
وُلِدَ حنا مينه في اللاذقية. ومنها إلى إسكندرون مضى والده بالأسرة إلى أن ضمّت تركيا لواء إسكندرون بترتيب مع فرنسا، فعاد حنا مينه إلى اللاذقية، وأقام فيها تسع سنوات (1939 - 1948). وإذا كان قد قضى حياته بعد ذلك بعيداً عنها، فقد ظل يعود إليها كلما تسنى له. وها هو أخيراً يرقد في مقبرة الفاروس، وقد تكلل ضريحه برواياته، عندما عزمت على الاحتفال وحيداً بمئويته.