ولد محمد رجاء عليش عام 1932، لعائلة ثرية، يعمل والده بتجارة الذهب بشارع خان الخليلي، التحق بمدرسة منشية البكري الابتدائية عام 1938، وحصل على الشهادة الابتدائية عام 1945 (الدراسة بالمدارس الابتدائية آنذاك سبع سنوات). التحق بمدرسة القبّة الثانوية بنين عام 1945، وحصل على شهادة التوجيهية الثانوية العامة عام 1950 (الدراسة بالمدارس الثانوية آنذاك خمس سنوات). عام 1954 حصل على ليسانس الحقوق جامعة عين شمس. انتقلت الأسرة من حيّ منشية البكري إلى حيّ مصر الجديدة، فقد قام والده بشراء قطعة أرض وبناء عمارة حديثة بشارع محمد فريد، بحيّ مصر الجديدة. في عام 1955 التحق رجاء بمساعدة شقيقه الأكبر محمود، السفير السابق؛ للعمل بديوان عام وزارة الخارجية بميدان التحرير، باحثاً قانونياً. لكن قراءاته المستمرة (كان يمتلك مكتبة كبيرة تضم أكثر من 1200 كتاب)، وتردّده المستمر على دور السينما، والسهر حتى منتصف الليل لمشاهدة الأفلام السينمائية؛ كل ذلك سبّب له الكثير من المشاكل بالعمل، وأرسلت إدارة الشؤون القانونية له أكثر من إنذار بضرورة الانتظام بالحضور للعمل، لكنه لم يستجب، واضطرت إدارة الشؤون القانونية إلى فصله من عمله بديوان وزارة الخارجية عام 1958، لعدم انتظامه بالحضور للعمل، وكثرة غيابه بدون عذر، ودون تصريح له بالإجازة. تُوفي والده، وترك له نصيباً من الثروة يساعده أن يعيش ثريّاً: شقتان تمليك بعمارة مصر الجديدة، وعمارة كاملة عدة أدوار وعدة شقق في حيّ منشية البكري، وقطعة أرض فضاء بمدينة نصر. وبعد وفاة والده بفترة قصيرة تُوفيّت أمّه، كان مرتبطاً بها وتحبّه حبّاً كبيراً، عاش وحيداً مع مكتبته، فأثرّ ذلك على نفسيته تأثيراً سيئاً، وبخاصة بعد سفر الأخ الكبير للعمل بالسلك الدبلوماسي، وزواج أخيه الأوسط وانشغاله بتجارة الذهب، وزواج أخته الوحيدة. انشغل عليش بالقراءة والكتابة، وبدأ يكتب فصول روايته الأولى (لا تولد قبيحاً) بداية عام 1965، وظلّ عدة سنوات يبحث لها عن ناشر، حتى نشرها في بيروت عام 1974، توزيع مكتبة مدبولي، واتصل بخمسة صحافيين، ليكتب أحدهم خبراً عن روايته الأولى، وتمرّ الأشهر دون فائدة، فازدادت غربته وسط المجتمع الذي يعيش فيه. وخلال سنة 1978 كتب روايته الثانية (كلهم أعدائي)، لتنشر في فبراير عام 1979، توزيع مكتبة مدبولي، ثم قام بإهداء عدة نسخ لرؤساء القسم الثقافي بالصحف اليومية آنذاك: الجمهورية، المساء، الأهرام. وفي ظهيرة الثلاثاء 15 مايو عام 1979 ذهب عليش إلى أخبار اليوم وترك نسخة من روايته الثانية: كلهم أعدائي، لمصطفى عبدالله. قرأ مصطفى وصاغ خبراً ونشره مع غلاف الرواية الأسبوع التالي مباشرة (الأربعاء 23 مايو عام 1979) - تظهر صفحة أخبار الأدب بجريدة الأخبار الأربعاء من كل أسبوع. صباح اليوم التالي (الخميس 24 مايو عام 1979) قام عليش بزيارة مصطفى بمكتبه بجريدة الأخبار، ليشكره على نشر أول خبر عن روايته الثانية، وبعد الزيارة أصبح عليش ومصطفى أصدقاء، بدأ عليش يتردّد عليه أسبوعياً، واقترح مصطفى على عليش ضرورة إهداء نسخة من روايته للناقد الأدبي الدكتور نبيل راغب، ولمّا أخبره عليش أنه لا يعرفه، اقترح مصطفى أن يقوم بالتعريف بينهما، وبالفعل ركب مصطفى معه سيارته وانطلقا إلى بيت الدكتور نبيل راغب بحيّ المهندسين بالجيزة، وأهداه عليش نسخة من روايته، قرأها الدكتور راغب وأعجب بالرواية، وصباح الأربعاء 7 يوليو عام 1997 ظهرت صفحة أخبار الأدب بجريدة الأخبار يتصدرها مقال دكتور نبيل راغب عن روايته: (لقد استطاع الأديب رجاء عليش بروايته: كُلّهم أعدائي، أن يكتب شهادة ميلاده الأدبية، وهو روائي يمتلك رؤية فكرية، وفنيّة محدّدة، ومتبلورة، تجاه المجتمع المعاصر بصفة خاصة، والكون بصفة عامة). المقال أدخل البهجة على قلب عليش، وأثناء الحوار أبلغ عليش مصطفى أنّه ينتوي أن يُخصّص جزءاً من ثروته لإطلاق جائزة سنوية للأدباء الشباب لرعايتهم، ورفع الظلم عنهم، حتى لا يتعرضوا للظلم مثله، فاقترح مصطفى أن تكون الجائزة برعاية اتحاد الكُتّاب ورئيسه توفيق الحكيم، أو جمعية الأدباء، قرّر عليش أن تكون الجائزة مناصفة بين صفحة أخبار الأدب بجريدة الأخبار من ناحية وبين جمعية الأدباء واتحاد الكُتّاب من ناحية أخرى، ولأنّ عليش كان محاميّاً، قرّر أن يُوثّق وصيته بالشهر العقاري، صباح اليوم التالي دخل مبنى الشهر العقاري، وكتب وصيته وأودعها بمحضر رسمي، حمل رقم إيداع 2490 لعام 1979، لتأخذ الجائزة طريقها نحو حيّز التنفيذ، وفي الأول من سبتمبر عام 1979 أرسل عليش خطاباً مُسجّلاً بعلم الوصول إلى مقرّ اتحاد الكُتّاب الكائن في 11أ شارع حسن صبري بالزمالك للكاتب توفيق الحكيم بصفته رئيس اتحاد الكُتّاب، قال فيه: أتشرف أنا محمد رجاء عليش، المقيم في شارع محمد فريد مصر الجديدة، بعرض الآتي: لمّا كنت أملك ثروة كبيرة وأرغب رغبة شديدة في أن أسهم بقدر طاقتي في تنشيط الحركة الأدبية في مصر بتيسير سُبل النشر أمام الشبان من أصحاب المواهب الصاعدة؛ فقد عقدت العزم على تخصيص جزء من ثروتي، أوصي به لتحقيق هذه الغاية لكل من جمعية الأدباء واتحاد الكُتّاب مناصفة، والنصف الآخر من المُوصى به إلى صفحة أخبار الأدب بالأخبار، وفيما يلي بيان بهذه الممتلكات التي سأوصي بها: عمارة بمنشية البكري تُدرّ عائداً سنويّاً قدره ألفان وأربعمئة جنيه، وتقدر بحوالي مئة ألف جنيه، وقطعة أرض بمدينة نصر تساوي مئة ألف جنيه تقريباً، ومكتبة بها 1200 كتاب تبرعاً مِنّي لجمعية الأدباء، وحق طبع ونشر كتابيّ: كلهم أعدائي، ولا تُولد قبيحاً. وإنّني على استعداد تام لمقابلة من ترون من أعضاء جمعية الأدباء أو اتحاد الكُتّاب لمناقشة الخطوط العريضة للعملية نحو تحقيق هذه الغاية، وأرجو أن يكون ذلك في أسرع وقت ممكن، وتقبلوا خالص التحية. المُقرّ بما فيه: محمد رجاء عليش.
المنجز الأدبي
أصدر رجاء عليش روايتين: لا تولد قبيحاً، 221 صفحة، دار الوطن العربي للنشر بيروت عام 1974؛ كُلّهم أعدائي، 544 صفحة، دار أسامة للنشر مطبعة الجامعات بالقاهرة، فبراير عام 1979 توزيع مكتبة مدبولي بالقاهرة.
الخروج الغاضب من الحياة
عشرون سنة قضاها عليش وحيداً وسط جدران بيته بعد صدور قرار فصله من العمل بديوان عام وزارة الخارجية، من عام 1958 وحتى عام 1978، بدون زميل أو صديق أو أخ أو أخت أو أب أو أم، أو زوجة أو ابن أو ابنة. عاش عليش عشرين سنة وحيداً، دون أن يتكلم مع أحد، فأصيب بالاكتئاب الشديد، وبحسب تصريح دكتور أحمد عكاشة أستاذ الطب النفسي بجامعة عين شمس بالقاهرة: إنّ الاكتئاب عندما يصل إلى مرحلة متقدمة، يبدأ المكتئب يُفكّر بالخلاص من حياته، يبدأ يُفكّر بطريقة للانتحار، تماماً مثلما فعل الروائي الأمريكي إرنست همنجواي عندما أطلق رصاص مسدسه على رأسه، سار عليش على نفس طريقة تفكير همنجواي، ذهب إلى قسم شرطة مصر الجديدة، قدّم طلباً للحصول على مسدس مرخص، حصل على الرخصة وقام بشراء المسدس، وبدأ يتدرب على إطلاق النار بصحراء مدينة نصر، وجاءت لحظة النهاية كما تخيّلها خيري حسن بمقاله (14 سبتمبر 2019، بجريدة روز اليوسف): بعد منتصف الليل، الساعة الواحدة والنصف فجر السبت 21 أكتوبر عام 1979، قاد رجاء عليش سيارته بنفسه، وتوقف أمام العمارة رقم 16 بشارع بغداد بحيّ مصر الجديدة، شمال القاهرة، ثم أطلق أربع رصاصات من مسدسه الشخصي المرخص عيار 38 على نفسه، لم تنفذ منها إلّا رصاصة واحدة اخترقت رأسه، من الجهة اليسرى، فحولتها إلى أشلاء مبعثرة داخل سيارته مازدا حمراء موديل 1978 التي تحمل رقم 71760 ملاكي القاهرة، وترك بتابلوه السيارة خطابين: الأول للنائب العام أو لمن يهمه الأمر، والثاني لرجال الشرطة.
الوصيّة بين رفض الأسرة وساحة المحكمة
بعد وفاة رجاء عليش التراجيدية، أسرع ورثة الأديب الراحل إلى محكمة جنوب القاهرة يطالبون ببطلان وصيّة الأديب، وقالوا إنّه كتب هذه الوصية وهو في حالة نفسيّة لا تؤهله بالتبرع، وأنّه طول عمره كان يُعاني الانطواء والاكتئاب، وأنّه تمّ فصله من عمله بديوان وزارة الخارجية لهذه الأسباب، وباشر صبري العسكري المحامي بصفته مستشاراً قانونيّاً لاتحاد الكُتّاب، ودفع بالطعن على كل ما قدمه ورثة رجاء عليش، وأثبت العسكري، أن رجاء عليش كان متفوقاً بدراسته، بدليل حصوله على ليسانس الحقوق واجتيازه الاختبارات التي أهلته للتعيين بديوان وزارة الخارجية، وأنّ واقعة الفصل جاءت نتيجة الغياب المُتكرّر بدون عذر أو عدم التقدم بإجازة، ولم يفصل لمرض نفسي أو لأنه مجنون، وأنّ الكتابين اللذين ألفهما؛ على درجة من النضج الفكري والثقافي، ويؤكدان موهبته الأدبية، ودفع أنّ صفة الوحدة والعزلة صفتان لازمتان لأي أديب ليتفرغ للقراءة والكتابة، وأنّ الأفكار التي وردت بين صفحات الكتابين تؤكد نضجه الفكري ولا تدل على جنونه، وأنّ الطريقة التي اختارها لموته كانت صرخة احتجاج ضد المجتمع، هكذا اطمأنت المحكمة إلى سلامة أوراق القضية والكلام لا يزال على لسان صبري العسكري المحامي، وصدر حكم محكمة الاستئناف بتأيّيد حكم أول درجة، ثم أقام اتحاد الكُتّاب دعوى طلب فيها الحكم بتعيين هيئة أمناء الاستثمار بالبنك الأهلي المصري لتنفيذ الوصية، ويقول صبري العسكري المحامي في حواره مع إبراهيم عبدالعزيز مدير تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون: بعد ذلك لم أتابع ما تمّ في تلك الدعوى، ولم أتابع الطعن أيضاً الذي رفعه ورثة الأديب عن حكم محكمة الاستئناف أمام محكمة النقض، لأنني اعتذرت عن الاستمرار في مباشرة قضايا اتحاد الكُتّاب لظروف صحية، وبالنهاية باشر محامي آخر لاتحاد الكُتّاب هذه القضية... ومع شديد الأسف لم يكن هذا المحامي في مستوى الخبرة القانونية للكاتب صبري العسكري المحامي، فخسر اتحاد الكُتّاب قضية وصيّة رجاء عليش أمام محكمة النقض.
صدرت رواية: لا تولد قبيحاً، دار الوطن العربي للنشر بيروت عام 1974، وينهض البناء الفنّي في الرواية بتقنية الراوي العليم المهيمن على سرد الأحداث بالفعل الماضي. بينما يأخذ الصراع في رواية لا تولد قبيحاً عدة أشكال تراجيدية دراماتيكية حتى تَحوّل الصراع إلى مأساة إنسانية بالنهاية: الصراع الأول: صراع نفسي بين بطل الرواية وملامح وجهه القبيحة من ناحية، والمجتمع الذي يرفض ملامح وجهه من ناحية أخرى، طول الوقت يُواجه الناس في الشارع، في الحافلات، في العمل، تتأمل الناس ملامحه بقسوة وتُحاسبه على شكل لم يختاره، ونتيجة الصراع النفسي نجد بطل الرواية يتقوقع داخل ذاته في محاولة للاحتماء المستمر من التنمرّ.
الصراع الثاني: صراع نفسي مع الفتاة التي تحبّه، هو دائماً لا يثق في نفسه، أو يصدق أن فتاة جميلة يمكن أن تحبّه، ويستمر صراعه النفسي طويلاً، لكن الفتاة تُشجّعه على المواجهة، أن يتحدى الجميع.
الصراع الثالث: صراع الوجع الإنساني الذي يُواجهه بطل الرواية وحيداً، وبكل هدوء راح يُفكّر ويضع خطة الانتحار، ونتيجة هذا العذاب المستمر، بدأ بطل الرواية يُخطّط للنهاية.
سجلت رواية لا تولد قبيحاً فصول البداية والنهاية في حياة مؤلفها رجاء عليش، كان صادقاً مع نفسه، واجه مشكلته بشجاعة نادرة، طيلة عشرين عاماً وهو يتعذّب، لم يلتفت إليه أحد، ولم يسمع صوت صراخه الداخلي أحد، ورغم أنّه كتب سيناريو خطة الانتحار خلال سنوات 1965: 1970، فترة كتابة روايته الأولى، إلا أنّ أحداً لم يقرأ أوجاعه، فكتب صرخته الروائية الثانية: كلهم أعدائي، ليدين المجتمع كله، وقرّر أن يرحل غاضباً وصارخاً ومُحتجّاً.