مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

القيم المتجذرة.. كيف لها أن تبقى؟

قد نعبر سريعاً وبلا مبالاة من أمام لوحة (الحذاء) التي صور فيها الرسام العالمي (فان جوخ) حذاءً ضخماً ملقى في أرض فلاة ولا يحيط به شيء ولا يبدو خلفه أي طريق أو أي معلم من المعالم، ولكننا إذا تمهلنا قليلاً وأمعنا النظر إلى الجزء الداخلي من هذا الحذاء لأمكننا أن نلحظ آثار الأعياء مرسومة عليه ولو أننا نظرنا إلى ثقل الحذاء وصلابته لتوقعنا أنه حذاء لفلاح يشق به طريقه نحو الحقول كل يوم، كما أن النعل الملطخ يدل على مدى معاناة هذا الفلاح فيما يعمل، ورغم كل ذلك وكل تلك الآلام والمعاناة والأوحال ومهما طرأت عليه من متغيرات الظروف والأحوال لم يتخل الحذاء عن مهمته الأصيلة في حماية أقدام الرجل حتى يهلك دونها، تلك هي صفة القيم المتجذرة، هي قيم وأحوال فطرية إيجابية خيرة. وطالما أنها متجذرة في قلب ووجدان كل فرد فهي بطبيعة الحال تكون عامة مشاعة لدى كل الأمم والشعوب لأنها من أصل التكوين الفطري للإنسان، جاء ذلك في قول الله تعالى (فِطْرَتَ الله التِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله) (الروم 30).

علينا إذاً والحال هكذا، أن ننبه العقول إلى وجود وحقيقة هذه القيم، فإن جزءاً كبيراً من مشكلاتنا الإنسانية يكمن فيما يمكن تسميته (التضليل النفسي) والذي يقع بفعل طريقة استخدامنا للمفاهيم والعبارات التي نتداولها. فيكون التضليل النفسي -على سبيل المثال- برسم صورة مأساوية أكبر من حقيقة الواقع بفعل الكلمات والإشارات والأوصاف التي نستخدمها، فنضع لها دلالات معينة تستجيب لها أمزجتنا النفسية فنتفاعل معها على نحو ما، إما إيجاباً أو سلباً، فالتضليل النفسي لا يقتصر على السلبي فقط.
ومن هذا القبيل، جملة مفاهيم القيمة التي نحملها في أذهاننا ونتعامل معها ونتفاعل بها، في حين قد تكون هذه المفاهيم ذات دلالات غير حقيقية في واقع الأمر، تماماً كما لو قلنا كلمة (وجود) ووضعنا في مقابلها كلمة (عدم) فإننا نضل نفسياً وعقلياً إذا تعاملنا مع كليهما بأن لهما نفس التجسد الواقعي العيني المشخص، فكلمة (وجود) هي فقط ما لها هذا التجسد الذي نشير إليه في الموجودات والكائنات، أما كلمة (عدم) فليس ثمة شيء هناك في العالم لكي نشير إليه بدلالة الماهية أو الكينونة، إذ العدم هو محض سلب للوجود الذي هو صفة للأشياء العينية. فعلى نفس هذا المثال نجد أن قيم الخير هي ما له وجود حقيقي أما ما يسمى بقيم الشر فليست بقيم أصلاً وإنما هي محض سلب للقيم الحقيقية. وهذا يحيلنا إلى ما هو (فطري غريزي) وما هو (ثقافي مكتسب) في مجال القيم.
ولكي نحقق منظومة إدارية ناجحة للقيم المتجذرة تبنى عليها القيم المتممة الصالحة فلابد أن نميز بين مفهومي (تغيير القيم) و(تطوير القيم)، فتغيير القيم هو إزالتها وتحويل الإنسان عن فطرته القيمية فيفقد ما هو متجذر لديه منها بفعل التبعية غير الرشيدة وغير الواعية لقيم متممة وافدة من حقول ثقافية منقصة أو منافية للأصول الأخلاقية فيضل الإنسان بهذا عن فطرته قبل أن يضل عن قيمه. أما تطوير القيم، فهو اختيار الإنسان لمجموعة القيم المتممة التي تتوافق مع مبادئ الفطرة الإنسانية وما بها من قيم متجذرة فيسير بها تراكمياً في خط رأسي للتطور والتركيب والتكثيف مع كل مرحلة من مراحل الاستحداث والتقدم الثقافي والعلمي والتقني للمجتمعات الإنسانية وبشرط عدم تناقض المتطور مع ما هو متجذر في الأصل. وزبدة القول أن هذه القيم المتممة الصالحة هي ما جاءت به الأديان بعد حيرة البشر (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا) (يونس 19) لذلك بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.

ذو صلة