مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

القيم بين الصورة والمعنى


راكمت الكتابات العربية الحديث عن القيم، ولعل تجدد عودتها في تداولنا الثقافي والإعلامي له ما يبرره سياقياً، إن على مستوى التفاعل الموجود بين النحن والغير، بين الشرق والغرب، بين الأصالة والمعاصرة، وبين الحداثة والتقليد...

إن هذا التفاعل -أياً كانت صفاته بالسلب أو الإيجاب- يثمر، ويخصب تحولات القيم عندنا. من هنا لن نعيد التفاعل على الصدام (صدام الحضارات)، والتطرف، والكراهية وما يتبعها من صور تتشتت على صفحات الإعلام والإنترنت. لكن لماذا التركيز اليوم على القيم؟ هل نحن في الحاجة إلى تخصيبها عبر سقي جذورها فينا أم ندخل سوق الاستهلاك العالمي؟ ثم ما الذي تفتحه لنا قراءة القيم هنا والآن في عالم متحول حد المسخ؟ كل هذه الأسئلة وغيرها تفتح لنا الموضوع من جوانبه المتعددة، صحيح أن ثمة كوة ضوء تنبسط أمامنا كبوصلة تشير للعلامة وتحجبها في نفس الوقت، وصحيح كذلك أن صدمة 11 سبتمبر والتضاعيف التي تركتها في الوعي واللاوعي العالمي يفيد النظر إلى الذات العربية الإسلامية باعتبارها ضحية جرم معولم، وكأن الصورة هي الدليل على التهمة والحكم معاً، على الضحية وذاكرتها. لنقل بدءاً إن الحادثة التي وقعت ساعتها شكلت نوعاً من إعادة البوصلة الأمريكية إلى عدو مفترض جديد، وعليه وجب تجييش الرأي العام الدولي بنمط جديد يبدأ من الشعر والجبهة والعينين واللحية وما سوى ذلك. هذه الصورة الجديدة التي أشاعها الغرب على المسلم هي ما يجعل السؤال محرضاً لزعزعة هذه الصورة النمطية العابرة للقارات، سؤال يفيد المعنى والحقيقة، ربما لا نستطيع الوصول إلى الحقيقة وكأن هذه الأخيرة متعددة بتعدد نظارات المشاهدين لتلك الصورة، بينما المعنى يتزحلق بين هذا وذاك، ويتستر في الوسط بين الشرق والغرب أو النحن والغير. بهذا الشكل نستطيع القبض على المعنى وسط هذا الفراغ الحامل لصدام وتفاعل قوتين، هل يحيل ذلك على التمترس في الشرق أو الهروب نحو الغرب في استيلاب مهول؟ لا أظن الجواب ممكناً حين القول والانتصار لهذا أو لذاك بقدر ما يكون الوسط خلاطة عجيبة تتفرد بجذورها مثلما تنفتح على الكوني المحفور في تلك الجذور، وكأن الانتصار إلى ما هو كوني فينا هو الأمل الوحيد الذي نعيشه في المستقبل. لنعد إلى تلك الصورة النمطية التي وزعتها المؤسسات الإستراتيجية الأمريكية على العالم.. صورة تظهر ملامح وجه عربي عابس عدواني كحلي العينين، وفي يده سيف أو كلاشنيكوف، هذه المؤسسات تروم تسليع الإنسان العربي المسلم بهذا الشكل كما اتفق سلفاً، علماً أن المؤسسات الأمريكية قامت بأكبر الكبائر في هذه الحقبة، والمرجع بائن في العراق وأفغانستان وفلسطين والصومال... إلخ. ألا تحيل هذه الصورة عدواً جديداً تحتاجه هذه المؤسسات لتدبير شؤونها الاقتصادية والسياسية عبر القبض على اقتصاديات وثروات العالم الإسلامي. لا أريد هنا فتح نافذة على المشروع الإمبريالي الأمريكي في جميع مقتضياتها (راجع كتابات تشومسكي السياسية) بقدر ما أندفع للنظر في القيم من حيث هي شرط وجود المجتمعات قديمها وحديثها أي لا يوجد مجتمع بدون قيم، فالفلسفة الإغريقية جردت هذه القيم وبوبتها في ثلاثة مبادئ رئيسة وهي: الحق، الخير، الجمال، وكل مبدأ يحمل مبادئ أخرى. لكن إذا حاولنا غض الطرف عن هذا الإطار الفلسفي التجريدي المطلق وحاولنا النظر إلى تلك الصورة في علاقتها بالقيم، فإننا سنتحصل على مجموعة من القضايا والمشاكل الكبرى، ليس في طابعها الفلسفي أو القانوني أو الديني... وإنما في سياقها التاريخي، نحن اليوم نأكل الصور ونتشربها مثلما نتنفس روائحها بفعل مفاعيل العولمة.
ثمة قيم تم تبديلها والحط منها في العقد الأخير خاصة أي منذ ما سمي (الربيع العربي) هذا الأخير الذي تأسس على ثلاثة مفاعيل رئيسة وهي نظام العولمة، وشيوع الوسائط الاجتماعية وثالثاً غياب الوسيط المدني (الحزب، النقابة، الجمعيات، المثقف... إلخ) هذا الغياب هو الفراغ الذي لا تقبله الطبيعة بلغة الأقدمين، فإذا نظرنا إلى قيمة الاختلاف من حيث شرعيتها ومشروعيتها في الثقافة الكلاسيكية العربية الإسلامية، وهذا ما نجده في كتاب الباحث المغربي علي أومليل (في شرعية الاختلاف) والذي يشير إلى الحوار الخصب بين الثقافات في ظل قوة الإسلام وسيادته على العالم. فقيمة الاختلاف إذن ليست جديدة على نظامنا الثقافي الإسلامي، بل هي متجذرة فيه إلا أن عملية تجديدها وتخصيبها يفترض الإبحار في كونيتها، فهذه القيمة لا تستقيم إلا بمفاعيل قيمية أخرى كالمواطنة والحرية والديموقراطية، وما إلى ذلك.
إن نظام العالم أضحى قرية صغيرة، وأكثر من ذلك ساد نظام التفاهة فيه، الشيء الذي ينتج عنه الحط من قيمة السؤال والفكر والإبداع والخيال... كل ذلك يدعونا إلى ممارسة حرب عصابات جديدة داخل بيوتنا ومؤسساتنا التربوية وحواراتنا حنى نستطيع خلخلة السلطات الثاوية خلف هذا النظام.

ذو صلة