مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

جســــر للعبـور

تجد فكرة ربط ظهور الفن بظهور الإنسان لها أكثر من مبرر منطقي، ذلك أن الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً واجه الوجود الموحش عارياً في أول أمره، في حاجة إلى مطيّة يركبها من حين إلى آخر لتبدد وحشة الحياة، وتمحو تعبه، وتترجم هواجسه، وتصالحه مع الوجود. ولنا في ما تركه الإنسان القديم من آثار ونقوش وخربشات وأشعار ورسوم ما يكفي لنتأكد أن الفن كان العصا التي توكأ عليها ليستمرّ إلى أيامنا.
غير أن مفهوم الفن بوصفه (وسيلة) هو تبسيط له وحط من منزلته وبعد عن حقيقته وجوهره. فمن البديهي أن للفنّ قدرة كبيرة على تحقيق ذات الفرد وإضفاء قيمة على وجوده، لما له من قيمة ترتق جراح الذات وتعبر عن أحلامها وآلامها، وتعكس هواجسها ومخاوفها في وجود مازال موحشاً، بل إنه يزداد وحشة كل يوم.
ومن البديهي أيضاً أن تكون للفن القدرة على صقل الروح وتطهيرها من أدرانها التي تراكمها الحياة اليومية المعاصرة المتشعبة، وهو بذلك يجدّد الحياة، بل يجدّد رغبة الإنسان فيها، ويدفعه إلى مستقبله بقلب أكثر أملاً.
ثم إن للفنّ، بما هو تعبيرة اجتماعية، الرقيّ بالمجتمعات وترجمة مدى تطورها وتوطيد العلاقات بينها، والتعبير عن روح الشعوب وكشف أعطابها. بل إنه أكثر من ذلك لغتها التي لا تحتاج ترجمة، إذ هي خطاب الروح للروح عبر شبكة من الرموز لا نحتاج إلى فهمها بقدر حاجتنا إلى الإحساس بها وعيشها كما هي. والفن من هذا المنظور ليس في حاجة إلى لغة لتعبر عنه، بما أنه في حد ذاته لغة تمدّ الجسور بين الأنا والآخر، وتمهّد الطريق إليه. فكم لوحة فنية فضحت للعالم بأسره هول الحرب فبلغ صداها الأرض قاطبة، وكم مقطوعة موسيقية همست لروح البشرية بمعاني السلام والحرية بغض النظر عن اللغة واللون والعرق والجنس.
إن الفن جسر إذن، جسر به تعبر من ثقافة إلى ثقافة ومن حضارة إلى حضارة لربط الأرواح وجمعها على معنى من المعاني، أو على فكرة من الأفكار، أو على رأي من الآراء. وما تحققه لوحة ما تصنعه مقطوعة موسيقية، أو رقصة من الرقصات، تعجز عنه الحكومات والدول وكتائب الدبابات. يكفي أن نتذكر أعمالاً فنية مثل (غورنيكا) لبيكاسو أو (الحرية تقود الشعب) لأوجين دي لا كروا وغيرها من الأعمال الخالدة، التي تبرهن على قدرة الفن الهائلة على الاختزال والتركيز عبر طاقاته الإيحائية والرمزية الكثيفة. إن الفن عابر للزمان والمكان لا يعترف بحدود، وهو لذلك أبلغ وأوضح وأكثر فاعلية ونجاعة.
من البديهي إذن أن يكون الفن كلّ ما سبق وأكثر، غير أن الأهم من كل ذلك ألاّ يظلّ (مجرّد وسيلة)، بل ينبغي النّظر إليه أكثر عمقاً. ذلك أن الفن، علاوة عن ذلك، شكل من أشكال إقامة الإنسان على الأرض، بمعنى أنه جوهر الوجود الإنساني ومداره. أي إن الإنسان دون فن هو مكنة باردة تلوك الوجود وتدور حوله دون أن تلامس من جوهره شيئاً. وكم قد رأينا بشراً يمرون على حافة الوجود تقتلهم سآمة اليوميّ وتسحقهم آلة الروتين سحقاً في كل يوم، وهم مندفعون بحكم الزمن والطبيعة نحو حتفهم دون أن تقع في نفوسهم حبة واحد من وجود لم يعرفوه، لأنهم عاشوا بعيدين عنه، من حيث يقدّرون أنهم، إذ يأكلون ويشربون ويتناسلون ويعملون، هم في صميمه. وكم قد رأينا (عقولاً) تلتهمها أرقام الثروة والأرقام ومُتَعِ الكسب السخيفة، ولم تحركهم صورة ولا رقصة ولا لوحة ولا نغمة، يغرقون في وهم الوجود لا في الوجود نفسه.
إن هؤلاء وأولئك وغيرهم لضيوف ثقال الظلال على الوجود، بل إنهم ثقال الظلال على الحياة نفسها، لأن الحياة في ذاتها فن، وما لم يتحول الفن فيها إلى شكل من أشكال الإقامة على الأرض، تبقى مجرّد استعارة سخيفة، لا يدرك كنهها سوى الراسخون في الفن، به يعيشون ويأكلون ويشربون، وبه يحلمون ويحلقون، وبه يبكون ويفرحون ويحزنون، وبه يرسمون أحلامهم وينحتون أفكارهم العظيمة على ظهر التاريخ. ولقد أثبت التاريخ أن الشعوب العظيمة هي التي خلدت برسومها ورقصها وغنائها وأدبها وعمارتها وحكاياتها وفنونها المختلفة التي تجاوزت الزمن.

ذو صلة