مجلة شهرية - العدد (574)  | يوليو 2024 م- محرم 1446 هـ

جدتي جنية

هرول بنا العمر نحو الكبر، يتخطى السرعة المتاحة له..
سنين، أشهر، أيام، وساعات تمضي دون أن نشعر بها، تتخللها أحداث ثقيلة وتمضي على مضض، والسرعة تكتنفها أيضاً..
لذا، لا زالت طفولتنا تجلس القرفصاء في أعماقنا، هذا ما أشعر به حين يرعبني شيء ما، أو يغضبني.
أعترف أن ثمة تغييراً حدث، هو شيء واحد لا سواه، في طفولتي كنت شرسة، لم أكن لأسمح لأحد يأخذ مني ما هو لي. لم أكن أرضى إلا أن أكون الأولى في اللعبة، وإلا سأختلق ألف مشكلة ومشكلة حتى لا يكون أحد قبلي.
تكررها أمي مراراً: كيف سيقع بك إن تزوجتِ؟
سأحدث المشكلة ذاتها إن اقترب من لحيته وعبث بها.
كان أقراني يتحاشون العراك معي، يدركون أنني لن أتخلى عن حقي، وإن عجزت فإخوتي سيقومون بما عجزت عنه.
وأعترف أنني كنت هشة حين يتعلق الأمر بأحد والديَّ أو إخوتي، هنا أتساءل: هل سيكون آخر ضمنهم؟!
كنا نمتلك أسفل درج بيتنا (دِسَّة)، أهرول إليها كما يهرول بنا العمر الآن، وأجلس القرفصاء حين تنظر إليَّ أمي بنظرات غضب أو يحتد صوتها أو ترتفع نبرتها. كانت ملاذي حين لا يلبي أحد ما أتمناه.
كانت تلك (الدِّسَّة) ملاذي الآمن، ولم يكن ليضيعني أحدهم.
وكانت بمثابة إنذار لزعلي الذي لا يدوم طويلاً، كنت في رغد الحب وفردوسه الأعلى.
الآن، وبهذه السن لم أعد أمتلكها، ولا أمتلك الجرأة لأجلسها.
جُرم أن تكون هشاً في هذه السن، ولا بد من بذل أقصى جهد لنمثل أننا أقوياء.
ثمة أثر على وجهي إثر عراك كان نتاجاً لإصراري على شجاعتي التي تلطخت يومها بالدم، أذكر يومها أن عيون أمي بكت بأدمعي.
رأيت غضباً كثيفاً منهم على من أحدث ذلك الأثر، كنت بخير لخوفهم عليَّ، ماذا لو قامت تلك الأضلع التي تحيط بقلوبنا بذات الوظيفة، أليست بمثابة الأهل أو من نحب؟
أعرف من يقرأ هذا النص سيتساءل: ماذا لو كانوا هم من يحدثون مثل ذلك الأثر؟
سيكونون بمثابة قبر لذلك القلب لا محالة.
أتذكر ما كنت عليه في طفولتي، أنا أعيشه بطريقة مختلفة، لا أكررها ولكنها داخلي.
حين أجد ما يغضبني من أحد وقلبي يكن له مشاعر، أهرب مني إليَّ،
أراني أجلسها مبتعدة عنه.
كانت مظلمة وصغيرة (الدِّسَّة)، ملامحي تظلم في وجهه إن صادفته.
ولكني لا أمتلك جرأة الطفولة في الإفصاح عما أصارعه في داخلي. تلك الشراسة ذاتها في الغضب لا زالت، لكني أخمدها بتذكيرها عن عمري الآن.
حتى إنني سألت أمي ذات يوم: كيف أستعين بإخوتي على حنقي من شخص ما أو لحدث صار معي؟
أخبرت أمي أنني بحاجة لجدتها، لا يسمونها (جنية) جدتهم التي تأذى قلبها حين تزوجت من الإنس فخان ما عاهدها به وظهر عليها وهي بمظهرها الحقيقي البشع، جدتي أنا أيضاً، فهي تقربني من جهة أمي طالما أنا ابنتها. فاتنةً أتخيلها وذات كاريزما عالية وهي التي لم ترتضِ نقضه للعهد.
ربما تكون خرافة بالنسبة لي وللكثير، لكني أؤمن بها حين تنتابني براكين الغضب ممن عاث وعبث ولم يجد من يخبره بسوء فعله، فعالهم، فقد تكاثروا وكان لهم شكل جدتي الحقيقي.
جدتي تعين أبناءها ولا تتركهم فرادى حين تأتيهم المصائب، تكون لهم جيشاً لا يهزم. وحين الحصاد يستعينون بها لتكون لهم أيادي كثيرة بجانب أيديهم، وكل ما عليهم هو أن يكرموها بالقليل من زادهم الذي يلقونه حول حصنها الذي تسكن فيه ولا تسمح لأحد أن يشاطرها إياه، مهجور لكنه ممتلئ بحنانها عليهم وسندها لهم. ينادونها كما ينادي الابن أمه، وإن كانوا أحفاد أبنائها الأربعة الذين تركتهم لأبيهم، يشتكون لها كأم، تفعل ما تفعله الأم حيال أبنائها.
(جدتي جدة أهل العجز)، هكذا يتحدثون عنها، تركته حين عاهدها ألا يظهر عليها إلا وقد أشعرها بقدومه حتى تتحول لامرأة بكامل أنوثتها، لا (جنية) تطهو الطعام على إحدى قدميها، ولها من الشكل ما أفزع قلبه.. وبنقضه هذا لم يأمنه قلبها.
ساعتان سأقتطعهما من العمر لأذهب إليها وأناثر الفشار حول حصنها لأملك غضبها على من كان سبباً في نزول دمعة خفية. سأحدثها كم من المرات فعلتها، كم الدموع التي أغرقتني حد الاختناق، وكم هي المحاولات الكثيرة التي تشبثت بآخر نفس تصارع مع (الشهقات) القاتلة لأمسك بالحياة من جديد.. سأحدثها عن قلوبهم المشوهة، ولن يتملكها الرعب كما حدث لزوجها.. سيفزعون من صرختها رغم المسافة الفاصلة.
وكأنها المسافة ذاتها ما بين اختباءته ليكتشفها وفقدها لاستكانة روحها وقرارها لفراقه لحظتها..
غادرت سعادتها بعنفوان، أما نحن: ماذا لو استسلمنا لتناقص الأوكسجين حينها، هل سنندرج تحت مسمى (انتحار)؟
أتدركون أن أوجاعنا تضاعف أعمارنا، وإن أفلتتنا تلك الشهقات من قبضتها نتسلل من بين أصابعها أشلاء!
تأكل جزءاً من أجسادنا بشراهة.. تُذبل أفئدتنا وتصيبها بالعمى لكل فرح إن صادفنا.. إحساسنا سيضيع تحت أو بين ما تساقط منا.
كثيراً أردت الذهاب لجدتي لأخبرها عنهم.. وتكون لي تلك (الدِّسَّة) التي كنت أحصل على السعادة بعدها..
وسأحصل على يديه إن فكر بقص لحيته.

ذو صلة