مجلة شهرية - العدد (574)  | يوليو 2024 م- محرم 1446 هـ

بقاء مستحيل

حينما سمع الخبر.. أيقن كيف كان ذلك الراحل يملك نصيباً وافراً في قلبه، خبأه عنه، كتمه سراً.. حتى حين رحيله، جال في خاطره سؤال: ليتني قلت له.. رفع هاتفه، فتش بحثاً في محادثات معه، عما أراد قوله، على حافة اليأس.. وجد الجملة التي توهجت منها عيناه بالدموع، تابع السير بعينيه حتى آخر السطور، متمنياً أن تكون في ختامها ودودة، فكانت كذلك، تنهد.. تساءل: كيف ‏يملك الرحيل أصدق المرايا وأوضح الصور؟ كيف يستنير اليقين في ظلام الشك؟ يتراكب.. كل ما تفكك؟ كيف يستحيل طفلاً، يعرف تماماً ما يريد، يتمنّاه.. رغم استحالته؟ حتى المواقف.. التي ملئت بالأوهام والتفسيرات الخاطئة، يتلاشى كل ما خلفته من انقطاع.. ويذوب تأثيرها، مع كل وعود الرحيل الكاذبة.. أمام الرحيل الصادق، حيث لا رغبة.. سوى بالبقاء المستحيل.
استلقى مغمضاً عينيه، ودّ لو يوصد مسامع أذنه، وينسل إلى داخله.. ‏بدت أنفاسه تصبح أكثر استرخاءً، بينما يسير خلف أثر المواقف، يمتعض حيناً، ويبتسم.. متأثراً بعثوره في ضحكات الراحل العالية، احتاج إلى لوم شيء ما.. ربما يختار فراغ الصمت، أو فواصل اللقاءات، وركض الانشغالات، كل شيء سوى لومه لذاته، استحالت.. كلمات الرضا التي منح إياها، إلى قناديل تنير ظلام الشوق، التي لن يتبعها شروق.. ستبقى حالكة، سوداء، كلون الأخطاء، والتبريرات، والسراب، والقطيعة.
‏على غير العادة، اجتاحته رغبة في التسوق، كان يقف في الأسواق في حيرة، يتجول، يصافح ابتسامات البائعين بصمت، والآن.. أصبح يعرف ما يقتنيه، كان يعاقر النسيان، والآن.. يختار (عطره) و(تحفة) ذكرته.. بحديث معه، بل يتذكر أن ينجز وعداً قديماً له: سأجرب مذاق القهوة في ذلك المكان، الذي طلب رأيه فيه، ورد عليه حينها: نسيت!
يدور في المكان، بحثاً عن روح من كان، هناك.. في تلك الزاوية التي تظلها الشجرة، يتمتم.. لو كان معي.. سيختار هذه الناحية، بصوته الذي يعلو بحماسة.. مربكاً هدوء المكان، ومخجلاً من يدخل برفقته، تنهد وتمنّى: ليتني الآن أخجل..!
يجلس بهدوء، كمن ينتظر لمجرد الانتظار، تمر اللحظات.. يتسلل مذاق القهوة لإعجابه، فيغمض عينيه، ممتنّا وإن تأخّر.. تطارده نظرة، وأخرى، فينهض عائداً إلى منزله.
‏خلف صوت الباب الذي يغلق، يعمّ السكون، وتعود هشّة.. كل أسباب التوازن، يتضاعف الفقد، تكف المشاعر عن الهرب، تتوالى الذكريات.. كأنها ترياق بؤس لا ينقضي، خلف الباب، كل الماء مالح لا يروي، كل الأشياء.. لا تعبر مهما عبّرت، كل الدموع.. تشير إلى الخبر.

ذو صلة