مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الحرب ومآلاتها

كلنا يحفظ قصته الخاصة عن ظهر قلب. يحمل أسراره ويردد داخل نفسه: (اغفر لي يا الله جدَّي وهزلي وكذباتي الصغيرة)، ألم تطلب منهم ألا يخبروا العالم بقصصهم الحزينة! حتى وإن ماتت أثناء شربهم الشاي على رصيف غريب، أوصيتهم أن يصنعوا تابوتاً ضخماً، سيكتبون عليه بخط جميل وبألوان ثلاثة، منقوش بنجمتين ومزين بزهور شامية (رحلت أيها الوطن من فرط عذابك بعد فراقنا) وصية حملها مهاجر في جلبته وسكونه، في جوعه وعطشه وشبعه، تحت لحافه أو في خندقه، في الحافلة أو في المسرح وحتى في علب السردين التي يحب أن يبحلق فيها ويقرأ تواريخ انتهاء صلاحيتها وهو يضحك ضحكة ساخرة. لقد أقسم إن ضاقت عليه الأرض أن يكون معه. ترى أي وجع يحسه وهو يحفظ أرقام البنايات وحكايات الشوارع التي رسمها في مخيلة شِعره ونثره كي لا ينسى تفاصيل الحياة الذاهبة أدراج الذكرى، حياة مليئة بتفاصيل كثيرة: ماركة معجون الأسنان، وملابس العيد، ومشابك الشعر، وقناني العطر، ورائحة اللوز المحمص، وصوت تحية العلم، وجرس المدرسة. يحملها معه وكأنه يحفظ أسرار أنوثتها بعدما فاتها موعد طائرتها وأضاعت عنوان مصفف الشعر، ورقم هاتف حاضنة الأطفال فراحت تبكي على كتفه.
لكن أياً كان ذلك الوجع فلن يكون أفظع من الحرب. لأن الحرب هي الحرب. شذوذ أخلاقي متواطئ مع الهزيمة الأبدية.
إنها الوقت المستقطع من سويَّة الحياة وحكمها فينا وتقلبات أقدارها ومداولة الأيام فيما بيننا. زمنٌ عابر أو ربما معلّقٌ، لا يهم. إنها المآقي التي عبرت وحدها بحر الظلمات.
في الحرب تتوهم النفس فتتحرّر من جميع نزعاتها. إنها ليست رحلة للاستجمام ولا خطة عمل ولا حتى بلادة وقت وتصحر روح. إنها الخسارات العظيمة التي لم نمت بها أو نحيا. إنها اللاشيء حين تصبحُ السلوكيات والأفكار حتى الأفظع منها وأكثرها سوءاً وأشدّها خفاء وغباء تصبح مباحة وممكنة إلى حدّ النسف بكل النوايا التي كانت صالحة!
الحربُ لو تجاوزناها فإنها حتماً لن تتجاوزنا. إنها الماء الذي شربناه من البرك الآسنة والملح الذي شح علينا تحت القصف العشوائي. الحرب مثل المحبة التي وصفها نشيد الإنشاد بأنها قوية كالموت. إنها ذاك الشيء المتواري في داخلنا. مقطوع الأوصال، مشتت الذهن ومع هذا يبقى قوياً كفكرة عصيّة على التغيير.
إنها كما يصفها الروائي الإيطالي (دي لوكا) إن الحرب تُظهر أسوأ ما فينا. بل كلَّ ما فينا.
حين تلبسنا الحرب فإن الياقة تختنقُ طويلاً. تملُّ من وجوهنا المتعبة ثمّ تخلقُ من دونِ إدراكٍ منّا مُتنفسّاً على شكل شارع أو مقهى أو زاوية وحيدة نهرب إليها. نختلي بها مع صور وكلمات وأصوات كنا نحبها. في الحرب نقرّر بإرادتنا الانتماء إلى ذلك المكان. ذلك الملجأ.
لا يهم أن تعرفوا ما هو شكل المكان ولا قيمة تلك الحرب التي خضناها فعدنا محملين بكل ما فيها. المهم أننا وعينا بأن الانتماء إلى تلك الأمكنة صار مفهوماً ومدهشاً في مرونتِه.
في الحرب نلعب لعبة الانتظار. نحاول إقناع أنفسنا بمرور الألم كوخز إبرة أو مغص خفيف. نهرب من إحساس الكآبة، ومن إحساس آخر نقطة في الحياة. ذلك شعور يشبه موقف الغارق في أعماق البحر. شعوره برغبة الانقضاض على الأنفاس وإنهاء تلك الحرب. ترى أتنفع تلك الحيلة من أجل البقاء واستعادة الرَمَق؟!

ذو صلة