أجمعَ مؤرخو اللغة والأدب على مر العصور على المكانة الرفيعة لأبي علي القالي (288 - 356هـ)، وأقروا له بإمامته في اللغة والرواية وعلوم الأدب، وحين بلغ هذه الأهمية سبقته شهرتُهُ إلى الأندلس، فدعاه الخليفة الأموي عبدالرحمن الناصر إلى الأندلس ليستعين به على بناء ركيزة معرفية تستند إلى الينابيع المشرقية التي تصدرت العالمية في ذلك الوقت. يُلبي القالي تلك الدعوة ويقضي النصف الثاني من حياته في الأندلس، وبها يُملي أشهر مؤلفاته (كتاب الأمالي).
ولد أبو علي القالي ونشأ في نواحي ديار بكر سنة 288هـ، وما لبث أن توجه إلى العراق، وفي بغداد تتلمذ على مشاهير علماء الحديث وعلماء اللغة والأدب. ذكرَ المؤرخون وكاتبو ترجمته شيوخَهُ الذين تتلمذ عليهم، ولعل أشهرهم السجستاني وابن صاعد والقاضي يوسف بن يعقوب، وكان من أشهر أساتذته في النحو والأدب ابن درستويه والزَّجاج ونفطويه وابن دريد وابن قتيبة. يُعد وصول أبي علي القالي إلى الأندلس فصلاً مميزاً وفارقاً في سيرته العلمية، بحيث يمكن إدراجه تحت عنوان (السفارات الثقافية)، فقد أسَّسَ القالي بحمولته المعرفية حضوراً مشرقياً مُكتملاً بمناهجه الأصيلة في الرواية ونقل الأخبار والأحاديث والتعليق عليها، تلقَّحَتْ بها الأبنيةُ المعرفية الأندلسية في ذلك الحين. ومثلما احتفى المؤرخون المشرقيون بسيرته؛ احتفى أدباءُ ومؤرخو الأندلس بحضوره التاريخي، ووثقوه في مؤلفاتهم، وكان أشهرهم المقري في نفح الطيب، وقد ذكروا وصولَهُ إلى الأندلس واستقباله من الخليفة وحاشيته وعلماء الأندلس، وإقامته في قرطبة، ووفاته فيها سنة 356هـ. كان للقالي الأثر الجلي على شخصية الحكم المستنصر، فتبلورت ثقافته وولعه بالكتب، وقد اعتمد عليه في تأسيس المكتبة المليونية الشهيرة في قصر قرطبة. وهكذا كان القالي سفير المشرق العربي في الأندلس، في خطوة تجاوزت حواجز السياسة إلى حد كبير، فكان يُكاتب كبار العلماء والكُتَّاب في بغداد كي يرسلوا مؤلفاتهم إلى قرطبة، قبل أن تنتشر في بغداد. كان أحفظ أهل زمانه للشعر واللغة، وأعلمهم بعلل النحو على مذهب البصريين. ذكر ياقوت الحموي في معجم الأدباء مؤلفاته وأولها (كتاب الأمالي)، وهو الكتاب الذي تضمَّنَ نصوصَ (الرصد الجوي والأدبيات البيئية). لهذا الكتاب مكانة كبيرة في المكتبة التراثية العربية، فقد وضع في سوية كتاب الكامل للمبرد. وله مؤلفات أخرى منها كتاب البارع في اللغة والذي قيل إنه في مئة مجلد.
الرصد الجوي والأدبيات البيئية في (كتاب الأمالي)
في الأمالي نصوصٌ بليغة في الرصد الجوي، تضمنتْ وصفَ السحب من حيث أشكالها وأحجامها وألوانها وانخفاضها أو ارتفاعها عن الأرض، والاستدلال من خلال هذه المعطيات على احتمالية هطل المطر ووقته وشدته، وتأثير المطر على التربة والحياة البرية والنباتية. البلاغة في هذه النصوص تُكافئ الدقة العلمية في التتبع والوصف، فهي ليست محض زخارف لغوية بل المعنى ذاته.
لقد خضعت نصوص القالي ومثيلاتها إلى حالة نقدية تاريخية تميزت بالثبات، حين دأب المؤلفون والشارحون على توصيف الحقول المعرفية التي ألف فيها على أنها لغة وأدب ورواية، وكان ذلك سبباً في حجبها عن قراءات أخرى، وبالتحديد عن قراءات علمية، تُمسك بالنص من طرف آخر. ذلك أن ثمة نصوصاً عربية تراثية مُصنفة على أنها لغوية أو أدبية، وهي في حقيقة الأمر نصوصٌ متعددة الأطياف وبالغة الكثافة، والكثافة طيفٌ من أطياف النص العلمي. ونصوص أبي علي القالي المناخية والبيئية مثالٌ واضح على ذلك.
نعت أبو علي القالي نفسَهُ بأنه (عالم رواية لا عالم دراية)؛ لأنه اعتبر نفسه ناقلاً وراوية أميناً مدققاً للأحاديث والأخبار التي سردها في أماليه. فهو لم يؤلف خبراً ولا حديثاً، بل كان شارحاً وموضحاً. نجد في نصوصه مستويين زمنيين (تاريخيين)، الأول: منقول عبر سلاسل الرواة كنصوص بليغة وبالغة القيمة مما يمنحها الوثوق والرسوخ بكل ما في الكلمة من معنى، المستوى الزمني الثاني في هذه النصوص هو زمن القالي وشروحه لألفاظ النص ودلالاتها، خصوصاً تلك التي بدت غريبة حتى في زمنه (القرن الرابع الهجري: ذروة اختلاط العرب مع القوميات الأخرى). لذلك اعتبر القالي نفسه متلقياً لإرث اشتغل عليه اشتغال الشارح، فلم يُنشِئ نصه الخاص، لقد قبض في اللحظة المناسبة على الجواهر الكبرى للمعرفة العربية ودوَّنها لتزخر بها المكتباتُ الكبرى في جغرافيا شاسعة امتدت ما بين بغداد وقرطبة، ولنقل بأنها عبرت القارات الثلاث، ليس مؤلفاتُ وأمالي القالي وحسب وإنما عيون المؤلفات التي ولدت لتوها في بغداد. فقد عمل القالي، بحكم نشأته المشرقية البغدادية ومعرفته بحركة التأليف والمؤلفين في بغداد، على تغذية مكتبة قرطبة بتلك المؤلفات، بمراسلة المؤلفين واستجلابها ودفع أثمان مجزية مقابل ذلك من قبل خزينة الدولة الأموية في الأندلس.
في تلافيف كتاب الأمالي خمسةُ أحاديث تضمَّنَتْ أرصاداً جوية ومناخية، هي: حديث السحابة، حديث في المطر، وصف أعرابي للسحاب والمطر، حديث أعرابي يذكر مطراً صابَ بلادهم، حديث الرُوَّاد. في كل حديث منها حادثة رصد جوي، حيث الكلمات أخذت مكانها تماماً من الحدث، بحيث جسدت الحركة والتراكم والتبدل اللوني للسحاب.
وسوف أقدم تحليلاً رصدياً ومناخياً للرصد الثالث: وصف أعرابي للسحاب والمطر، يقول أبو علي القالي: «حدثنا أبو بكر قال حدثنا عبدالرحمن عن عمه قال: سئل أعرابي عن مطر فقال: استقل سُدٌّ مع انتشار الطَّفَل فشصا واحزأل، ثم اكفهرت أرجاؤه، واحمومَتْ أرحاؤه، وابذعرَّتْ فوارقُهُ، وتضاحكتْ بوارقُه، واستطار وادقُهُ، وارتتقتْ جُوَبُهُ، وارتعنَ هَيْدَبُهُ، وحَشَكَتْ أخلافُهُ، واستقلت أردافه، وانتشرتْ أكنافه، فالرعد مرتجس، والبرقُ مختلسٌ، والماء منبجسٌ، فأترع الغُدُران، وانتبث الوُجُر وخلط الأوعال بالآجال، وقرن الصِّيران بالرِّئال. فللأودية هدير، وللشراج خرير، وللتلاع زفير. وحَطَّ النبعَ والعُتْم من القُلل السُّمّ إلى القيعان الصُّحم، فلم يبقَ في القلَل إلا مُعْصمٌ مجرنثم، أو داحصٌ مجرجم، وذلك من فضل رب العالمين على عباده المذنبين».
استناداً إلى شروح القالي للألفاظ، وبالعودة إلى لسان العرب؛ فإن هذا النص يقدم حدثاً رصدياً متكاملَ الأركان، منذ لحظة تشكل السحب، إلى التغيرات الفيزيائية التي تتعرض لها، من حيث الشكل والامتداد والارتفاع واللون، وصولاً إلى لحظة هطول المطر وتأثيره على البيئة، من حيث التربة والحياة النباتية والحياة الحيوانية: يبدأ الرصد عند المساء بملاحظة ارتفاع السحاب حتى سدَّ وجهَ الأفق، ويتابع ارتفاعه ثم تتقارب أطرافه وتتراكم ويركب بعضه بعضاً، ثم يتحوَّل لونُ أوساط السحب باتجاه الدكنة والاسوداد، ويسطع البرق من بينها بينما يتابع انتشاره مع الارتفاع ممتلئاً بقطرات المطر الكبار، وحينذاك تلتحم السحب معاً ولا يعود ثمة فواصل بينها أو فتحات، ثم تسترخي أجزاء منها وتدنو من الأرض في حين ترتفع مآخيرها وتتمدد نواحيها. ويبدأ صوتُ الرعد، والبرق يومض ويختفي سريعاً كأنما يختلس النظر إلى الأرض اختلاساً، ثم يهطل المطر متفجراً قوياً حتى يملأ الغدران والأودية ويجرف بيوت الحيوانات وينسف ترابها، فتهيم على وجهها وتختلط التيوس التي تسكن الجبال بقطعان البقر التي تسكن الوديان والسهول، وتجتمع قطعان البقر الوحشي مع فراخ النعام. وتتأثر التربة والتضاريس فتمتلئ الأودية بالمياه وتتدفق هادرة. وتتشكل السيول من كل الأحجام حتى تحفر الأمطار الغزيرة مجاري لها من المرتفعات إلى بطون الأودية، ومع تدفقها السريع راحت تصدر أصواتاً مختلفة كالهدير والزفير. كذلك جرفت الأمطار الأشجارَ الجبلية من القمم العالية نحو الوديان الطينية، كما جرفت كل ما عليها من نبات أو حيوان، فلم يبق إلا من اعتصم أو أغرقته الأمطار وصرعته.
تحليل النص من وجهة نظر الرصد الجوي
تُقَسّم السحب على أساس مظهرها العام إلى عشرة أنواع متفق عليها دولياً. ويبدو أن السحب المرصودة في هذا الحديث هي سحب المزن الركامي (Cb) ذات الرقم 10 في جدول السحب الدولي. وهي من السحب الممطرة التي يصاحبها غالباً عواصف رعد، وسقوط زخات شديدة من المطر. وقد لاحظنا في الرصد الجوي الذي ورد في حديث الأعرابي شدة الأمطار وتأثيرها على البيئة بكل عناصرها من تربة ونبات وحيوان. وعند مقارنة توصيف شكل السحب مع المعايير الواردة في جدول السحب الدولي، حيث فيها أن السحب Cb تنمو نمواً رأسياً ظاهراً، وتظهر في كتل أو قطع ضخمة داكنة، خصوصاً عند قاعدتها، وتأخذ في نموها الرأسي شكل القباب أو الجبال. وقد تكون متفرقة أو متصلة ببعضها بشكل يجعلها أشبه بحائط كثيف عالٍٍ. ففي حديث الرصد أن السحب كانت كثيفة كالسد، وهو وصف مطابق تماماً، وأنها اتصلت مع بعضها. ومن مميزات السحب Cb أن قمتها تأخذ في معظم الأحيان مظهراً شعرياً على شكل ريشة طائر ضخمة، وهو ما يرد في حديث الرصد أن السحب استرختْ أجزاءٌ منها ودنتْ من الأرض.
ويتتبع حديثُ الأعرابي تأثيرَ المطر على البيئة في جُمَلٍ عالية البلاغة، جسَّدَتْ هذا التأثير بدءاً من الأرض إلى الجو، ومن الإبل إلى السحاب. فقد رُصِدَ:
- تأثير المطر على التربة: (أترع الغدران): فتشكلتْ سيولٌ صغيرة (انتبث الوجار) أي أخرجتْ السيولُ الترابَ من داخل أوكار الحيوانات مثل الثعالب والضباع. وقد لاحظ الراصد تشكل مجموعات متنوعة من السيول الكبيرة والصغيرة المنحدرة انحداراً: (الشّراج) و(التلاع) وهي مجاري ما ارتفع من الأرض إلى بطن الوادي.
- تأثير المطر على البيئة الحيوانية البرية: وكما رأينا أعلاه فإن الشدة المطرية أدت إلى الفيضانات، فجرفتْ التربة وخرَّبَتْ مآوي الحيوانات وشرَّدتْها، فهبطت الوعول من الجبال واختلطت مع قطعان البقر الذي يسكن القيعان والرمال. وهي من الحيوانات البرية في بيئة شبه الجزيرة العربية، إضافةً إلى الأوعال (واحدها وعل وهو التيس الجبلي) والآجال (واحدها إجْل وهو القطيع من البقر)، والصيران (واحدُها صُوار وهو القطيع من البقر وتسكن القيعان والرمال)، والرئال (فراخ النعام وتسكن الجلد)، وكلها ذُكِرَتْ في حديث الأعرابي.
- تأثير المطر على البيئة النباتية: (حطَّ النبع والعتم من القُلل السُّم إلى القيعان الصُّحم): كان المطر شديداً، بحيث اقتلع الأشجار البرية من الجبال وجرفها إلى المناطق المنخفضة، عدا بعض النباتات القاسية المتشبثة بالصخور. وثمة هذا التشبيه للنباتات التي بقيت عالقة في أعالي الجبال ولم تنجرف وراحت تتأرجح بسيقانها وتتمسك بالصخور مثلما عالقٍ يحرك ساقيه طلباً للنجاة.
الحركة الجمالية في النص
في النص حركة مستمرة مواكبة لحركة السحب وتغيراتها الدائبة، وهذا ما منح النصَ سمة بلاغية، فجاءتْ الجمل في غاية الاختزال والكثافة، واكتسبتْ الأفعال إيقاعاً متناغماً مع الحركة والتغيير التدريجي (اكفهرَّت، احمومت، ابذعَرَّت، تضاحكت)، ويُلاحظ أنها جاءت على وزن (افعللّ) الذي يدل على الشدة والاستمرار في الصفة للوصول إلى حالة أعلى. فالاكفهرار: هو فعل التكاثف المصاحب لتراكم الرطوبة والدكنة المتدرجة باتجاه التفاقم وشدة الاسوداد وهو ما لاحظه الراصد في حين راقبَ السحاب قبيل هطول المطر، وقد تدوم هذه الحركة السحابية من دقائق إلى ما يزيد على الساعتين. أمَّا (احمَوَّمَتْ) فدلالة على حالة السحاب ما قبل الإبراق والإرعاد (حين يتأهب السحاب للإرعاد). ويستمر النص في الرصد الحركي فكأننا نشاهد فيلماً من صورة متحركة وصوت: (فللأودية هدير) وهو صوت الماء الجاري المتدفق ولغزارته وسرعته يهدر هدراً، (وللشراج خرير) السيول الصغيرة تُصدر صوتاً أخفض من الهدير هو الخرير، (وللتلاع زفير) وهو صوتٌ نوعي آخر لحركة السيول المائية المتدفقة من الأعلى.
أخيراً: كان ذلك مثالاً واحداً من مجموعة أحاديث تناولتْ حوادثَ رصدٍ جوي وبيئي، اعتلى فيها هذا النص التراثي مكانةً في تاريخ المعرفة عبر قراءته قراءةً مفتوحة على حقيقته وإمكاناته، إضافةً إلى جانبه اللغوي البلاغي. وليست هذه النصوص من كتاب الأمالي نسيجاً وحدها في ذلك، بل نجد مثيلاتها في عديد المؤلفات العربية التراثية التي تحسب عادة على اللغة والأدب، فلا تراها عينُ العلم لتفيها حقها من كونها نصوصاً متكاملةَ المبنى والمعنى وواسعة الطيف.