مجلة شهرية - العدد (590)  | نوفمبر 2025 م- جمادى الأولى 1447 هـ

حفنة من تربة أسمهان بين علي المعمري ومحمد شكري

(الله يجازي الليل فكرني بالأحباب.. يا جاي من مصر هات لي من ترابها حجا).
الكلمات لعبدالفتاح مصطفى، واللحن لأحمد صدقي، والصوت سيد إسماعيل.
لا أعرف إن كان الروائي المغربي الراحل محمد شكري قد تمكنت منه هذه الأغنية بلحنها الشجي الآسر، أم أن الأمر مجرد مصادفة مع طلبه الغريب من الروائي العماني الراحل علي المعمري الذي كان يقيم بالقاهرة في التسعينات من القرن الماضي وحتى رحيله المباغت، هذا المطلب الذي كاد يتسبب في سجن المعمري بالولايات المتحدة الأمريكية، بعد منعه من الدخول واحتجازه لمدة يومين في مطار نيويورك!
الزمان: صيف العام 2002، المكان: مقهى الحرية بميدان باب اللوق، كنت أجلس في حالي كما اعتدت، مشغولاً بقراءة كتاب أو مجلة، وأحياناً بكتابة بعض خواطري، وفي أغلب الأحيان أتفرج على الزبائن وأسجل في ذهني حركاتهم وإيفيهاتهم، خصوصاً حين تعلو موجة المتعة، وعلى غير توقُّع فاجأني صوت أعرفه: لا أحد غيرك يحل لي هذه المشكلة يا يوسف! التفت وجدته علي المعمري صديقنا الجميل، وهو أحد الوجوه العمانية البارزة في الأدب العربي، المعمري ظل لسنوات يتردد ما بين القاهرة وأمريكا وأثيوبيا والمغرب وسلطنة عمان، لكن معظم وقته - خصوصاً منذ منتصف التسعينات وحتى العام 2013- كان في القاهرة التي أحبها، وأحبه ناسها ومثقفوها وصحفيوها، ولم لا فهو إنسان خلوق ومهذب ومحب لمن يشْتَمُّ فيهم رائحة الإنسانية، لكنه فاجومي حد الابتعاد عن المربع بكامله، إذا ما قادته حاسته التي لا تكذب إلى أن هذا (أونطجي) أو ذاك ميّاس.
ابتسمت رغم انزعاجي: خيراً يا عليّ، ما هي المشكلة؟!
- قال: أبداً، أخونا شكري طلب مني أغرب طلب ممكن تتصوره أو تسمعه في حياتك.
- شكري من؟!
- محمد شكري يا أخي الروائي المغربي الجميل.
- آاااه.. صاحب الخبز الحافي وبول بولز والشُّطّار وغيرها.
ضحك علي مقهقهاً، ثم أردف قائلاً: والله عندك حق.. ما هي سمعته سابقاه.
ضحكنا طويلاً، لأننا وغيرنا، حتى قراء محمد شكري الغرباء لم يكن غريباً عليهم أن يسمعوا ما أشاعه عن نفسه أو كان واقعياً كما أوهمنا في (الخبز الحافي) و(الشطّار) وغيرهما من رواياته ومذكراته مع جان جينيه وبول بولز.
ونحن نشرب القهوة، قلت: خيراً، ما هو الطلب الغريب الذي طلبه هذا الطنجاوي الجميل؟!
- تخيل أنني حين هاتفته تليفونيّاً، وأخبرته أنني متجه إلى أمريكا وبعدها في طريق عودتي من الغرب سأزوره في طنجة، وقلت له: قل لي يا شكري لو تريد أي شيء من أمريكا، أحضره معي وأنا قادم إليك؟
فاجأني بالقول لا أريد شيئاً من أمريكا ولا غيرها، أنت على أي أرض الآن يا علي؟!
- أنا في مصر، القاهرة يا شكري وطائرتي بعد يومين إلى نيويورك.
- طيب، حبيبي ما أطلبه لا يأتي سوى من مصر والقاهرة بالذات.
- اطلب ما تشاء.
- لا أريد سوى حفنة تراب من قبر أسمهان العظيمة.
هنا صدمني المطلب، ووقعت في حيْص بيْص. وبعد تفكير قلت لن يحلها سوى يوسف صديقنا محرر الحوادث، لأجل هذا جئت لك.
- بسيطة يا علي، اشرب قهوتك وسنتحرك حالاً.
تحركنا من أمام مقهى الحرية، عبرنا إلى الجانب الآخر من شارع التحرير، أوقفنا سيارة تاكسي، وقلت للسائق: من فضلك مقابر البساتين يا أسطى، ولو عارف بالتحديد مقبرة فريد الأطرش وأسمهان يبقى كتّر خيرك. ابتسم السائق وقال: والله هيئتكم توحي أنكم فنانون أو عشاق مجاريح. ضحكنا، وقال علي: آااه بالظبط احنا فينا الحالتين.
- كلنا مبتلين في هذه الحياة، هكذا علّق السائق وبعدها ساد صمت على جميعنا.
انحرف السائق يميناً من شارع صلاح سالم، وقال: هنا الدراسة وهذه مقابر أيضاً.. علّق المعمري متخوفاً: وبعدين؟!
- ولا قبلين، بإذن المولى ها نروح ع السيدة عائشة ومنها نتجه للبساتين، وسنصل للغاليين فريد وأسمهان. ومن شارع متسع إلى شارع أضيق، أوْقفَ السائق سيارته وهو يقول: وهنا ركن الحبايب.
تطلعنا إلى سياج حديدي أخضر يلف بيت الآخرة للراحلين فريد وأسمهان ومعهما شقيقهما الثالث فؤاد الأطرش، وبداخل السياج أشجار كثيفة، تعلو الباب الرئيس للمدفن لوحة رخامية مكتوب عليها في السطر الأعلى: (بسم الله الرحمن الرحيم.. الله أكبر.. مدفن عائلة الأطرش.. تحتها بالترتيب: المتوفى إلى رحمة مولاه الأمير فؤاد الأطرش.. المتوفى إلى رحمة مولاه الموسيقار فريد الأطرش.. المتوفية إلى رحمة مولاها الأميرة آمال الأطرش. الفنانة أسمهان).
اصطحبنا التُرَبيُّ الذي ظهر أمامنا فجأة وهو يقول: أهلاً يا حبايب أهلاً.. وقفنا أمام ضريح أسمهان، أنا وعلي نتبادل النظرات والضحكات المكتومة تعليقاً مسبقاً على فشل مهمتنا، تشاغلت أنا بالنظر إلى ضريح الموسيقار فريد الأطرش وأنشدت في سرّي: (يا حبايبي يا غايبين واحشيني يا غاليين.. لو أغمض وأفتح وألاقيكم جايين).
وإذ بي أفاجأ بصوت التُرَبيُّ يعلو: (لا لا يا أستاذ، هذا حرام وممنوع)، نظرت إلى علي المعمري وجدته ينبش في الأرض ومعه كيس بلاستيكي كان يحاول تعبئته بالتراب، انتحيت بالتُرَبيُّ جانباً ودسست في يده عشرين جنيهاً، أخذها وانصرف وهو يقول: (على راحتكم يا أستاذ وأنتم خارجين نادوا عليَّ).. نظرت إلى علي المعمري وجدته يضحك ويسألني:
-هل سحرته ليتغير موقفه هكذا؟
-أبداً أعطيته ما فيه النصيب.
- لسان حاله يقول، أن نفعل ما يحلو لنا، حتى لو أننا أردنا أخذ العظام!
انتهينا من المهمة الشكراوية نسبة إلى صاحب المطلب محمد شكري، وعدنا إلى وسط البلد.
سافر علي المعمري بعدها بيومين أو ثلاثة إلى نيويورك ليطمئن على زوجته وابنه، وكما أخبرني فيما بعد، أنه يا ليته ما أخذ معه كيس التراب إلى أمريكا!
حينما عاد المعمري من رحلته إلى أمريكا ثم المغرب إلى القاهرة، اتصل بي وهو يلعن في محمد شكري والتربي والتراب. وبدأ يحكي: حطت بي الطائرة في مطار نيويورك في فجر يوم أربعاء، وبينما كنت أهيئ نفسي لمقابلة ابني وزوجتي، وسرحت بذاكرتي إلى أول مرة أدخل فيها إلى تلك المدينة الفخمة القاسية المربكة، إذ بضابط أمن المطار حين مررت حقائبي أمامه في الجهاز المعد لذلك استوقفني، طالباً مني الركون على جانب حتى يبت في أمري، ذهلت من مطلبه فأنا ليس معي سوى ملابسي وبعض أغراضي الشخصية وأدويتي، أي ليس هناك ممنوعات من أي نوع.
يواصل علي سرد ما حدث، ويقول: فوجئت بالطامة الكبرى والضابطة تقول لي: يبدو أن هناك جمرة خبيثة موجودة بالكيس الذي يخصك. صعقني قولها، حاولت مراراً وتكراراً القول: إن ما بداخل الكيس مجرد حفنة تراب من قبر مغنية مصرية مشهورة اسمها أسمهان وشقيقها الموسيقار فريد الأطرش. إنها ليس إلا ذكريات عزيزة على صديق لي في المغرب وأوصاني بإحضارها له من القاهرة. لكن لا أحد يسمع. أخبروني بالبقاء معهم حتى ينتهي الفحص بالمعامل الجرثومية، ظللت هكذا شبه حبيس مكاني في مطار نيويورك ما يقرب من 36 ساعة حتى سمحوا لي أخيراً بالخروج، فرحت وتهللت أكثر أنهم أعطوني الكيس بما فيه!
لا أنكر أنني طوال بقائي في نيويورك وأنا أسب وألعن في شكري وأسمهان والجمرة الخبيثة. لم أفكر مطلقاً قبل سفري من القاهرة إلى نيويورك في العام 2002 أن موضوع الجمرة الخبيثة منتشر وأن الطرود المسممة، أو المتفجرة تشبه ما بداخل هذا الكيس الذي اصطحبته معي من القاهرة وحتى طوال رحلتي إلى المغرب لم أكف عن سبهم جميعاً، وما أن لاقيت محمد شكري في طنجة حتى بادرته باللكم الخفيف طبعاً في صدره وأنا أحتضنه وأحكي له ما حدث ونضحك. وشكري لا يكف عن مشاكساته لي بالقول: شوفت يا معمري أسمهان تستاهل كل ما جرى لك، لعلك تعرف جبروتها حتى وهي تراب.
وللتذكير أن الروائي علي المعمري مولود في مسقط عام 1958، ويعد أحد أهم الأسماء الأدبية اللامعة في سلطنة عمان، ويمثل تجربة فريدة ومميزة في الأدب العماني المعاصر. كانت بداياته مع القصة القصيرة وكتب أول رواية له (فضاءات الرغبة الأخيرة) والتي صدرت في عام 1999. اختارت اللجنة الفنية في اتحاد الكتاب العرب روايته (همس الجسور) لترجمتها إلى اللغة الفرنسية من بين سبع روايات عمانية رشحتها الجمعية العمانية للكتاب والأدباء للترجمة ضمن مشروع الاتحاد لترجمة مئة وخمس روايات عربية إلى عدد من اللغات العالمية. كان ملماً بالتاريخ العماني وتاريخ العالم العربي، بشكل مكنه من توظيفه في رواياته وقصصه. توفي في يناير عام 2013 في مستشفى السلطاني بسلطنة عمان بعد معاناة مع المرض.
ومن نتاجاته الإبداعية، (فضاءات الرغبة الأخيرة)، 1999، و(رابية الخطار) 2003، و(همس الجسور) 2007، و(بن سولع) 2011، و(أيام الرعود - عش رجباً) (قصص- 1992)، و(مفاجئة الأحبة) (قصص- 1993)، و(سفينة الخريف الخلاسية) (قصص- 1995، و(أسفار دملج الوهم) (قصص- 1997، وأصدرت عنه دار كتارا القطرية للنشر 2020 أي بعد وفاته بسبع سنوات كتاب (جمهورية بن سولع وأسفاره)، يضمّ 8 أوراق نقدية مهمة عن أعماله الإبداعية.
أما الروائي الشهير محمد شكري فقد ولد في 15 يوليو 1935 في بني شيكر في إقليم الناظور شمال المغرب. وعاش طفولة صعبة وقاسية في قريته الواقعة في سلسلة جبال الريف، ثم في مدينة طنجة التي نزح إليها مع أسرته الفقيرة سنة 1942. وصل شكري إلى مدينة طنجة ولم يكن يتكلم بعد العربية لأن لغته الأم كانت هي اللغة الأمازيغية (تريفيت)، وعملَ كصبي مقهى وهو دون العاشرة، ثم عمِلَ حمّالاً، فبائع جرائد وماسح أحذية ثم اشتغل بعد ذلك بائعاً للسجائر المهربة. وانتقلت أسرته إلى مدينة تطوان لكن هذا الشاب الأمازيغي سرعان ما عاد وحده إلى طنجة. لم يتعلم شكري القراءة والكتابة إلا وهو ابن العشرين. ففي سنة 1955 قرر الرحيل بعيداً عن العالم السفلي وواقع التسكع والتهريب والسجون الذي كان غارقاً فيه ودخل المدرسة في مدينة العرائش ثم تخرج وعمل في سلك التعليم. في سنة 1966 نُشِرَت قصته الأولى العنف على الشاطئ في مجلة الآداب اللبنانية. وبعد أن حصل شكري على التقاعد النسبي تفرغ تماماً للكتابة الأدبية. وتوالت بعد ذلك كتاباته في الظهور. عمل محمد شكري في المجال الإذاعي من خلال برامج ثقافية كان يعدها ويقدمها في إذاعة طنجة، خصوصاً في برنامجه الشهير شكري يتحدث. وعاش شكري في طنجة لمدة طويلة ولم يفارقها إلا لفترات زمنية قصيرة. ثم توفي في 15 نوفمبر 2003. ولم يتزوج محمد شكري طوال حياته، ومن أقواله: لكي أصبح أباً لابن عليّ أن أتزوج. لقد عزفت عن الزواج لأني أخشى أن أمارس على من ألد نفس التسلط والقهر اللذين مورسا عليّ. لهذا أنا أخشى أن يكون لي مولود.. فأنا لا أثق في نفسي!
وتحفل نصوص محمد شكري بصور الأشياء اليومية وبتفاصيلها الواقعية وتمنحها حيزاً شعرياً واسعاً، على عكس النصوص التي تقوم بإعادة صياغة أفكار أو قيم معينة بأنماط شعرية معينة. شخصيات شكري وفضاءات نصوصه ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمعيش اليومي. ويعد شكري العالم الهامشي أو(العالم السفلي) قضية للكتابة، فكتاباته تكشف للقارئ عوالم مسكوت عنها، كعالم البغايا والسكارى والمجون والأزقة الهامشية الفقيرة، وتتطرق لموضوعات محرمة في الكتابة الأدبية العربية وبخاصة في روايته الخبز الحافي أو الكتاب الملعون كما يسميها محمد شكري. تحتل مدينة طنجة حيزاً مهماً ضمن كتابته، فقد كتب عن وجوهها المنسية وظلمتها وعالمها الهامشي الذي كان ينتمي إليه في يوم من الأيام.
ومن أبرز أعماله الأدبية: السيرة الذاتية (3 أجزاء)، و(الخبز الحافي)- 1972، ولم تنشر بالعربية حتى سنة 1982، وبسبب هذه الرواية تمت استضافة شكري من طرف بيفو في برنامجه الفرنسي الشهير (أبوستروف)، والشطار (زمن الأخطاء) 1992، و(مجنون الورد)- 1979، و(الخيمة)- 1985، و(السوق الداخلي)- 1985، و(مسرحية السعادة)- 1994، و(غواية الشحرور الأبيض)- 1998، بالإضافة إلى مذكراته مع جان جنيه، بول بولز، وتينيسي وليامز.
ذو صلة