مجلة شهرية - العدد (590)  | نوفمبر 2025 م- جمادى الأولى 1447 هـ

نوبل في الأدب 2025 لازلو كراسناهوركاي..

قبل نحو شهر من إعلان اسم الفائز بجائزة (نوبل) في الأدب (2025) بدأ كاتب هذه السطور في البحث عن التوقعات بالأدباء والكتاب الأوفر حظاً لنيلها، وهل سيحصدها من هو خارج هذه التوقعات والترشيحات؟! فقد منحت العام الماضي، 2024 للمؤلفة الروائية والشاعرة الكورية الجنوبية (هان كانج) (مواليد 27 نوفمبر 1970). وذلك لكتاباتها الشعرية المكثفة التي تواجه الصدمات التاريخية وتكشف عن هشاشة الحياة البشرية. وقد تكرمت (المجلة العربية) في عددها (578)، بنشر سطورنا التعريفية بشخصية وأعمال هذه (النباتية) الكورية الجنوبية.
وفي ظهر يوم الخميس 9 أكتوبر 2025، أعلنت الأكاديمية السويدية عن رابع جوائز نوبل في الأدب (2025). ولم يكن (هاروكي موراكامي)، و(مارغريت أتوود)، و(كان شيويه)، و(سيزار آيرا)، و(جيرالد مورنان)، و(توماس بينشون) إلخ، هو الفائز بها وفقاً لتلك التوقعات. بل فاز بهــــا الكاتب والأديب والسيناريست المجري (لازلـــــو كراسنـــــاهوركــــــــــاي
(71László Krasznahorkaiعاماً). واختارت اللجنة تكريمه بفضل نتاجه المذهل والرؤيوي الذي يعيد التأكيد على قوة الفن في وسط رعب أقرب إلى نهاية العالم. ووصفت اللجنة الفائز بأنه: كاتب ملحمي عظيم في التقاليد الأوروبية الوسطى، التي تمتد من كافكا إلى توماس برنهارد، ويتميز بالعبثية، والمغالاة الهزلية. وأضافت: يتطلع (لازلو)، إلى الشرق أيضاً باعتماده نبرة أكثر تأملاً، ورهافة في تعابيره. والنتيجة هي سلسلة من الأعمال المستوحاة من الانطباعات العميقة التي تركتها رحلاته إلى الصين واليابان. وهو ثاني مجري يفوز بهذه الجائزة، بعد الأديب الراحل (إيمري كيرتيش) عام 2002. وفور فوزه بالجائزة المرموقة، صرح الكاتب لازلو كراسناهوركاي لإذاعة (سفريجيس) السويدية: أنا سعيد للغاية، وهادئ، ومتوتر للغاية في آن واحد، مضيفاً: هذا أول يوم لي كحائز على جائزة نوبل.
من سيرته ومسيرته
ولد لازلو كراسناهوركاي في الخامس من يناير 1954 في بلدة (جيولا) جنوب شرق المجر، وقرب الحدود الرومانية، حيث نشأ في بيئة ثقافية شجعته على القراءة والبحث في الفلسفة والفنون. لكن اتسمت بدايات مسيرته بعدم قدرته على السفر، إذ صادرت الشرطة السرية جواز سفره. لكنه تمكن من مغادرة المجر للمرة الأولى عام 1986 إلى برلين الغربية آنذاك. كان قد درس القانون في جامعة (سيجد)، ثم اتجه لاحقاً إلى الأدب. وما كان لـ(لازلو) أن يكتب لولا نداء شعري من (ريلكه)، فلم يكن يرغب في أن يصبح كاتباً، لكن حدثاً مجازياً، ونداءً شعرياً جاءه عبر الأزمان من الشاعر الألماني (راينر ماريا ريلكه)، وهمس في وجدانه عبر إحدى قصائده أن: (غيّر حياتك) فكتب أولى رواياته (تانغو الشيطان) (1985) قبل انهيار الاتحاد السوفيتي بسنوات قليلة. حيث كان المجتمع المجري يمور بإرهاصات التغيير القادم، والانتقال المفاجئ إلى عالم بملامح مختلفة تماماً عما اعتاده لأكثر من أربعين سنة، لكن همومه الحياتية كانت مقتصرة على متطلباته المعيشية المباشرة.
وغلب على روايات لازلو كراسناهوركاي، أحد أبرز أعلام السرد الأوروبي الحديث، ملمح (الصعوبة). كما صُنفت ضمن روايات ما بعد الحداثة، ذات الموضوعات (الديستوبية) العميقة. وتحول بعضها إلى أفلام روائية، بتعاونه مع المخرج المجري (بيلا تار)، مما منح جمهور السينما حول العالم إحساساً مباشراً بجو الكآبة والقلق الوجودي الذي يغلف أعماله الأولى. وهي روايته (تانغو الشيطان) (Satantango) (1985)، التي تم إنتاجها سينمائياً في فيلم مدته سبع ساعات، ونال استحساناً واسع النطاق. ودارت أحداث الرواية/الفيلم في قرية ريفية نائية ومهجورة مماثلة لبلدته التي ولد فيها. ويعيش أهلها في عزلة ويأس. ومن ثم يصل (إيريمياس)، الشخصية الرئيسة، وهو محتال ينتحل صفة المنقذ، إلى القرية، ويسيطر على سكانها سيطرة شبه مطلقة. فيجبرهم على إعطائه كل أموالهم التي كسبوها بشق الأنفس. ويقنعهم بالانتقال إلى ضيعة مهجورة أخرى قريبة، ثم يأخذهم إلى البلدة، حيث يوزعهم في أنحاء البلاد.
وقد أحدثت هذه البنية السردية الدائرية، أشبه برقصة جهنمية ترمز إلى الفساد والانهيار الأخلاقي، ضجة أدبية في المجر. وحققت نجاحاً باهراً، ونالت استحسان العديد من النقاد، لدرجة أنها حصلت على جائزة أفضل كتاب مترجم عام 2013 بعد تحويلها إلى اللغة الإنجليزية على يد المترجم (جورج زيرتس). وأيضاً حُولت رواية (مانيخوليا المقاومة) (1989) التي تفيض بشعور خانق لا يُطاق، وحاز عنها جائزة (مان بوكر) الدولية (2015) إلى شريط سينمائي ناجح.
وبعد سقوط الستار السوفيتي الحديدي، وجد كراسناهوركاي نوعاً من الحرية الفكرية، التي ظهرت بوضوح في أعماله مثل (الحرب والحرب) (بالهنغارية: Háború és háború) (1999)، ويحكي فيها عن قصة رجل مجري مهووس بمخطوطة غامضة، فيقرر السفر إلى مدينة نيويورك لتدوينها ونشرها على الإنترنت. وقد ترجمت هذه الرواية إلى الإنجليزية بواسطة (جورج سيرتس) عام 2006. وعنها كتب (جيمس وود) من مجلة (النيويوركر) عام 2011: هذه واحدة من أكثر التجارب المقلقة التي مررت بها كقارئ. مع نهاية الرواية، شعرتُ أنني اقتربتُ قدر الإمكان من عيش حياة شخص آخر، وتحديداً، عيش حياة عقلٍ غارق في دوامة (الحرب والحرب) - عقلٌ لا يخلو من رؤى الجمال، بل هو أيضاً عقلٌ غارق تماماً في خيالاته المتأججة التي يصعب التعبير عنها، وألمه الخصيب الغريب (الجنة حزينة).
وكذلك روايته (سيوبو هناك في الأسفل) (2008) التي تتعمق في الفلسفة والفن الآسيوي، وخصوصاً (البوذية). وحاول فيها الإجابة عن أسئلة: ما هو دور الفن في المستقبل؟ هل يمكن أن يحمل الفن خلاصاً أو فداءً؟ وقد أبان فيها عن أن الفن هو: (استجابة البشرية الاستثنائية لشعور الضياع الذي هو قدرنا). فالفن يتحدى المآسي. وأن الجمال موجود، لكنه يقبع وراء حدٍ لا يمكننا تجاوزه، لا يمكننا الإمساك به أو لمسه. يمكننا فقط التحديق فيه من هذا الحدّ والاعتراف بأنه، نعم، هناك بالفعل شيء ما هناك، بعيداً في الأفق. الجمال هو بناء، تركيب معقد من الأمل والنظام الأسمى.
أما روايته الأخيرة (هيرشت 07769) (2021)، فتضع (باخ) في مواجهة النازية الجديدة في ألمانيا. وفي قصته الجديدة (ملاك مرّ من فوقنا) وتدور أحداثها في أوكرانيا ونُشرت في The Yale Review. وفيها يعقد كراسناهوركاي مقارنة صارخة بين خنادق الحرب الطينية في أوكرانيا، وبين الوعود الخيالية للعولمة التكنولوجية. حيث يسلط الضوء على جنديين يحتضران في خندق. أحدهما يحاول إبقاء رفيقه المحتضر على قيد الحياة فيروي له قصة خرافية عن عجائب العولمة، ليمنحه تحت تأثير غريزة البقاء أملاً زائفاً. مما يخلق تناقضاً صارخاً بين واقع الحرب الدامي، وبين الأحلام التكنولوجية المشرقة، والعوالم الرقمية المتسارعة، والحديث عن الرحلات المرتقبة إلى المريخ.
أسلوب (سيد نهاية العالم)
على وجه العموم، يعكس أسلوب كراسناهوركاي الروائي الاستثنائي تمعنه في الواقع إلى حد الجنون، فتراه يجسد ويواجه نهاية العالم مع إصرار على واقعية الحاضر. ويتسم سرده الحكائي بالجمل الطويلة الكثيفة، غير المنقطعة، وذات المرونة شبه اللانهائية، والفقرات التي قلما تنتهي، فتلهث وراء نقطة نهايتها فلا تجد علامة ترقيم. فهو يرى أن التجارب الكبرى مثل الحب، وتلك التي تتطلب وقتاً وشجاعة للتعبير عنها لا يمكن حصرها في عبارات قصيرة. وتدفق كتاباته يحمل نزعة إنسانية عميقة. فهو لا يعتمد ذلك التيار الداخلي المجزأ الذي كان يسود (تيار الوعي) عند الحداثيين القدامى، بل يعكس فضولاً شاملاً تجاه العالم، يدفع القارئ للانجراف في تياره.
كما تراه يشيع أجواءً درامية، قاتمة وكثيفة، وتأملات فلسفية مع فكاهة ساخرة. حيث تمزج أعماله بين الأسطورة والواقع، وتستكشف مواضيع ورؤى وجودية، مثل: القلق، والفوضى، والانهيار، والعبثية، والمصير، والأمل، والفن. وتستقطب أعماله وكتبه قراء، خصوصاً في ألمانيا حيث عاش سنوات من عمره، وفي المجر حيث يعدّ من (أعظم) كتابها الأحياء. وخلال مسيرته الأدبية الحافلة، نال كراسناهوركاي العديد من الجوائز والتكريمات داخل المجر وخارجها، من أبرزها: جائزة الجمهورية المجرية، وجائزة كوشوت (Kossuth)، وجائزة ألفولد، وجائزة ساندور ماراي، وزمالة زسيجموند موريتش، وجائزة مان بوكر الدولية، وجائزة إذاعة الجنوب الغربي للمتصدرين، وجائزة فيلينيكا، وجائزة أمريكا في الآداب، وجائزة جمعية الكتاب. مما يعكس مكان ومكانة ما وصفته به الكاتبة والناقدة (سوزان سونتاغ) بأنه: (سيد نهاية العالم) الذي لا يعتبرها لحظة واحدة، بل عملية ممتدة منذ زمن طويل، وستستمر كذلك.
ذو صلة