مجلة شهرية - العدد (590)  | نوفمبر 2025 م- جمادى الأولى 1447 هـ

أولغا توكارتشوك في (الرحالة) أدب يتجاوز الحدود الجغرافية والروحية

حصدت الروائية البولندية أولغا توكارتشوك، شهرة عالمية بعد فوزها بجائزة نوبل في الأدب عام 2018 (أُعلنت عام 2019) فضلاً عن نيل روايتها (الرحالة) جائزة البوكر العالمية في نفس العام. وتعد هذه الرواية أحد أعمالها تعقيداً وتعدداً في التكوين، فهي عمل أدبي يتجاوز التقاليد السردية المألوفة، بل يشكل انعكاساً عميقاً للحالة الإنسانية المعاصرة، والتجربة الوجودية للتيه والتنقل والانفصال عن الجذور. فرواية الرحالة ليست رواية تقليدية تُروى بخط زمني مستقيم، بل هي فسيفساء من القصص، والتأملات، والسرديات القصيرة التي تتقاطع فيما بينها حول محور واحد، كونها مبنية بطريقة تجعل القارئ يتحول هو نفسه إلى رحالة، متنقلاً بين الأصوات والشخصيات والمواقع دون يقين تام، ما يخلق حالة من اللاستقرار البنيوي تتماشى مع مضمونها، أي السفر كقيمة فلسفية ووجودية.
السفر مرآة للروح وتفكك الهوية والقلق الوجودي
الرواية في جوهرها، عمل رمزي بامتياز، فالسفر عند توكارتشوك، لا يُختزل في التنقل الجغرافي، بل يمثل نزوعاً داخلياً للتخلص من ثقل الهوية الثابتة، والسكون، والجمود. فهي تطرح (أطروحة فلسفية وجودية) أن الإنسان في طبيعته كائن متغير، لا يمكن احتواؤه ضمن حدود وطن أو جسد أو اسم. في هذا السياق، يبرز عنوان الرواية نفسه، (Bieguni) في اللغة البولندية، والذي يشير إلى طائفة دينية قديمة اعتقدت أن الشر لا يمكنه الإمساك بك إن لم تتوقف عن الحركة، وكأن في التنقل خلاصاً من سيطرة السلطة، المرض، والموت.
تستكشف الرواية من خلال شخصياتها المتعددة حالة الإنسان المعاصر المحاط باللايقين، والقلق، والرغبة في الهروب من الأنظمة الاجتماعية والبيولوجية المقيدة. نجد مثلاً الطبيب الذي يحفظ الأعضاء البشرية، أو المسافرة التي ترفض العودة إلى منزلها، أو الأم التي تبحث عن طفلها المختفي في مطار. كل هؤلاء يعبّرون عن تشظي الهوية، وانعدام الإحساس بالانتماء، وهو ما يُعد أحد أبرز سمات الأدب ما بعد الحداثة.
فالرواية تتميز باستخدامها الأسلوب التوروي (Ironic Ambiguity) الذي يخلق توازياً بين المعاني السطحية والعميقة، إذ قد تتحدث الرواية عن مطارات وطرق سريعة، لكنها في العمق تحاور مفاهيم مثل: الخلود الزائف في حضارة السرعة، والسلطة الخفية وراء الجغرافيا، كذلك الرقابة على الجسد عبر الأنظمة الطبية والاجتماعية. إذن. البنية السردية غير الخطية هي أيضاً أداة فنية تُسهم في تفكيك التقاليد الروائية، وتُشرك القارئ في إنتاج المعنى بدلاً من تلقيه بشكل سلبي.
انعكاسات الرواية على الأدب العربي
رغم أن الرواية تنتمي إلى السياق الأوروبي، إلا أن تأثيرها يمكن تتبّعه في بعض التوجهات الأدبية العربية الحديثة، خصوصاً في اهتمام بعض الكتّاب العرب بالتيه والشتات كموضوع وجودي. (كما في أعمال إلياس خوري أو ربيع جابر). كذلك تجريب الأساليب اللاخطية، حيث باتت بعض الروايات العربية تتجه نحو بنى متفككة ومتعددة الأصوات، وهو ما يشبه ما فعلته توكارتشوك، بالإضافة إلى تقديم الجسد كفضاء سردي، خصوصاً في الأدب النسوي العربي، كأعمال إيناس عبدالدائم أو رجاء عالم. ومع ذلك، يبقى تأثير رواية الرحالة في الأدب العربي محدوداً ومركزياً على المستوى النخبوي، لكونها رواية ذات طابع تجريبي شديد التعقيد لا يتماشى دوماً مع الذائقة السائدة أو البنية الثقافية للقراء العرب.
بين رواية الرحالة والرواية العراقية
وللسعي في الولوج إلى المقارنة بين رواية الرحالة ونموذج من الرواية العراقية، في محور الشتات والتيه الوجودي، خصوصاً بعد الاحتلال الأمريكي 2003، التي عكست تيهاً روحياً ومكانياً مشابهاً لما تقوله توكارتشوك عن فكرة (السفر كخلاص). ففي رواية (فرانكشتاين في بغداد) للكاتب أحمد السعداوي (الحاصل على البوكر 2014)، التي تصور بغداد كمكان مفكك، والجسد (الشسمة) كرمز لانهيار المعنى، إذ تتشابه مع الرحالة في استحضار الجسد كمرآة للواقع السياسي، وإن كان جسد توكارتشوك يحمل طابعاً فلسفياً أكثر، بينما الجسد في رواية سعداوي مشحون سياسياً.
في حين مقارنة مع رواية (طشاري) للكاتبة إنعام كجه جي، التي تروي عن طبيبة عراقية مهاجرة تتنقل بين الدول، مما يعكس مفهوم الشتات والهجرة القسرية، وهو قريب من مفهوم (التنقل كهوية) لدى توكارتشوك، لكن عند إنعام كجه جي السفر مفروض، بينما توكار تشوك خيار فلسفي. فأوجه التقاطع هنا، أولاً التفكك النفسي والتأريخي وثانياً السفر كفقدان لا اكتشاف.
في حين أوجه الاختلاف، الرواية العراقية غالباً تُكتب من داخل سياق الحروب والتأريخ السياسي، أما توكارتشوك، فهي تمارس التجريد والتفلسف بعيداً عن الواقعية الثقيلة.
فرواية الرحالة أقل اشتباكاً مع السياسة المباشرة، حيث الكاتبة تنطلق من مفهوم التيه، والرحلة عندها وجودية - فلسفية، لا زمن لها ولا مكان. لا يوجد (بطل) واضح، بل وعي متشظّ يتنقّل، تسرد من خارج الأنا القومية أو السياسة. فالرواية ترفض الاستقرار وتسائل عن معنى الوطن والجسد والسلطة. فالكاتبة، تكتب من فضاء لا وطني، كما هو عليه الحال أو المتعارف عليه لدى الكثير من كتّاب الرواية. فهي تستخدم الفنون والعلوم كعدسة لفهم العالم، وشخصياتها تبحث عن معنى خارج المألوف، كما تستخدم الغموض والأسلوب التجريبي أكثر وتُعيد إنتاج الزمان والمكان بطريقة فلسفية، وتنزع القداسة عن الأمكنة، لأنها تبحث عن معنى الإنسان في عالم مضطرب، وتُذيب الحدود وتُفكك الهُوية إلى عناصر طافية، كي تسعى لتجاوز الزمان والمكان نحو التجريد.
هل يمكن أن تؤثر (الرحالة) في الرواية العربية؟
يمكن القول إن التأثير بدأ فعلاً في توجه بعض الأصوات الجديدة نحو التحرر من المركزية الزمانية والمكانية في السرد، وإعادة التفكير في (الذات العربية) بوصفها ذاتاً عابرة، لا ثابتة، وإدخال عناصر فلسفية ونفسية على الحبكة بعيداً عن الثيمات السياسية التقليدية. لكن يبقى التحدي في مدى قابلية القارئ العربي لتلقي هذا النوع من الكتابة ذات الطابع التجريبي والتأملي، في ظل واقع اجتماعي وثقافي شديد التشبث بالبنية التقليدية.
أدب يعبر الحدود
فالرحالة ليست فقط رواية عن السفر، بل هي سفر بحد ذاته داخل الذات، واللغة، والأسلوب، والحدود المتغيرة للهوية الإنسانية. إن ما يميز أولغا توكارتشوك هو قدرتها على اختراق المفاهيم السائدة عن الرواية والإنسان، عبر طرح أدبي فريد يجمع بين الفلسفة، والسرد، والتجريب. ومع أن الرواية لا تُشبه تقاليد السرد العربي الكلاسيكي، إلا أنها تفتح المجال أمام الكتّاب العرب للتفكير في إمكانيات جديدة للرواية كفن، وكوسيلة لفهم الذات في عالم يتغير دون توقف.
في رواية الرحالة، تنجح أولغا توكارتشوك في تجاوز الحدود المرسومة بين الأجساد والخرائط، بين الزمن والمكان، وبين الذاتي والكوني. إنها لا تروي فقط قصص مسافرين، بل تحفر في عمق التجربة الإنسانية، كاشفة عن هشاشتنا وشغفنا الأبدي بالرحيل. عبر سرد فسيفسائي مفتوح، فهي تقدم أدباً لا يعترف بالحدود، بل يحتفي بالتنقل، بالتغيير، وبالتحول الدائم. شخصياتها لا تبحث عن وطن ثابت، بل عن معنى في الحركة نفسها، عن إدراك يتشكل عبر العبور المستمر. وفي عالمنا المعاصر، حيث تتقاطع الأزمات بالهويات، تبدو الرحالة أكثر من مجرد رواية، إنها دعوة للتفكر في الذات والعالم من منظور متحرر، عابر، متصل بما هو إنساني في جوهره. بذلك، تؤكد توكار تشكوك مكانتها ككاتبة عالمية، تكتب من بولندا، ولكن بصوت يتردد صداه عبر قارات الروح.
ذو صلة