مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

د. لطيفة لبصير :أنا في لحظة وئام مع قراء الزمن المعاصر

حوار: عبدالرحمن الخضيري


انطلقت من الرغبة في التعرف على الجنس الذي برزت من خلاله (القصة) لتستمر في رواية محكياتها المنسوجة بالإبداع والجمال، كتبت عما بدواخلنا وتحدثت بأصواتنا. الدكتورة لطيفة لبصير أكاديمية وناقدة وقاصة سعيدة باستيعاب شباب اليوم لعوالمها القصصية لدرجة أنها تقول أنا في وئام مع قراء العصر الذي تداخلت فيه عوامل متعددة وأثرت به. لديها اهتمام واضح في الأدب الشخصي , صدر لها مجموعة من المؤلفات والدراسات والبحوث بذلك منها كتاب (محكيات نسائية لها طعم النارنج) ومؤخراً صدر لها (الجنس الملتبس: السيرة الذاتية النسائية). في حوارنا معها تطلبنا بأن نثق بأعمال إبداعية عربية شكلت علامات فارقة في المشهد العربي وهي بذلك كأنها ترد -دون قصد- على أصوات تبرز من حين وآخر تقزم من المنتج الأدبي العربي مقابل الآداب العالمية الأخرى. وتعد (لطيفة لبصير) واحدة من مبدعات العرب المميزات في مجال كتابة القصة القصيرة. إضافة إلى جانب انشغالها الأكاديمي بتدريس النقد الحديث داخل جامعة الحسن الثاني. أصدرت مجموعة مؤلفات أدبية أبرزها: (رغبة فقط)، (ضفائر)، (عناق)، (يحدث في تلك الغرفة).
في البداية اسمحي لي بتهنئتك بحصولك على جائزة الشباب للكتاب المغربي في دورتها الرابعة في فئة القصة القصيرة عن مجموعتك القصصية (يحدث في تلك الغرفة) وماذا يعني لك هذا الإنجاز؟
 - هذا الإنجاز يعني لي الكثير لأنه جائزة القراء الشباب أولاً، وهذا معناه أن الشباب قد استقبلوا عوالمي القصصية بشكل إيجابي، وقد كنت أعتقد أن هذه المجموعة القصصية بالذات، نظراً لبناءاتها النفسية المعقدة، لن يكون لها تلق جيد من طرف القراء الشباب، لكنني تفاجأت وأنا أستمع للشباب وهم يتحدثون عنها، وأدركت أن عوالمها التركيبية التي بنيت على شخصيات نفسية وفكرية وفنية لها تاريخها المرجعي مثل شخصية فرويد وسالفادور دالي وفان جوخ قد تم تلقيها وتأويلها من طرف القراء الشباب، ويحدث في تلك الغرفة بنيت على الغرفة كمكان أولاً تحدث فيه الأحداث، وثانياً على العوالم السحيقة في الذات الإنسانية وما يعيش بداخلها من تخيلات ومراتب قد لا تحدث في الواقع أصلاً، مثل شخصيات كثيرة من مجموعتي وقع لها تحول مفاجئ مثل رجل يصاب بالهزال في ليلة واحدة، أو طبيبة تعشق جثة رجل كانت تقوم بتشريحها، أو امرأة تصاب بداء التبسم الدائم، كل ما يحدث لهم، يحدث في تلك الغرفة التي يضيؤها الرواة عن ذواتهم ويشعلها حس القراء والنقاد وتآويلهم. أتصور أن القراء لهم إضافاتهم الخاصة وحتى هلوساتهم التي يمكن أن يسقطوها على عوالم الكتابة، لذا كنت سعيدة جداً بهذا التتويج المميز لأنه يجعلني في لحظة وئام نسبي مع قراء الزمن المعاصر الذي تداخلت فيه عوامل عدة لا نستطيع حصرها.
أدب الشباب كيف تنظرين له؟
- أدب الشباب هو صعب في ظل التحولات الحديثة، فهناك نوعان من الأدب، هناك قصص هادئة وكأنها تسبح في ملكوت الماضي بحبكتها المألوفة وتطورها الدرامي الذي يتصاعد مع تشويق مثير للقارئ، وهناك أدب يخضع لما تقتضيه الآن ظروف القراء، وهو ينبني على عوالم عنيفة ومتخيلة إلى أبعد الحدود، وهو يضع مؤلف أدب الشباب في مأزق، فهو بين راغب في السكينة فيبدو أدبه بالنسبة للبعض وكأنه لا يعبر عن الجيل الآن، أو أنه يبحث ضمن العنف عن متكأ فيصبح داعياً للعنف، ولكم أتمنى أن يكتب الشباب أدبهم بأنفسهم لأنهم وحدهم من يستطيعون النفاذ إلى حقيقة توجهاتهم الخاصة.
في زمن التقنية الهائلة والتطورات غير المسبوقة في العلوم التجريبية رافق ذلك انحسارٌ (نوعاً ما) للفنون والآداب. ماهو تقييمك للعلاقة بين الأدب والواقع؟ وهل سيؤثر الأدب في وجدان البشر مع هذه المتغيرات؟
 - أتصور أن المشاعر والأحاسيس هي في حاجة دائمة لأن تكون شاهدة على تاريخ الإنسان وتاريخ الأفكار أيضاً، مهما علا شأن العلوم التجريبية لأنه كل ما يحدث تطور هائل على مستوى التقنيات والاختراعات، يظل الأدب منصتاً لنبض الإنسان وإلا ما كنا لننام مثلاً في أمكنة لم يسبق أن زرناها وصلتنا عن طريق الإبداع بلغة خاصة، وحتى بالنسبة للفن الذي يمتعنا بصرياً وحسياً، بل يمكن للتقنيات أن تفيد الأدب أيضاً والفن على السواء، والدليل على ذلك ما يحدث الآن من تحولات بالنسبة للأديب والفنان؛ فالعديد من الكتاب لهم مواقع على النت، ولهم مدونات رقمية تفاعلية مع العديد من القراء، يتواصلون مع العالم عن طريق العديد من التقنيات الحديثة وعن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، يعمدون إلى إشهار كتبهم عبر العديد من الوسائل السمعية البصرية، وكل هذا يفيد الإبداع.
يتحول الأدب على مر العصور، لكنه يعود إلى مصدره الأساسي الذي يكمن في الإنسان نفسه، فهو مهما غير من عناصره الأساسية في قول الأدب، إلا أنه يقول الأدب بطريقته سواء تخييلاً أو واقعاً أو فانتاستيكاً أو خيالاً علمياً إلى غيرها، والأدب باق ما دامت البشرية باقية، ألم يتحدث النقد في زمن سابق عن موت الأدب ونهاية الأدب ومآله إلى الزوال ولكن رغم ذلك ما زال هناك قول الأدب بطرق شتى.
في عصرنا الحاضر الذي يطلق عليه (عصر المدن المتعددة الثقافات) لماذا تتمسك معظم الروايات العربية وتدور حول الثالوث التقليدي (السياسة والجنس واتهام الدين)؟
- هناك الكثير من الروايات تحفل بهذا الثالوث، لكنني لا أتصور أن نسبة كبرى منها تتهم الدين، في كثير من الأحيان هناك اتهام للذين يتاجرون بالدين أو يتكئون عليه لقضاء مآربهم الخاصة، وهناك أيضاً سوء فهم للدين أو اتجار العديد من دول الغرب بالعامل الديني للعرب للسيطرة عليهم، وهو محور ما زال قائماً والسبب في حضوره لهذه الدرجة يعود إلى أننا ما زلنا نرزح تحت وطأته، لهذا يحضر بنفس القوة، ولا ندعي أننا سنتخلص من العديد من التبعات الماضوية بسهولة ويسر وننفض أيدينا كأن شيئاً لم يكن، بل ما زلنا سنعاني بأشكال متعددة، لأن الدين عالمياً يتم توظيفه للتفرقة بين أبناء نفس الوطن، فبالأحرى بين الشعوب، وأنا أتصور أنها إيديولوجيات تورث وتتناسل مع الإرث الحضاري أيضاً، ولا أتصورها ثالوثاً محرماً، ولكنه ينتعش مع كل الأجيال بصورة مغايرة، وهو ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى هذه الحمم التي تشتعل بين الفينة والأخرى.
من سيقرأ هذه الروايات بعد عشر سنوات أو خمسين سنة؟
- كما قرأنا نحن رواية (بديعة وفؤاد) لعفيفة كرم و(زينب) لهيكل و(المحاكمة) لكافكا و(الغريب) لألبير كامي واللائحة طويلة.
لماذا لا يجتهد معظم كتابنا في الخلق الفني والابتكار بدلاً من تكرار نفس التيمات بتنويعات مختلفة؟
- على العكس تماماً، أرى أنه رغم وجود العديد من الأعمال التي تكرر بشكل مماثل الأعمال الروائية التي سبقتها، إلا أن هناك اشتغالاً وصنعة أيضاً في أعمال أخرى ولعلي لست عدمية إلى الحد الذي يجعلني أقول إن الابداع الحالي لا يأتي بشيء جديد، بل أرى الإبداع يتنفس الكثير من الأجناس الأخرى ويتأثر بظهور الشائعات ورواج الأقوال وصدى ما يحدث في العالم ويعيد إنتاجه ضمن نصوص معاصرة، وأعطي مثالاً فقط برواية جميلة للكاتبة الكويتية بثينة العيسى وهي (عروس المطر) التي أبدعت في الشكل الروائي والتقنيات وغيرها كثير.
ماهو تعريف الأدب العالمي وهل هو مجرد ترجمة رواية من العربية إلى لغة أخرى يعني أنها أصبحت رواية عالمية؟
 - في الحقيقة ترجمة عمل إلى لغة أخرى لا يعني الوصول إلى العالمية، وأرى أن هذا الدور ينبغي أن يقوم به الوسطاء الثقافيون، لأن دور الوسيط الثقافي هو التعريف بالعمل الجيد إلى الآخرين قبل أن يؤول إلى الترجمة، ومع الأسف هناك أدوار عدة يقوم بها الوسيط، هي أنه في كثير من الأحيان يقدم الأدب الذي يطبع صورة سلبية مثلاً عن الوطن، أو يبحث عن الأدب الذي يكون حوله ضجيج جنسي، بحيث تصبح بعض المحاور فقط هي العين الأخرى التي يرانا بها الآخرون، والعديد من الكتاب تم إغفالهم ونسيانهم وفي بعض الأحيان يتم إحياؤهم لدى وفاتهم كما حدث للكثيرين، لذا لا أتخيل أن الترجمة وحدها كافية بحظوة العالمية، بل ينبغي أن تكون معها التوابل الكافية لطهي جيد، ما دام العديد من كتابنا الجيدين لم يحظوا بالعالمية.
من من كتابنا / روايات ذاع صيته خارج خارطة المنطقة العربية ويقال عنه إنه علم يشار له مثل (ماركيز) وروايته مائة عام من العزلة؟
- أرى أن جبران خليل جبران من الكتاب الذين حظوا بهذا الاكتساح للعالمية لأن أدبه وفنه أيضاً معروف ومتداول، وقد كانت وراء انتشاره عالمياً ماري هاسكل التي قدمته للعالمية عبر فنه التشكيلي أو عبر أعماله التي حققت انتشاراً واسعاً، ولغته المختلفة النثرية الشعرية في آن معاً، كما أن فلسفته تقدم معنى أبدياً للأدب.
هل ينظر الناقد والقارئ الآخر / الأجنبي للرواية العربية على أنها على قدم المساواة مع الرواية الروسية.. اللاتينية... إلخ؟
- في الحقيقة ينبغي أن نثق نحن أولاً في أعمال أدبية تشكل علامات فارقة في المشهد العربي، لذا ينبغي أن نكون نحن أولاً من يثمن هذه الأعمال ويعلي من شأنها، أتخيل أنني كنت أقف مشدودة أمام أعمال عبدالرحمن منيف الإبداعية الثرة، ويكفي أن نرى بأن خماسية (مدن الملح) من النصوص التي تواجه الأدب العالمي، لأنه عمل ضخم جداً، ويكفي حجم الشخصيات التي كان يحركها طيلة الخماسية بأسلوب سلس وكأنه ينهل من ماء عذب، لا أتصور أن هذا العمل يقل في شيء عن أدب عالمي، ولو أنه كان قادماً إلينا من الغرب، لكنا نتعامل معه بصورة الانبهار.
صدر مؤخراً كتابك الجنس الملتبس / السيرة الذاتية النسائية عن المركز الثقافي للكتاب، لماذا هذا الانشغال بالأدب الشخصي؟
- أعتبر بأن الذات وهي تفصح عن نفسها تدخل في مأزق مجابهة الواقع وتخاف منه بشكل من الأشكال، لذا فانشغالي بالأدب الشخصي مرده البحث أولاً عن أصول ما يحدث للمبدعين، مثلما قرأت سير الكثير من المبدعين وأغرمت بها، مثل مي زيادة وفيرجينا وولف وسالفادور دالي وفان جوخ، فأغرب ما يحدث في الإبداع يعود بالدرجة الأولى إلى محكي الانتساب العائلي، هذا العطب الذي أنتج إبداعات الإنسانية على السواء، وهو الشق المثير جداً، فالعديد من الكتاب يزورون خطاباتهم حول ذواتهم، ولكن في قلب التزوير تنمو حقيقة الشخص، لأن الشخص نفسه لا يدرك حقيقته الخاصة، لذلك هو يقدمها كما يراها عبر مجازات وصور وعبر بلاغات تشبه كائناً ما.
لدي اهتمام بهذا الأدب الشخصي، وقد أصدرت أيضاً كتاباً يحمل عنوان (محكيات نسائية، لها طعم النارنج)، وهو يحكي عن نساء يتحدثن عن حياتهن بشكل مختصر، وضمن كل حكاية هناك عبرة وحكمة من تجربة. أتصور أننا في حاجة إلى الواقع أيضاً مثلما نحن في حاجة للخيال، غير أن الواقع نفسه أصبح يغذيه الخيال اليومي الغارق في التحولات الرقمية السريعة، لذا هو جزء مما يحدث الآن للبشرية.

ذو صلة