مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

محمد عطية محمود: الكتابة الروائية ضرورة لأنها تستطيع استيعاب كل شيء

حوار/ عِذاب الركابي: مصر


كاتب مثابر، والكتابة لديه إلهام وتراكمات نفسية وذهنية، ونزيف روح وجسد، من المكتوب والمنطوق إلى البصري، وهو يتكئ على لغة مبتكرة، بلاغتها تحوي ألواناً من الجذب والمتعة والعمق، لغة متميزة، خليط محبب من الشعر والنثر وفتافيت حلم لا ينتهي!
المحطة الأعظم في عالم وفضاء الكتابة (القصة القصيرة) وقد أضاءت الطريق إلى الرواية، وأهدت له مفاتيح الدخول إلى عوالمها البعيدة، حلم منغم بالكلمات، بلون العشق، وبسحر الدفء، وبكل شفافية الإبداع. وهو يبحر واثقاً إلى فنون الكتابة الأخرى.
الكاتب المثابر محمد عطية محمود والكتابة - الإبداع الموازي للحياة، وهي نبض الحياة الذي لا يعرف التوقف، وفق عقارب ساعة القلب وكهرباء الجسد.
وليس إلا الكتابة! المخاض الغامض، وهو ينطوي على شحنة كهربائية ممغنطة بمجاز لحظة التجلي. ولديه لقراء المجلة العربية الكثير من دفء الحديث.

الناقد والقاص محمد عطية محمود، إبحار دائم، والزورق هادئ، شفاف الظلال، والبحر عميق مراوغ، والمغامرة - الكتابة في جينات عاصفة، قصة قصيرة، ورواية، ونقد، وقصص قصيرة جداً، وقصص للأطفال، أهي ديكتاتورية الكتابة أم هي لحظة التجلي، أم هو الوقوع بحب الكلمات.. حدثني؟
- الكتابة في مقامها الأول إلهام، وتراكمات نفسية وذهنية، وثقافة بصرية، وامتداد لخبرات مختزنة مع تجارب الواقع وصوره، في النهاية يفرض النص سلطته، ويطرح شكله. في البداية كان الجنين الشعري بما تحمله هذه الصفة من إرهاصات ربما تحولت إلى تجليات في صورة (القصة القصيرة) المحطة الأقرب إلى القلب، والقنطرة إلى الوقوع في غرام (الرواية) كبوتقة تجمع فيها اللحظات الممتدة، فضلاً عن رهافة (القصة القصيرة جداً)، ما يوقع في النفس نوعاً من الترصد لكل ذلك من خلال (النقد) الذي تراه من خلال الإبداع، تلك هي السلسلة الملضومة بإحكام، قد يجعلك تطل يوماً ما على عالم طفولتك كي تلتقط أنفاسك فيه.
الكتابة نزيف الذات المجبولة على الأسئلة
7 مجموعات قصصية، وقصة للأطفال، و3 روايات، و8 كتب نقدية برصيد إبداعي قائم على الأسئلة. ما سؤالك الأعظم في كل هذا النزيف؟ أين وجدت نفسك في فضاء الكلمات، وهي تكتب نفسها، وتشير إلى ما بعد الكلمات، وما بعد الخيال؟
- الفيض الإبداعي لا يتوقف عند الكاتب طالما هو يضع نصب عينيه وجوارحه فعل الكتابة القائم على التعايش والمجاورة، والمحاورة مع الأسئلة التي لا تتوقف، هو بالفعل نزيف الروح وهي تبحث عن ضالتها في كل تلك الصور المتعددة التي لا أراها تنفصل بقدر ما تتكامل وتتصل في حلقة كبيرة لا يفصمها فاصم، ربما وجدت نفسي في كل هؤلاء دون مبالغة ودون تزيد ولا إقحام لنفسي في مشهد ليس لي، لأن البوابة الرئيسة انفتحت وتركتك داخل الساحة تتسابق وتتصارع مع ذاتك المجبولة على أسئلة ممتدة التي تفتح لك بوابات الخيال وتجليات الواقع معاً.
(إن الرواية ستكتسح كل شيء) - سانت بيف. وهذا (ميلان كونديرا) يرى (أن السبب الوحيد لوجود الرواية، هو أنها تقول شيئاً، لا يمكن أن تقوله سوى الرواية). ألهذا السبب يهاجر الكتاب والشعراء والفنانون والنقاد هجرة شرعية إلى الرواية؟ أهو اللهاث إلى لقب الروائي؟ أم هي الجوائز؟ أم هم الناشرون الذين يتركون فنون الكتابة الأخرى في صقيع الواقع؟ أم ماذا؟
- الكتابة الروائية ضرورة لأنها تستطيع استيعاب كل شيء وكل الأشكال وكل الفنون. لا مجال لمقارنتها بأي فن سردي آخر لأنها تحوي كل ذلك، وربما اعتمدت عليه في وشيجة مختلفة إن توسمت فنياتها وتجريبيتها وملامح التجديد فيها، صارت جدارية واسعة يعمل فيها الموزاييك/ فعل التجاوز والتناغم عمله الفني الرائع الذي يجذب العين واللب والذهن معاً. هي معادلة واجبة، وقد تنوعت وصارت تثير أسئلة كبرى، وأرى أن الزج بها في المسابقات والجوائز هو انتفاع بأهمية الرواية وليس ترويجاً لها، ذلك أنها صارت تمثل تعبيراً عن الاحتياجات الكبرى وللنظرة الشمولية للعالم، وإن تكونت في أصلها من اللحظات الفاتنة التي يثيرها كل من الشعر والقصة.
مارستَ النقدَ، والناقد متهم أبداً، وبريء نادراً، ولدى بعض الكتاب في بورتريه كاريكاتوري، فهو (بائع ملابس مستعملة، أو مجرد قاطع تذاكر في حافلة) كما يراه (ماكدونالد)، و(لم أقابل كاتباً بعد واجه ذلك المخلوق النادر، الناقد الحقيقي) كما تقول دوريس ليسنج، والعملية النقدية هي: (استئصال للرحم في مجرفة) كما يرى صموئيل بيكيت. أهي دعوة لموت الناقد؟ وهل لدينا حركة نقدية جادة مواكبة لهذا التفجر الإبداعي؟
- (الأدب -عموماً- ليس بريئاً) كما قال (تودوروف)، فما بالك والنقد، وخصوصاً إن كان متربصاً بالإبداع في أية صورة من صور تربصه، فبالآلية نفسها كلاهما مدين، وكلاهما مكشوف للآخر في لعبة تبادل أدوار يدعي كل منهما بموت الآخر: (المؤلف)، و(الناقد) ولكل اتجاه نظرياته التي لا أراها تثمر إلا الضجيج.. لكن على الجانب الآخر هناك ناقد موجود وكاتب موجود، وهناك حراك وهناك حركة نقدية ولكنها ليست منصفة لأنها تتعامل مع القشرة الخارجية للإبداع، وللكتاب تحت دائرة الأضواء المصنوعة، فضلاً عن (الجيتوهات) التي تقصي الخارج عنها وتبتلع كل شيء لصالحها، في حالة من حالات التفجر الكتابي وليس الإبداعي، لأن الساحة تكتظ وتحتبل بالكثير!
ظل (جونتر جراس) شهوراً طويلة يبحث عن جملة يبدأ فيها روايته الشهيرة (طبل الصفيح) و(إمبرتو إيكو) كتب (اسم الوردة) في ثماني سنوات، وهناك من يكتب عبارة واحدة عشرات المرات، وربما في أسبوع يكتب صفحتين أو ثلاثاً.. ولدينا ظاهرة استسهال الكتابة ماذا تقول؟ والرواية (كم) وليس (كيف) كما يرى بعض النقاد؟ لماذا برأيك؟
- كما قلنا الساحة تكتظ، والمطابع تطرح، والمجاملات والإمكانيات تحاول فرض ذائقة مختلفة موظفة لاستيعاب الجميع، وإن كان الميل نحو الفراغ الإبداعي نحو أشكال غريبة من الرواية تدعي المغايرة والتجديد وهي تفرغ الرواية من محتواها ورسالتها وفنيتها، لكن ما زال الكاتب المبدع يحدب على جملته، ويجودها ويعيد صياغتها بما يشبع نهمه للإبداع، ويتعامل مع منطق الكيف المبدع وليس الكم الفارغ المتشظي بفعل الاستسهال واستدراج المتلقي والناقد إلى هاوية وانحدار في الذائقة.
لا يمكن للكاتب إلا أن يكتب عن حياته الخاصة.. ما رأيك؟ هل الكاتب نص يواصل كتابة ذاته - كما يقول (بورخيس)؟ هل أنت قصصك ورواياتك وكل نثرك ومادة ما تكتب؟
- أنا في كل ما أكتب روح وذهن، وفي بعض ما أكتب جسد ودم ولحم، لا أستطيع الانفصال التام عن ذاتي، فمن خلالها أرى ما لا يراه غيري، كي أستطيع التعبير عن كل تلك الذوات الساعية في كتاباتي، إبداعاً ونقداً، لأني إن لم أر ذاتي لن أستطيع رؤية الآخرين، ولا التعبير عنهم وعني من خلالهم، هي أقرب إلى علاقة الروح.
حصلت على عدة جوائز أدبية وإبداعية.. كيف ترى الجائزة؟ أهي مسؤولية أكبر، وخوف يطارد حروف العمل القادم؟ أم هي الحافز على المزيد؟ أم ماذا؟
- الجائزة المنصفة لكتاباتي -قبل أن تكون مادية صرفة- هي مكافأة رمزية وأدبية تدلل في معناها الداخلي عن جدارة وشفافية لا نصادفها كثيراً، وتبقى معي كي تذكرني أني ربما كنت جيداً في هذا العمل والظرف الاستثنائي الذي جعلني أنالها، وحتى أشعر أن علي المزيد من الجهد والإبداع كي أحصل على ما هو أفضل منها، وهذا شيء طبيعي مع الحرص على أن تكون محفزاً لي على الاستمرار وليس على التشبع والامتلاء والركون إليها!
تقول الروائية كارول أوتيس: (أشعر بالخوف دائماً، ولكنني عندما أكتب أعيش حالة من الاهتياج والإثارة) مم يخاف الكاتب؟ وماذا تشعر لحظة الكتابة؟ أهي كهرباء روح وجسد معاً؟ حدثني!
- الكتابة لا شك مصدر سعادة وألم في الوقت ذاته، وهي كيمياء روح وجسد وذهن، ولحظات الكتابة تتقاسم بين التشبع بالقدرة على المضي فيها كالسهم المارق المتألق، أو الرهبة منها أو من الفشل فيها تحديداً أو العجز، لكن هذا الشعور الأخير شعور فطري يتلاشى كلما عاندت ومضيت شاهراً سلاحك في وجه الواقع. ذلك هو تجسيد شعور الكتابة في لحظاتها الوامضة والمنتصرة والمنكسرة والعائدة مرة أخرى إلى المضمار بروح متجددة.

ذو صلة