مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

فاطمة بن محمود: هذا ردي على من يرى القصة القصيرة جداً (تعبير فائض عن الحاجة)!

حوار/ عِذاب الركابيّ: مصر


الكاتبة والروائية التونسية فاطمة بن محمود.. والكتابة حياة!
والكاتب والمبدع مخلوق بياني.. ورق وحبر، أنين وطرب روحٍ معاً، حلم وحقيقة، ولادة وموت!
كل الأشكال الإبداعية لديها تُكمّلُ بعضها، وهي خلاصة بوح مضن، وصلاة الروح التي وضوؤها حلم لا ينتهي!
فاطمة بن محمود، الشاعرة والساردة والفنانة التشكيلية، والكتابة هي كل ما يبقى من المبدع / الكائن الأثيريّ الساحر، وكأنها تهتف مع هولدرلين كل لحظة إيحاء: (يبقى على الأرض ما يتركه الشعراء). الكتابة متعة وألم، يصعب الانفصال بينهما!
لا تبدو الكتابة لديها لحظة بحث عن عشبة الخلود التي حيرت جدنا العظيم (جلجامش) فحسب، بل هي لحظة مريرة للفتك بالموت. لحظة موت الموت، وصنع حياة الحياة!
فاطمة بن محمود والإبداع لحظتان: سرد خرافي -لحظة الفكر.. وقصائد متمردة- لحظة الحلم! والإبداع سؤال، وهو نضج الفكر - حسب موريس بلانشو.. سؤال لا ينتظرُ الإجابة الظامئة!
عاشقة للفلسفة.. وليسَت هناك فواصلُ لديها بين الفلسفة والكتابة، إذ كلتاهما إبداع، يظلُ سؤالاً وجودياً حائراً!

مَن فاطمة بن محمود؟ لو أردتِ أن ترسمي بورتريهاً لنفسك، يستلف بعض ظلال القصيدة ماذا تقولين؟
- قال شيخنا التوحيدي إنَّ الكلام عن الكلام صعب وأنا أقول: إنَّ الكلام عن الذات أصعب، يصعب فعلاً أن نغادر ذواتنا ونتحدث عنها بحياد، لذلك نحتاج دائماً لعين الآخر تطل علينا وتصفنا، لذلك نفهم لماذا هتف سقراط بمحاوره (تكلم حتى أراك)، انتبه بحسّه الفلسفي أن أصدق وسيلة اتصال تكشف لنا عمق الذات هي المحاورة التي تسمح للكلام بالعبور بما هو تمثل لأفكارنا ومواقفنا، بعيداً عن كل هذا لا أعرف كيف أصف نفسي، ولكن يمكن أن أقدم بعض الإشارات الدالة كأن أقول إنّي تونسية، أستاذة فلسفة ورئيسة مؤسسة لجمعية الكاتبات المغاربيات بتونس وعضوة في بعض المنظمات الأدبية العربية. قريباً من كل هذا أتذكر مقولة لـ(حنا مينه) يتساءل فيها: (كيف يكون الأديب من لحم ودم، وليس من حبر وورق؟) أعتقد أن كل أديب هو حبر وورق، ولذلك الكتابة التي يتركها المبدع هي أفضل من يقدمه، فضلاً على أنها تمنحه ولادات متجددة وسعادات لا تنتهي.
(شعر، قصة قصيرة جداً، رواية، نقد أدبي، تصوير فوتوغرافي، سينما، صحافة وإعلام، وفنون تشكيلية).. فسيفساء إبداعية -بلا شك- باهرة الإيقاع والظلال.. أين أنتِ من كل هذا؟ مَن الأقرب الذي يجيب عن أسئلتك؟ ولماذا؟
- انخرطت في ورش إبداعية عديدة ساعدتني على تأثيث خلفية إبداعية تعبر عن تمثلات جمالية مختلفة، لذلك مارست التصوير الفوتوغرافي والفنون التشكيلية واستمتعت بألعاب السينما، كما اشتغلت بالإعلام الإذاعي والورقي محلياً ودولياً إلخ.. في كل ذلك كنت أحتكم إلى وعي براغماتي حتى أستطيع مقاربة النص الأدبي والتقاط اللمعة أو الوميض الساحر لفكرة عابرة قد تكون في شكل فراشة تحط على شاهدة قبر أو سرب طيور يعبر حقل ألغام أو رعشة عاشق يلامس كفّ حبيبته في الزحام أو صراخ طفل يتيم وتائه..!
لذلك كتبت القصيد والقصة القصيرة جداً والرواية والمقال النقدي، إضافة إلى الرسائل الأدبية واليوميات.
كيف ترين عملاً فنياً وسردياً من دون شعر؟ هل يمكن التعويل عليه؟ ألا يفقد مبررات انتشاره وخلوده؟
- مقولات الشعر متعددة وهي ليست حصراً في أبيات شعرية نقولها عمودياً أو نثرياً أو بينهما، أنت تلاحظ معي أن العالم مصوغ شعرياً، ويكفي أن ننتبه إلى الأمواج المرتطمة على الصخر حتى نستمع إلى الشعر، يكفي أن ننتبه لنظرات عاشقة مرتبكة حتى نقول إنه الشعر، ويكفي أن ترى الثياب على حبل الغسيل يؤرجحها النسيم بمكر حتى نهتف إنه الشعر، لذلك أنا مع سقراط عندما يتحدث عن المحرك الأول بما هو أصل الكون وصورة للصور وأضيف أن هذا الصانع الأول هو الفنان الأول الذي صاغ العالم وبث فيه الحياة بشعرية عالية جداً.
درستِ الفلسفة وقمتِ بتدريسها على طلابك.. أيّ دور لها في هذه الفسيفساء الإبداعية، وهي خلاصة نزيف قريحة وجنون أصابع ضروري؟ حدثيني عن علاقة الفلسفة والإبداع؟ أيهما الذي يضيف إلى الآخر؟
- أنا مدينة للفلسفة بالكثير، فهي من أجمل تجاربي في الحياة وأكثرها قسوة، رفعتني الفلسفة عالياً لكنها أيضاً هوت بي على أرض صلبة بفعل الإرث الثقافي المتكلس فخلخلت رؤاي وأصابت أفكاري برضوض عديدة. من أفضل ما تعلمته من الفلسفة أن أفكر وأطرح الأسئلة دون أن أنتظر أجوبتها، حتى ممكنات الأجوبة تفتح علي أسئلة جديدة وتجعلني في حالة تيقظ للوعي، وهنا تكمن مأساة الفلسفة أننا في مجتمع لا يتقبل الحس النقدي وفي واقع لا يحتمل الأسئلة، لذلك أعترف أن الفلسفة قادتني للحياة غير أنها مكنت الكلب الأسود (وهو الاسم الآخر للاكتئاب) أن يجد منفذاً للانقضاض عليّ، غير أن من قرأ (نيتشه) و(فرويد) و(فوكو) سيحاول دائماً أن يروّضَ هذا الكلب الأسود ويجعله أقل ضرراً.
كتبتِ القصة القصيرة جداً، وهي -برأيي- خطوات شاحبة على أرض السرد، أخرجها من تقنياته عدد من النقاد.. هل يمكن اعتبارها سرداً وهي لا تمتلك أي شرط من شروطه؟ أليست هي أقرب إلى الشذرة والنص المفتوح أم ماذا؟
- أحترم رأيك في (القصة القصيرة جداً) غير أني أجدك قاسياً في تقييمك لها، وأتفهم ذلك فأنت تقارنها بالسرد، ولذلك تبدو لك تعبيراً فائضاً عن الحاجة ويمكن أن نستغني عنها. أعتقد أنه يجب أن ننظر إلى (القصة القصيرة جداً) كنمط أدبي مستقل بذاته وفي ذلك اشتغل عليها عدد من المنظرين وانتهوا أن لها شروطها الخاصة وتقنيات تلزمها يجب أن يعود إليها من يريد أن يكتبها حتى لا يسقط في استسهالها وحتى لا نجد أنفسنا أمام هذا الفيض من الكَتَبَة (لا أقول الكُتّاب) الذين يدعون كتابتها ولم يقوموا سوى بالإساءة لها.
(القصة القصيرة جداً) من ضمن شروطها: الاقتصاد في اللغة، والتكثيف في المعنى. تكتب كتابة أفقية حيث نجد المواضيع مختلفة ومتناقضة من كل المجالات، وفي هذا الاطار يتنزل كتابي الأول فيها وعنوانه (من ثقب الباب) كنتُ أطلّ من هذا الثقب على المجتمع والعالم. أيضاً تكتب كتابة عمودية عندما نختار ثيمة تكون هي الخيط الناظم لكل القصص القصيرة جداً، وبالنسبة لي اخترت عالم الحيوان وافترضت أن الحيوان له حرية تقييمنا والحكم علينا وهنا يتنزّل كتابي الثاني (الغابة في البيت).
(في حدائق القصّ المغربي) كتاب نقدي لك.. قولي لي: هل لدينا حركة نقدية جادة مواكبة لهذا التفجر الإبداعي؟ من ناقدك الأمثل تونسياً وعربياً وعالمياً؟
- الناقد لاعب مهم في العملية الإبداعية وبطبعه يأتي متأخراً مثل (بومة مينرفا) لينظر في المنجز الأدبي، أفهم تأخرهم لكن لا أجد مبرراً لغيابهم، لذلك أنت تلاحظ مثلاً أن حركة النقد لا تستجيب لموجة الإبداع، وهو ما يجعل من المتابعة النقدية محدودة تشتغل في الأساس على الكُتّاب، وليس على الكتب، بمعنى أنها تخضع إلى سلطة الأسماء كما أنها أحياناً تخضع لسلطة الانتماء الجغرافي أو الأيديولوجي.
اعترفَ (لورانس داريل) بفضل (هنري ميللر) عليه، وبخاصة روايته (ربيع أسود).. بمن تأثرت؟ أعني من له الفضل في بوصلة إبداعك طوال هذه المسيرة المتعددة، وأنت تتفجرين شعراً ونثراً؟
- قد تتفاجأ إن قلت لك إن أفضل من أثر فيّ ودفعني إلى مدار رعب الكتابة هي أمي (رحمها الله)، كانت امرأة قوية وهشة، صلبة ورهيفة، شديدة ومتسامحة، ولأني كنت ابنتها الوحيدة فقد جعلتني أتكاثر وأكون أكثر من واحدة، ربما هذا ما جعلني أتأقلم بسهولة مع كل الأدوار التي مكنتني منها الكتابة، لذلك أكون شاعرة وقاصة وروائية وناقدة، كما دفعتني إلى تحسّس عتبات مهمة أثرت في تكويني الأدبي، لذلك كانت لي تجارب لذيذة في التصوير الفوتوغرافي والسينما والفنون التشكيلية والإعلام الورقي والسمعي، وكل ذلك مثّل خلفية ثرية ومهمة جعلتني أكتب بوعي حاد وحزن عميق.
صدرت لك مؤخراً رواية (الملائكة لا تطير) التي وصلت للقائمة القصيرة في جائزة راشد الشرقي، ماذا أردت أن تقولي في هذا العمل الأدبي؟
- (الملائكة لا تطير) هي النص السردي الثاني لي بعد (امرأة في زمن الثورة) التي كانت أول شهادة أدبية باللغة العربية تكتب عن (الربيع) التونسي، في رواية (الملائكة لا تطير) أردت أن أقول الكثير من الأشياء من بينها أني أدافع عن الجسد وأخلصه من قبضة الاعتقادات الخاطئة التي تتكئ على الدين -وهو منها براء- من أجل أن تنكّل بالجسد وتظلم المرأة وتحرمها من نعمة العقل وحرية تقرير المصير. الرواية تجربة قاسية أخذت مني أكثر من خمس سنوات كتابة وإعادة كتابة اطلعت فيها كثيراً على أدبيات الفكر السلفي. كتبتُ روايتي لأني أردت أن أقوم بحركة أدبية استباقية حتى أنبه المجتمع التونسي، وبخاصة المرأة التونسية، عن المشاكل الزائفة التي أتى بها الإسلام السياسي الذي ركب على الثورة التونسية واستغل الوضع العام الفوضوي من أجل أن يسرق من المجتمع أحلامه في واقع أفضل ويفرض عليه المشي إلى الخلف.

ذو صلة