مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الليدي آن بلنت وزيارتها لنجد

لليونان مكانة خاصة لدى الأوروبيين، لذلك لما ثار اليونانيون على الاحتلال التركي لهم 1822-1832، تعاطف معهم أوروبيون كثر من بينهم الشاعر الإنجليزي اللورد بايرون، بل ذهب بنفسه ودعم الثوار وتوفي في اليونان عام 1824.
حفيدته من جهة ابنته هي الليدي آن بلنت، جمعت الليدي آن بين مواهب عدة: الرسم، الشعر، الترحال، الكتابة، إدارة الأعمال، وهي أول سيدة إنجليزية تزور الجزيرة العربية، وهي من أوائل الإنجليز الذين اهتموا بالخيول العربية ودونوا سلالاتها، واستوردوها إلى إنجلترا.
خلفيتها الأرستقراطية
ولدت الليدي آن في سنة 1837م، بلندن في منزل والدها وليم كنج لورد لافلاس، رقي لمرتبة إيرل بعد زواجه من أمها، ليكون الإيرل الثامن في سلالته، أما والدتها فهي البارونة آدا لافلاس، ابنة الشاعر اللورد جورج غوردون بايرون. سميت أول ولادتها آنا أزبيلا، لكن خفف الاسم ليكون آن.
شغفت والدتها البارونة آدا بالرياضيات وأعجب بعبقريتها أستاذ الرياضيات في كامبريدج تشارلز بابيج وعملا معاً على آلة حاسبة كانت ثورية في وقتها، كما كان لها صداقات مع علماء مثل مايكل فراداي، بالإضافة إلى صداقات مع أدباء مثل الروائي تشارلز ديكنز.
لم تتمتع الليدي آن بوالدتها كثيراً، فقد توفيت والدتها وعمرها 15 سنة، تولت جدتها من جهة أمها الليدي بايرون تربيتها، نظراً لانشغال والدها عنها.
أنشأتها جدتها الليدي بايرون كأي فتاة من عائلة أرستقراطية في القرن التاسع عشر، فقد علمتها ركوب الخيل، العزف، الرسم، اللغات الحية، أصبحت الليدي آن قادرة على تذوق الأدب بالإيطالية والفرنسية والألمانية، أجادت الليدي آن العربية فيما بعد.
كان لقب الجدة الليدي بايرون بارونة وينتورث الحادية عشرة، اشترطت على أحفادها إذا كانوا يرغبون في وراثة اللقب، أن يضيفوا اسم عائلتها نويل لأسمائهم.
أضافت الليدي آن اسم عائلة جدتها نويل مثل بقية الأحفاد، وللأسف لم تحصل الليدي آن على اللقب إلا قبيل وفاتها في عمر الثمانين! لتكون بارونة وينتورث الخامسة عشرة.
اسمها الذي عرفت به: الليدي آن نويل بلنت، نويل اسم عائلة جدتها أما بلنت فاسم عائلة زوجها.
زوجها
زوجها هو الدبلوماسي ويلفريد بلنت، عائلة بلنت من العوائل النبيلة في مقاطعة سسكس، عمل ألفريد في السلك الدبلوماسي (1858-1869) أما زواجه من الليدي آن، فقد لعبت فيه المصادفة والحاجة المالية دوراً كبيراً.
تعرف ويلفريد بلنت في باريس على كاترين والترز، وهي ابنة قبطان من ليفربول، معروفة لدى أصدقائها بلقب سكتيل، علمته فنون الإغراء، وكيف يوقع الفتيات في حبائله! استطاع ويلفريد بفضل نصائح سكتيل أن يكون علاقات كثيرة مع فتيات وسيدات المجتمع الأرستقراطي الإنجليزي، ساعده على ذلك وسامته الشديدة.
بالتأكيد لم يكن كسب قلوب الفتيات سهلاً، فلم تكن مداخيل ويلفريد المالية تغطي نفقاته من هدايا وغيرها، فطلب من صديقته أوليمبيا أن تدله على فتاة غنية تكون بالنسبة له طوق نجاة من أزماته المالية.
خلال عمله دبلوماسياً في إيطاليا، أخبرته صديقته أوليمبيا أن فتاة تدعى آن نويل (جدتها اشترطت إضافة اسم عائلتها من أجل الحصول على لقب بارونة وينتورث) قد جاءت لفلورنسا من أجل الرسم، وهي فتاة غنية ومن عائلة مرموقة سيكون مجنوناً لو أفلتت منه، هذه الهدية من السماء.
لم يجد ويلفريد صعوبة في أن يوقعها في حبه. تعرف عليها في فلورنسا، ثم انتقل إلى الأرجنتين دبلوماسياً وظلا يتراسلان. تزوجا عام 1869م، كانت الليدي آن في 32 من عمرها بينما يصغرها ويلفريد بسنتين.
كلنا مثل القمر له جانب مظلم
قد يأخذ القارئ انطباعاً أن حياة الليدي آن، كانت رغيدة وفيها كل ما يتمناه المرء، مال، جاه، مواهب، لكن واقعها ليس كذلك، على سبيل المثال فوالدتها كانت تعاني من إدمان القمار وخسرت أمولاً طائلة بسبب ذلك، كما أنها أصيبت بضعف متدرج في قواها العقلية إلى درجة قاربت الجنون قبيل وفاتها.
ليس هذا فحسب، فقد اعترفت أمها الليدي آدا في فراش الموت بخطاياها أمام أفراد عائلتها، ومن ضمن ما اعترفت به إقامة علاقات غير شرعية وسمت عدداً من الرجال الذين أقامتها معهم.
أما مصيبتها من جهة جدتها فقد جاءت في توقيت حرج، خلال التحضير لمراسم الزواج وهي أسعد الأوقات للفتيات، حيث نشرت صحفية أمريكية مقالاً عن الليدي بايرون (المتوفاة حينها) ذكرت فيه اعتراف الليدي بايرون بارتكاب زوجها الشاعر اللورد بايرون خطيئة الزنا مع أخته غير الشقيقة وأنه أنجب منها ابنة غير شرعية! ذهابه إلى اليونان لم يكن سوى وسيلة للهروب من فضيحته.
أنكرت الليدي آن صحة المعلومات في المقال، وقرر الزوجان أن يمضيا شهر العسل كما هو مخطط له.
زواجها أيضاً لم يكن سعيداً، عانت الليدي آن بلنت من تكرر حالات الإجهاض التي لم ترزق منها سوى بابنتها جودث. عكر فرحة الليدي آن بنجاة جودث من الإجهاض أن زوجها ويلفريد كان يفضل ولداً، يحمل اسم عائلته بلنت.
لم يكن الإجهاض مشكلتها الوحيدة مع ويلفريد، فقد ظل ويلفريد على سلوكه ما قبل الزواج في اصطياد الفتيات.
طلب من ويلفريد المثول أمام المحكمة، فقد رفع اللورد زوش دعوى زنا زوجته متهماً أن حملها كان بسبب علاقة مع واحد من ثلاثة أشخاص منهم ويلفريد بلنت.
برأت المحكمة ويلفريد من التهمة، لكن وقعها النفسي كان شديداً وهي أشد أزمة مرت على الليدي آن.
بدأت الليدي آن تدوين يومياتها منذ أن كانت في العاشرة من العمر، بالطبع دونت يوميات المحاكمة، لكن مزقتها فيما بعد من شدة الألم الذي عانته خلال القضية. فقد رغبت أن تمحو الذكرى الأليمة من تاريخها.
جمعهما بالجريف
عمل ويلفريد بلنت دبلوماسياً في إستنبول، ولم يكن معجباً بالأتراك أبداً، لما انتقل إلى بيونس آيريس للعمل هناك، قرأ رحلة وليام بالجريف وسط الجزيرة العربية وشرقها، وأعجب بوصفه لحائل حتى قال إنه لا يمانع إذا قطع رأسه بعدما يزور حائلاً!
من بغضه للأتراك وإعجابه في الحكم العربي بحائل، تبلورت في ذهن ويلفريد بلنت فكرة أن العرب بحاجة إلى أن يقيموا حكماً ذاتياً لهم مستقلين عن الأتراك.
قدم ويلفريد اقتراحه للحكومة البريطانية، لكنها لم تكن متحمسة للفكرة، فقد خشيت أن قيام حكم مستقل للعرب، سيضعف الحكم التركي ويفسح المجال الأكبر لروسيا لزيادة نفوذها في الخليج العربي.
شاطرت الليدي آن ويلفريد أعجابها برحلة بالجريف، فهي مغرمة بالخيل منذ الصغر وتود زيارة بلاد الخيول العربية، بل إنها وضعت اقتباسات من كتابه كمقدمات لبعض فصول رحلتها لنجد.
عندما قابلته في لندن، أهدت له نسخة كتابها الحج إلى نجد.
مع إعجابهما به، لم يمنعهما ذلك من نقده، كتب ويلفريد بلنت في مقدمة كتاب الليدي آن (الحج إلى نجد) ضعف دقة معلومات وليام بالجريف الجغرافية في نجد، وهو نفس النقد الذي وجهه له الشيخ عبدالله (جون) فيلبي لمعلومات بالجريف الجغرافية عن شرق الجزيرة العربية.
حفزت رحلة بالجريف ويلفريد لزيارة نجد من أجل اختبار اقتراحه إمكانية حكم ذاتي للعرب والليدي آن من أجل الحصول على خيول عربية أصيلة.
التعلم من التجارب
زارت الليدي آن مع زوجها ويلفريد تركيا عام 1873 ثم الجزائر 1874 ثم مصر سنة 1876/1875 شاهدا فيها الآثار الفرعونية في مصر ثم انتقلا إلى فلسطين لزيارة الأماكن المقدسة في فلسطين. لكنهما لم يسلكا الطريق المعتاد للسياح الأوروبيين، حيث ينطلقون من الإسكندرية بالباخرة نحو ميناء حيفا، لكنهما رغبا في خوض تجربة الصحراء.
فسافرا عن طريق صحراء سيناء من دون أن يكون معهم مترجم معتمدين على معرفتهما المحدودة بالعربية، وواجههما متاعب جمة كادت أن تودي بحياتهما.
لذلك لما زارا القنصل الإنجليزي في حلب 1877م، نصحهما بزيارة منطقة غرب الفرات وكتابة تقرير عنها، زودهما بخيل عربية ومرشدين عرب يجيدون الإنجليزية.
قابلت الليدي آن في زيارتها لمنطقة غرب الفرات سطام الشعلان شيخ الرولة، وجلست مع زوجاته، لقيت أيضاً فرحان بن حدب شيخ السبعة من عنزة، أعجبت الليدي آن كثيراً بالأخلاق العربية. وصفت مرة مرافقها محمد التدمري بأنه طيب، وأنه بدوي فعلاً.
بعد زيارة منطقة غرب الفرات، رغبا في زيارة نجد، ليحقق ويلفريد حلمه برؤية حائل، ولتتعرف الليدي آن على موطن الخيول العربية.
بداية الرحلة
بدأت الرحلة من دمشق في نهاية سنة 1878م، حيث مروا بها لشراء الأمتعة وملابس للرحلة، حرصت الليدي آن على شراء ملابس عربية حتى لا يثيروا الانتباه كثيراً، مع إظهار هويتها الإنجليزية خلافاً لبالجريف.
كما حرصت الليدي آن أن يكون المرافقون العرب مختلفين دينياً وعرقياً، حتى لا يسهل إدارتهم.
قابلت الليدي آن في دمشق عبدالقادر الجزائري، القائد الجزائري المعروف بعدما نفته فرنسا، علقت في كتابها عن لقياه أنها رأت عند عرب المغاربة تقوى وتديناً أكثر من عرب الجزيرة العربية، أخمن أن تعليقها كان تأثراً بما كتبه بالجريف في رحلته أن العرب بعيدون عن الدين بأي شكل من أشكاله.
قابلت الليدي آن في دمشق مجول المرزاب العنزي وزوجته الإنجليزية جاين ديغبي، تزوجت جاين مجول بعدما حماها من غارة الأعراب بين تدمر ودمشق، وعاشت معه ثلاثين سنة، وطلبت أن يكون شاهد قبرها (مدام ديغبي المصرب).
اختلاف ثقافات
في طريقهما نحو نجد، سأل المرافق محمد التدمري ويلفريد بلنت هل يساعد الإنجليزي الغني أخاه إذا احتاج مالاً، فرد ألفريد أن الثقافة الإنجليزية فردية، يجب أن ينهض الإنسان بنفسه، لا أن ينتظر عوناً من أحد، فقال محمد لو كنت غنياً، لما جعلتُ أخي يحتاج للمال.
بعدها سأله ويلفريد، لو قتل أحد أخاك؟ ماذا كنت سوف تفعل؟ فقال محمد: سوف أتنكر باسم غريب وأتسلل حتى أصل لقاتل أخي وأقتله ثم أهرب! فقال ألفريد لكن الشرف الإنجليزي يحتم عليك أن تواجه خصمك وتعلمه أنك تنوي قتله، وتتبارزا وجهاً لوجه، فرد محمد هدفي أن آخذ بثأر أخي وليس قتل خصمي بشرف.
تعرضت المجموعة لسلب من قبل رجال ينتمون لقبيلة الرولة، بعدما حصل الرولة على ما لدى المجموعة، أخبرهم محمد التدمري أن الخواجات كانا ضيفين على الشيخ سطام الشعلان، وجلست الليدي آن مع زوجته تركية وهم بصنيعهم هذا يعتدون على ضيف شيخهم، فرد الرولة ما أخذوا، ليس هذا فحسب بل أمضوا ليلة مع المجموعة جلوساً متحلقين كدائرة يدور عليهم غليون السلام.
تعجبت الليدي آن من قانون الصحراء غير المكتوب الذي جعل لصوصاً يتصرفون بشرف.
الجوف
حل الزوجان مع رفقائهما ضيوفاً عند جوهر حاكم الجوف المعين من قبل محمد الرشيد، لفت نظر الليدي أن لونه أسود وتساءلت كيف يرأس عرباً من نفس قبيلة الأمير محمد الرشيد، استغراب الليدي آن لأن الإنجليز ذلك الوقت لم يكونوا يسمحون لأحد من الملونين أن يرأس إنجليزياً مهما كانت كفاءة الملون.
لاحظت الليدي آن أن الحرس المعينين من قبل محمد الرشيد، لهم لبس مميز، كوفية حمراء وعليها خيط أبيض، وسيوفهم ذات مقبض فضي.
أقيم حفل عشاء للزوجين، ذاقت الليدي آن من حلوة الجوف ودونت في كتابها ألحان الأغاني التي قيلت في الرقص.
محمد التدمري الذي رافق المجموعة خلال الرحلة، خطب فتاة من أهل الجوف، ولم يرها ومع ذلك كان شغوفاً بها، تفسر الليدي آن وقوع العرب بسرعة في الحب من مجرد سماع وصف الفتاة بسبب القيود الدينية الاجتماعية المفروضة على الجنسين في الالتقاء.
دفع ويلفريد بلنت مهر محمد التدمري فقال فيه محمد:
يا مرحبا بالبك والست خاتون
طلبت بنته قال جاتك عطيه
سياقها من البك خمسين وميه
خاتون يا بنت الأكارم والأجاويد
لم يعجب الليدي آن مساومة أهل البنت على قيمة المهر.
حائل
وفقاً لما دونته الليدي آن أن المسلمين المرافقين لهم في الرحلة بدؤوا يؤدون الصلوات الخمس عندما وصلوا لجُبة، تعلل الليدي آن ذلك بأن التأثر الديني في حائل ما زال قوياً على الرغم من ضعفه سياسياً.
قيل لليدي آن لما دخلت حائل إن إنجليزياً سبقهم لزيارة المدينة، استغربت الليدي آن، فالرحالة وليام بالجريف دخل حائل متنكراً، فلم تكن تعلم برحلة الإنجليزي تشارلز داوتي الذي تسمى بخليل، وهو الذي عنوه لما قالوا سبقك إنجليزي.
لما قابلت الليدي آن الأمير محمد الرشيد لأول مرة، قالت إن كل موضع في جسده يقول إنه من عائلة نبيلة، قدمت الليدي آن مع زوجها ويلفريد هدايا للأمير محمد الرشيد أحضراها من سوق دمشق، تلسكوب وبندقية وجبة قرمزية، لكنها اعتذرت للأمير أن الهدايا لم تكن لائقة له، فقد قيل لها في دمشق إن محمد الرشيد لا يعدو أن يكون مجرد أمير بدوي!
شبهت الليدي ملامح وجه محمد الرشيد برتشارد الثالث، فكلاهما أثقلته هموم الحكم. كان مع الأمير خادم أسود اسمه مبارك يقف خلفه دائماً ليحميه.
قيل لليدي آن إن ذلك بسبب الخلافات الدموية بين أفراد أسرة الرشيد، لذلك عندما دعيت للقلعة التي قتل فيها محمد الرشيد ابني جبر قالت: أحسستُ بشبحي روحيهما معنا بالغرفة!
كما زارت الليدي آن إصطبل خيل الأمير محمد الرشيد.
غيرة الرجال
قابلت الليدي آن زوجات محمد الرشيد، وهن (عمشا- دوشة- لولوة) عمشا هي ابنة عمه وأخت حمود العبيد، وهي الأكثر حظوة لديه.
وكما حصل تباين في وجهات النظر بين ويلفريد بلنت بثقافته الإنجليزية ومحمد التدمري بثقافته العربية، حصل أيضاً تباين بين الليدي آن وزوجات محمد الرشيد، فقد كن يرين الحياة المثالية أن يقمن في القصر وحولهن الخادمات يقدم لهن ما يشتهين، بينما رأت الليدي آن أن الحياة المثالية في المغامرة والسفر واقتحام المجاهيل.
سألت عمشا الليدي آن: لم لا تجعلين شعرك ذا ضفائر طويلة مثل شعري؟ فأجابت الليدي آن: أن سفرها المتكرر يحتم عليها أن تقصه.
تضايقت الليدي آن من كثرة أسئلة محمد الرشيد عن زوجات سطام الشعلان، منافسه الأول، فقد سألها: من أجمل تركية المهيد أو جوزاء؟ فقالت الليدي آن: تُرْكِيَّة جميلة ولطيفة، لكن جوزاء أجمل.
وسألها مرة ثانية من أجمل زوجاته أم زوجات سطام الشعلان؟ فقالت: نساؤك أكثر أناقة!
تقول الليدي آن إن إصراره على عقد مقارنة بين أسرتي الشعلان والرشيد ضايقها، لكن غاب عن الليدي آن التنافس الشخصي بينهما.
عرب وفرس
خرجت الليدي آن مع زوجها من حائل برفقة حجاج فرس كانوا متجهين إلى العراق، سالكين درب زبيدة، لاحظت الليدي آن نفوراً بين العرب والفرس، فسرت ذلك التنافر بالحساسية العرقية بين الشعبين، لكن الباحث عبدالعزيز الإبراهيم كان له رأي آخر، فهو يعلل النفرة بينهما، أن الحجاج الفرس اتفقوا مع العرب على مقدار محدد للحماية في طريق الحج، ويطلب العرب مالاً إضافياً مقابل خدمات غير الحماية ويحرص الحجاج الفرس على الاقتصاد في الإنفاق.
يلاحظ القارئ لما كتبته الليدي آن أنها كانت تفضل رفقة العرب على الفرس كثيراً.
انتهت من يومياتها في كتابها الحج إلى نجد بالوصول إلى ميناء بوشهر، لكن علمنا من مذكراتها أنهم واصلوا السير حتى وصولوا إلى نائب الملك في كراتشي وكان معه صبي في العاشرة من عمره، يظن نائب الملك الإنجليزي أن هذا الطفل الهندي وسيط روحاني يعرف ماذا يحدث في العالم الآخر!
بين كرابت والشيخ عبيد
أسست الليدي آن مع زوجها ويلفريد إصطبل كرابت سنة 1878 ليكون مركزاً للخيول العربية في إنجلترا، فكانت الخيول تستورد ويُعتنى بها وتتوالد.
ورغبة في إظهار جودة خيولهما العربية، اقترح ويلفريد بلنت على المسؤولين الإنجليز سنة 1883م إقامة سباق للخيول العربية في إنجلترا.
كما اشتريا مزرعة الشيخ عبيد وكانت مملوكة لإبراهيم باشا شقيق الخديوي، في مصر عام 1882م، لتساعدهما في إدارة نقل الخيول العربية من الشرق لإنجلترا.
لم تكن الليدي على وفاق مع ويلفريد في تربية الخيول العربية، فقد كان يرى أن الجو البارد في إنجلترا ووفرة العشب هناك مضر بالخيول العربية التي اعتادت على الطقس الحار وقلة العشب.
وصل ذروة الخلاف عند طلب الليدي آن الطلاق عام 1906م، حصلت الليدي آن على مزرعة كرابت والشيخ عبيد ونصف الخيول العربية.
وظلت تتنقل بين كرابت والشيخ عبيد ويحزنها سماع مقتل خيول عربية في الجزيرة بسبب المعارك.
مع أنها كانت مهتمة بالخيول العربية، لما يمنعها ذلك من الاشتغال بالسياسة، قابلت الليدي آن أحمد عرابي باشا قبل الثورة العربية، وحدثها أنه معجب بجدها اللورد بايرون عندما دافع عن حق اليونانيين في حكم أنفسهم، وهو يريد لمصر ما أراده جدها لليونان.
اقتنعت الليدي آن بوجهة نظر عرابي باشا وكتبت مقالات في الصحف الإنجليزية تشرح القضية المصرية من وجهة نظر المصريين.
انتقلت ملكية كرابت بعد وفاتها إلى ابنتها جودث، حاول والدها الاستيلاء عليها، لكن وقف القضاء في صف جودث.
بسبب ديون ويلفريد بلنت، اضطر أن يبيع عدداً من الخيول العربية لديه، لكن جودث تداركت الأمر واشترت ما قدرت عليه.
حصلت الخيول التي نتجت من الخيول العربية التي جلبتها الليدي آن واعتنت بها ابنتها جودث على 236 بطولة عالمية حتى وفاة جودث 1957م.
بعد وفاة جودث انتقلت ملكية كرابت إلى مدير أعمالها سيسل كوفي الذي أدارها حتى عام 1970م، ثم بيعت الخيول جميعاً، ويقدر أن نحو 90 بالمئة من الخيول العربية في الولايات المتحدة ترجع إلى الخيول التي كانت موجودة في كرابت.
الانفصال عن ويلفريد ووفاتها
في عام 1906 عندما بلغ ويلفريد بلنت 66 من عمره، جلب معه إحدى عشيقاته لتقيم معه ومع الليدي آن بلنت في منزلهما في إنجلترا. كانت الليدي آن تعلم بعلاقاته السابقة لكنها تغض النظر عنها، لكن لم تتحمل أن تقيم عشيقته معهم في نفس المنزل، كما عبرت في مذكراتها: لا يمكن أن أقبل الطابع الشرقي في العلاقات الزوجية! وطلبت الطلاق.
ظلت الليدي آن تنتقل بين كرابت إنجلترا والشيخ عبيد في مصر حتى عام 1915م، لتستقر نهائياً في مزرعة الشيخ عبيد، خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918) زار الليدي آن في الشيخ عبيد عدد من ضباط المخابرات البريطانية مثل لورانس العرب وجير ترود بل. كما زارها في المزرعة محمد البسام من عنيزة الذي ساعد من قبل، تشارلز داوتي عندما زار عنيزة.
قبل وفاتها بعدة أشهر، ورثت الليدي آن لقب بارونة وينتورث الخامسة عشرة، وتوفيت في عام 1917م، ودفنت في مقبرة الراهبات في الجبل الأحمر، صمم طليقها ويلفريد شاهد قبرها (هنا ترقد في الصحراء المصرية التي أحبت الليدي آن بلنت) وتحته لقبها الذي حملته لمدة 6 أشهر بارونة وينتورث.
أما ويلفريد فقد لحقها في عام 1922م، وطلب أن يدفن في سسكس مع سجادته الفارسية التي طالما حملها معه من دون مراسم دفن.

ذو صلة