مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

العين الثالثة لزكريا تامر

في مساء كل خميس، بصالون منزل (مستجاب-الأب)، كان يجتمع كثير من الأصدقاء، شعراء وكتّاب ونقاد ورسامون وأساتذة جامعات. سنوات طوال كان هذا الجمع يلتف ويجتمع في غرفة بيتنا الصغيرة. ورغم اختلاف الأسماء والضيوف، وبدايات البعض، وصيت البعض الآخر؛ فإن (مستجاب) كان يحرص دائماً على ذكر بعض الأسماء لهذا الجمع، وكان دائماً يوصي بأن تتم قراءتهم، بل كان يتحدث عن بعض قصصهم، أو يطلب من أحد الحاضرين أن يقرأ قصة لهم، وكان من ضمن تلك الأسماء: محمد شكري، غالب هلسا، صبري موسى، الطاهر وطار، أبو المعاطي أبو النجا، زكريا تامر.
وقد ظل اسم (زكريا تامر) يناوش عقلي وفكري طوال سنوات، وعندما بدأت في تكوين مكتبة خاصة بي في منتصف التسعينات، اشتريت مجموعة قصصية تحمل عنوان (أفّ!)، صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة (آفاق الكتابة)، وكأن مستجاب بتكرار ذكر اسم (زكريا تامر) كان حريصاً على أن يفتح لي مغارة هذا الرجل بترديد اسمه في بيته.
ولقد فتحت لي تلك المجموعة جزءاً من هذا العالم الخشن، والكتابة المتألقة، وعوالم سحرية وواقعية شديدة الجاذبية والإزعاج، مفردات سلسلة وسهلة، والقصة تبدو بسيطة، لكنها لا تتركك كما كنت.
ومنذ حينها، همت عشقاً بكتابات هذا الرجل، مع أنه ليس من السهل أن تفتح مغاليقه. لكن سبب عشقي له، قبل كتابته؛ تجربته الخشنة والتي تبدو في خشونة تجربة أبي: محمد مستجاب، حيث الفقر الشديد والعمل في مهن شديدة القسوة، فعلمت أنه كان يعمل حداداً، وهو صغير، ومستجاب كذلك عمل في مهن كثيرة: مزارعاً، ومساعد خطاط، وكاتب محامي، قبل أن يستقر به المقام في مشروع السد العالي، وقبل انتقاله للعمل في (مجمع اللغة العربية) في بداية السبعينات.
لقد ظللت أقرأ (زكريا تامر)، ويتسرب إلى أعماقي، لدرجة أنه جعلني في حالة من الغضب، في كثير من قصصه، بل رافضاً بشدة لما يكتبه، هذا الإزعاج الذي حدث لي، وبخاصة أن بعض قصصه ونصوصه ليس من السهل فهمها، أو فتح مغاليقها، وكأنه بذلك الإزعاج، يضع أول درس في القصة القصيرة لي، وهو أن تجذب عنق القارئ كي ينتبه، وكي يظل متيقظاً لكل كلمة في النص، وبعد ذلك يجب أن تناوش عقله، ولا تجعله مستكيناً نائماً. حتى ولو كان ما يقوم بقراءته قصة تراثية قديمة يعلم أحداثها، لكن عندما يقدمها لك (زكريا تامر) فسوف يزيل عنها كل التغليفات التراثية والهدوء التاريخي، فهي قصص لا تقرأ وأنت في الفراش وتستعد للنوم، كلا هي قصص تقرأ كي تستيقظ وتنتبه وتبدأ في التغير.
لذا فقد جاءت قصصه شرسة رغم نعومة اللغة، صادمة رغم براءة الأحداث، ممتلئة بالقيود والسلاسل والأموات والمدافن والحيوانات والسلطة الغاشمة. والجميع يتحرك، والجميع يتحدث، والجميع يصدم بالواقع الذي يعيشه.
لكن المؤكد فور الانتهاء من قراءة أحد أعمال (زكريا تامر) ستصير شخصاً آخر، وسيجعلك في حالة من الفوران والغضب، وحالة من التربص لما يحدث حولك، ليس في بيتك أو عملك بل في كل عناصر الكون.
وهذا التحول يأتي من رؤية (زكريا تامر) للعالم حوله، أو من وجود (عين ثالثة له)، أي أنه لا يراه كما يراه البشر العاديون، بل هو محلق في فضاء إبداعي يجعله يرى أفضل منا، ولديه أجهزة استقبال خاصة به، تجعله يقوم بتكوين عالمه، ممتلكاً زاوية رؤية ينظر من خلالها للحدث الجاري أمامه.
لذا فإنه يرى هذا العالم من عمق تراثه الذي نهل منه وتربى عليه وفهم رموزه وأحداثه، بل استطاع أن يعلم ما الحقيقي وما المزيف، وما جاء لإرضاء الحكام أو جاء لتسفيه الرعية وأفعالها.
ويبدو لي أن عمله حداداً في بداياته، جعله ينتبه إلى قسوة تلك المادة (الحديد)، أي أنه فهم كيف يشكلها، رغم خشونتها، بالنيران التي يستخدمها في تطويعها، وبالتالي استطاع في عالم القصة العربية، أن يشكل لنا هذه العوالم في كتابته، بين الواقعية والسخرية والبراءة والحدة والتنبؤ والخيال، والمزج بين تلك الأحداث وتطويعها لخدمة قصته التي يريد كتابتها.
فالفقر والبطالة وقسوة الشرطة أو السلطة، هي ما يشكل أبطال حركة (زكريا تامر) على الأرض، بسببها انطلق، وجرب وحاول ووضع بصمته على القصة العربية.
وكثير من جيلنا قرأ (زكريا تامر) ولم يشر لتأثره به، مع أن كتاباته تظهر بوضوح في كل سطر يضعونه على الورق، وكثيراً ما أجد بعض المناوشات على مواقع التواصل الاجتماعي بأن هذه القصة لزكريا تامر.
الطرق بالكلمات
رحلة طويلة وعظيمة خاضها (زكريا تامر)، منذ نهاية خمسينات القرن الماضي، ومنذ أن تنبأ به الراحل (يوسف الخال) في جلسات مجلة (الشعر) وكان رئيس تحريرها، حيث شاهد موهبته، وشاهد هذا القادم من حواري حي (البحصة) بدمشق، تاركاً تعليمه وتاركاً عمله الشاق، لكنه يصاحب السعال الدائم، والأوراق التي تحمل قصصه الجارحة والقاسية والجديدة على العقلية الإبداعية العربية.
هذه النبوءة هي ما جعلت (الخال) يمهد له الطريق لصدور مجموعته القصصية الأولى (صهيل الجواد الأبيض) والتي صدرت عن مجلة (الشعر)، حيث أصبحت تلك المجموعة خطوة حداثية حقيقية في الارتقاء بالقصّ العربي، إلى حداثة كان يتبناها (يوسف الخال) أصلاً في الشعر.
وتوالت بعدها أعماله القصصية (ربيع في الرماد)، و(الرعد)، و(دمشق الحرائق)، و(النمور في اليوم العاشر)، و(نداء نوح)، و(سنضحك، سنضحك كثيراً)، و(الحصرم)، و(تكسير ركب)، و(القنفذ)، و(ندم الحصان). يضاف إلى هذه المجموعات، براعته في الكتابة للأطفال وخوضه عالمهم، فقدم لهم مجموعات قصص مثل (لماذا سكت النهر؟)، (قالت الوردة للسنونو). يضاف إلى هذا زواياه الأدبية الشهيرة في كثير من المجلات والصحف العربية، متخذاً السخرية الأدبية والنقدية أسلوباً ومنهجاً في كتاباته.
كما خاض (زكريا تامر) كتابة القصة القصيرة جداً، أو الخاطرة، أي أن إخلاصه للقصة، ولمعرفته أن كل كلمة في القصة لها وقعها ولها وزنها ولها أيضاً تأثيرها؛ فكتبها، دون أن يشعر بغرابة، ودون أن يطنطن بأنه خلق نوعاً جديداً في القص كما يدعي كثير من الكتّاب الآن. وكانت تلك الأقصوصات تحمل مضموناً وسخرية وهي لا تتجاوز عشر كلمات، لكنها كطلقة رصاص تصيب العقل مباشرة.
ونتذكر هنا عدم خوض زكريا تامر وكبار كتابنا في هذا الموضوع، أي أنه لم يقل إنه اخترع نوعاً جديداً مثلاً، وذلك لأن القصة القصيرة أو الأقصوصة موجودة في تراثنا، وفي حكايات ألف ليلة وليلة، وحكايات (أيسوب)، و(كليلة ودمنة).
وأتذكر هنا تلك الحادثة التي جعلته يغادر دمشق وسوريا، مع أن قلبه ظل متعلقاً بها، وهو نشره مقتطفات من كتاب (طبائع الاستبداد) لعبدالرحمن الكواكبي، في بداية الثمانينات من القرن الماضي، حيث أدان الكاتب الطغيان والاستبداد، فأُجبر تامر على الاستقالة من منصبه محرراً لمجلة (المعرفة) الثقافية. بعدها بفترة وجيزة غادر زكريا تامر سوريا متّجهاً إلى المملكة المتحدة، لكن قلبه ما يزال ينبض من دمشق، حيث يواصل نشر إبداعاته ومقالاته في المجلات العربية.
يظل زكريا تامر أحد أعمدة السرد العربي الحديث، وأحد نوافذه القصصية التي تطل على العالم. وخلال متابعتنا لعالم زكريا تامر، سنجد أنه لم يكتشف (سوريا) الوطن في قصصه، بل اكتشف أزمة المواطن العربي، لأن الإنسان العربي من المحيط للخليج مشاكله واحدة، حتى ولو تم الفصل الجغرافي الوهمي بينها. وذلك لأن التراث العربي واحد لهذه الجغرافيا العربية المترامية من المحيط للخليج.
يضاف إلى هذا رؤيته للعالم حوله، ورؤيته للإنسان العربي، وتحولاته، وما يحدث له ولأرضه من أعداء أو حكام أو تغيرات حياتيه تطيح بأي فكر وكل عقل.
فقصصه ممتلئة بالموتى الذين يتحدثون، ورجال الشرطة الأغبياء، والموتى الذين يتحركون حولنا ويتدخلون بالآراء، لقد خلق عالماً جديداً، عالماً متسعاً ليس من الخيال بقدر ما هو مرتبط بالواقع المرير الذي يعيشه الإنسان العربي في ظل حكومات وحكام لم يفهموا طبيعة الإنسان العربي، أو قدراته أو طموحه.
وعند الاقتراب من عالم زكريا تامر، يجعلنا نفتح إحدى قصصه، لنرى بعينه الثالثة تلك العوالم، في البداية سوف نجد السخرية طاغية مثل قصته (الصفقة) في مجموعة قصص (نداء نوح)، حيث الجنين الذي لا يريد أن يخرج من بطن أمه، خصوصاً والأم تقول له: (العالم الذي ستحيا فيه معتوه فظ قاسٍ لا يرحم ولا يشفق).
وكأن زكريا تامر يعي هذا العالم، حتى قبل مجيئه للعالم، لذا فإنه يتحدث مع أمه بأنه يستطيع أن يحيا في هذا العالم، ويتقبل شراسته وإنسانيته وصفاته، ويختم القصة بابتسامة باكية، عندما يقول الجنين لأمه، إنه مستعد لهذا العالم الزائف والشرس، فتقول له الأم مرة أخرى صائحة: (إذا كانت لك هذه الآراء، فما مبرر بقائك في بطني؟)، فيقول الجنين: (أنا أنتظر أن تطلقي أبي الفقير وتتزوجي من آخر ذي ثراء وجاه ونفوذ). فتركض الأم إلى أقرب مستشفى مشمئزة مستغيثة.
وما تكاد تنتهي القصة، حتى ننفجر في الضحك، نضحك على أنفسنا، فيبدو لنا أننا نعلم قبل مجيئنا هذا العالم ما سيحدث لنا، وكأنها جينات إنسانية نولد بها، مما يزيدنا غباء أن نأتي لهذا العالم، ونصمم أن نحيا ونعيش فيه، مع أننا نعلم كل شروره.
ويلعب (زكريا تامر) بالتراث كما يشاء، أو كما نقول يحفر في الأسطورة ليقوم بصياغتها وإلباسها تراث هذا العصر، وهو هنا ليس من الغباء أن يأتي لك مباشرة، بل هو يحفر في تلك الأسطورة أو الأساطير، كي يثبت لنا رغم قدمها؛ حداثتها، ورغم الدروس التي تعلمناها منها؛ أننا لم نتعلم، ولم نتقن التعلم، ويبدو أننا لن نتعلم مطلقاً. فتحدث عن عنترة العبسي وألبسه ملابس ومشكلات العصر. وتوجد قصة يتحدث فيها عن نبوءة كافور الإخشيدي، ويظهر فيها جهل الحكام ولؤمهم مع الشعراء والمثقفين، فنحن نجد (كافور الإخشيدي) يطلب من (المتنبي) أن يمدحه، وذلك بعد أن قام بضرب المتنبي، ثم رغبته في أن يهجوه، حتى تظل هذه الصفة مرتبطة بالمتنبي، هذا الذي ظل يمدح الحكام ثم يهجوهم، وكأنه يخبرنا بأن السلطة تفهم ما تريده، وتعلم المستقبل الذي تحدده لنا، فيختتم القصة بتلك العبارة: (وفيما بعد، اغتيل المتنبي، ومات كافور الإخشيدي، ولكن ما تنبأ به كافور تحقق وعوقب المتنبي شرّ عقاب حيّاً وميتاً).
لقد لجأ (زكريا تامر) للسخرية كي يحطم هذا الجدار الوهمي الذي بناه الحكام في عقل المواطن العربي، وهو الخوف، ثم بناؤهم جداراً آخر بأنهم أوصياء عليه، وأنهم متحكمون في مصيره، وإلا فإن السجن أو الإعدام هو مصيرهم، وهنا أتذكر تلك القصة عن الرجل الذي يموت في المقهى تحت عنوان (ملخص ما جرى لمحمد المحمودي)، حيث دفن في أرض المقهى، لكن الشرطة جاءت وأخرجته بعد دفنه، وقامت بالقبض عليه، ثم أجبرته أن يتعاون معهم أو يقوموا بحبسه، وكيف لهذا الرجل الميت أن يتعاون معهم، فتخبره الشرطة بأن يتجسس على رواد المقهى، فيعود هذا الرجل الجثة، للنوم مرة أخرى، حتى يكتب التقارير للشرطة، ويتنصت على ما يقولونه رواد المقهى.
وسوف ننتهي من قراءة تلك القصة لنضحك، حتى تغرقنا الدموع، على هذا الواقع الذي نعيش فيه.
فلهذه الدرجة تظل السلطة مرتعشة، وخائفة، وتحب أن تعرف، ولا حرمة لديها لميت، ولا لديها أي بصيرة، خوفاً من هذا الإنسان البائس الذي يعيش بين أنيابها.
لقد عانق زكريا تامر النثر بالواقع، والشعر بالتراث، والقصة بخيال جامح، والمستقبل بنبوءة حقيقية. تلك النبوءة التي يخبرنا بها عن كتاباته فيقول: (عموماً، أنا كتاباتي مجانية وليس لها ثمن، لأنها للحياة والإنسان).
سيظل (زكريا تامر) هذا الطفل العجوز، أو الجندي الذي حمل الكلمات، كجنود دون أسلحة، يرى من خلف الكلمات ما لا نراه، وسيظل جواده الأبيض يصهل وحيداً، ويسعل وحيداً، ومسمار صلب في خشب (تابوت) السرد العربي، ويطرق أرض السرد (بعين ثالثة) لا يمتلكها غيره، محارباً بها الظلم والتخلف والقبح، وسيظل حلمه بأن يعود إلى دمشق، ويجلس في أحد مقاهيها، يشتم مع أصدقائه كل المسؤولين وأصحاب السلطة، دون أن يعتقلهم أحد.

ذو صلة