مجلة شهرية - العدد (585)  | يونيو 2025 م- ذو الحجة 1446 هـ

تاريخنا الوطني في ذاكرة الأمثال الشعبية النجدية

على الرغم من أن الأمثال الشعبية قيلت منذ مئات السنين، إلا أنها مازالت تقال، فقد ارتبط الأدب الشعبي منذ نشأته بهوية المجتمع، التي نتج عنها نماذج من الفنون والموروثات الشعبية سادت لفترة زمنية معينة، ومن هذه الفنون: الأمثال الشعبية، وهي تراث منقول ومحفوظ، يستعمل في الوقت المناسب، وعند حادثة معينة، وبأسلوب مناسب، فراح أهلها يتناقلونه جيلاً بعد جيل، لتبقى موروثاً شعبياً في ذاكرة الأجيال، وحفاظاً على تراثنا من الضياع فقد قام بعض المؤلفين بالبحث عن الأمثال الشعبية في كافة المناطق وجمعها من أشهرهم الأستاذ عبدالكريم الجهيمان في كتابه (الأمثال الشعبية في قلب جزيرة العرب) وذكر فيه ما يقارب عشرة آلاف مثل، والرحالة محمد العبودي الذي جمعها في كتاب من خمسة أجزاء تحت مسمى (الأمثال العامية في نجد).
ففي نجد بصفة خاصة تُتداول الكثير من الأمثال الشعبية في الأحاديث والمسامرات، وعليه فإن الأمثال الشعبية تمثل جزءاً أساسياً من حياة الناس، ومنها تتلخص تجربتهم، ومن خلالها وصلت تجارب أسلافهم، ومن هنا فإنهم يتلذذون دائماً بتداول الأمثال الشعبية، وتكمن أهميتها من الناحية الاجتماعية أن الأمثال تعكس مزيجاً من العادات، والتقاليد، والطقوس، والمأثورات الشعبية، كالملابس، والمقتنيات التي تختص بكل بيئة محددة.
 أما من الناحية التاريخية فقد أسهمت الأمثال الشعبية في تسجيل أخبار كثير من الأحداث التاريخية، فهناك أمثال ارتبطت بحادثة معينة، أو شخصية تاريخية، وهناك أمثال ترتبط بمنطقة معينة تنفرد بها دون غيرها، وقد لا يفهم مغزاها ممن هو خارجها، وبهذا فالمثل الشعبي له فائدة تاريخية كونه وثيقة شعبية لها قيمتها ودلالاتها التاريخية.
 والملاحظ أن المثل الشعبي كان مصدراً مهماً في وسط الجزيرة العربية لسهولة حفظه وتداوله في مجتمع كانت المشافهة هي وسيلة الثقافة الإعلامية، فقد رصدت الأمثال العديد من الوقائع التاريخية التي شهدتها الدولة السعودية في مراحلها المختلفة، من هذه الأمثال التي صورت الأوضاع السياسية في بداية تأسيس الدولة، مثل (رجفة دهام بن دواس) ودهام بن دواس هو حاكم الرياض الذي عاصر الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى، حيث عرف هروبه دون سبب أو سابق إنذار، وقد أورد المؤرخ ابن بشر عن نشوء هذا المثل وملابساته في سنة 1187هـ، حين خرج دهام بن دواس هارباً من الرياض، وصارت هذه الواقعة يضرب بها المثل في نجد وغيرها.
 في حين خلّدت الأمثال الشعبية خبر مقتل الإمام تركي بن عبدالله على يد حمزة بن إبراهيم بأحد الأمثال الشهيرة وهي (فرد حمزة ثاير ثاير) فبعد تولي الإمام تركي بن عبدالله حكم الدولة السعودية الثانية طمع مشاري بن عبدالرحمن بالحكم فدبر مكيدة لقتله وكانت خطته أنه أوعز لمملوكه (حمزة) باغتيال خاله بعد خطبة وصلاة الجمعة فِي الرياض وأعطاه فرداً (مسدس ذو فتيلة)، وتقول الرواية إنه أثناء جلوس مشاري إلى جنب الأمير تركي بن عبدالله وتحدثهم قبيل دخول الخطيب إلى المسجد، قام تركي بإخراج مسواك، وقسمه مناصفة بينه وبين مشاري، وبعد أن انتهت صلاة الجمعة، وسبق مشاري تركي بن عبدالله إلى الباب ليمنع حمزه من تنفيذ الخطة المتفق عليها، بعد أن رق قلبه إذ أهداه تركي المسواك، فأشار إلى حمزة بأن يوقف التنفيذ، إلا أن حمزة الذي كان يحضر نفسه لتنفيذ الخطة ويستعد لذلك نفسياً أجاب بقولته المشهورة: (فرد حمزة ثاير ثاير. إما فيه وإلا فيك). فتم ما خطط له وأصبحت هذه الحادثة مجرى للأمثال.
 ومن هذه الأمثال التي اقترنت بشخصيات شهيرة، فشخصية أمير بريدة مهنا صالح أبا الخيل ارتبطت بالعديد من الأمثال منها مثل (ما غزا مع مهنا) فكان قبل توليه الإمارة اشتغل بالتجارة بين القصيم والعراق والشام، وكان إذا استخدم رجالاً في الغزو أو الخدمة أتعبهم في الخدمة، والسري في الليل فكان من غزا معه يميز عن غيره لكونه اكتسب خبرة معه في الغزو، وصبراً على المشاق، منها قول الشاعر:
قبلك غزينا مع مهنا
    يوم المغازي والإنكاف
 أما المثل الآخر وهو الأكثر شهرة الذي ما زال يجري على ألسنة الناس إلى يومنا هذا وكثيراً ما نسمعه في أوساط العام مثل (جاك يا مهنا ما تمنى) وقصة هذا المثل أن القصيم شهدت اضطرابات سياسية نتج عنها تولي أربعة أمراء من آل أبو عليان وكان مهنا صاحب المثل يخطط للوصول إلى الحكم لما يملكه من ثروة ونفوذ، وقد استفاد من علاقاته القوية مع الولاة العثمانيين في العراق ومع الإمام فيصل بن تركي في عهد الدولة السعودية الثانية الذي أيده في تولي الإمارة فأصبح أميراً عليها لمدة اثنتي عشرة سنة حتى قتل في عام 1293هـ على يد آل بو عليان وأصبح وصوله للإمارة مضرباً للأمثال في نجد.
 كان غزو إبراهيم باشا لنجد قد خلّف في ذاكرة النجديين العديد من الأمثال من وحي ذلك الغزو منها مثل (ما ياجد ولا قرش محمد علي) فكانت القروش التي باسمه لا تساوي شيئاً بعد زوال سلطانه من نجد، فكان يضرب لمن لا يجد شيئاً، وعلى شاكلتها مثل (ما يسوى بيزة محمد علي)، الجدير بالذكر أنه شاع الريال النمساوي في نجد مع قدوم إبراهيم باشا الذي أطلق عليه النجديون اسم أم شوشة لوجود صورة الإمبراطورة بخصلات متموجة على النقد حتى قالوا في أمثالهم (تعبّر بأم شوشة لين تجيك المنقوشة) أما المنقوشة فهو ريال ذهبي يحمل صورة متقنة للإمبراطورة، ومن الأقوال التي قالها إبراهيم باشا وأصبحت مثلاً (أردنا شقرا وأراد الله ضرما) ومناسبة هذا المثل أنه إبان حروب الدرعية أراد إبراهيم أن يبطش بأهل شقراء لما عرفه من إخلاصهم لآل سعود ولكنه لم يفعل، إنما بطش بأهل ضرما فقال هذا القول الذي أصبح مثلاً، أما في مدينة شقراء كان مثل (محض يا ظبية) وتعود قصة صاحبة المثل أن إبراهيم باشا عندما غزا نجد، وعندما وصل إلى شقراء حاصرها حتى دك أسوارها بالمدافع حتى وجد أهل البلدة لا مفر من الصلح، وعندما خرج الأمير للصلح مع إبراهيم صادفته ظبية وقالت: كفرتم أيها الأمير ووضعتم أيديكم في أيدي الكفار؟ وكان لا يحب أن يدخل في جدال معها فقال: محض يا ظبية. أي كفرنا كفراً محضاً.
 وبعد أن وحَّد المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله المملكة العربية السعودية وسادت حالة الأمن واستحدث البرقية التي كانت من أهم الوسائل الحديثة التي خدمت الملك عبدالعزيز في تثبيت دعائم حكمه وحفظ الأمن، شاع المثل المشهور (الأرض فيها مريّة والسما فيها برقية) وهو من أمثال اللصوص وقطاع الطرق عندما كانت الجزيرة العربية مسرحاً للفوضى والصراعات ليعبر عن حالة الأمن والاستقرار.
 من ناحية أخرى فقد عكست هذه الأمثال طبيعة الظروف الاقتصادية والاجتماعية في البلاد قبل النفط ما دفع أهلها للخروج بحثاً عن الرزق، فقالوا (نجد نجدك إلى كثر وجدك) والوجد هو النقد أي ارحل إلى نجد إذا كثرت نقودك، ومنها (ما جابك من الشام إلا بختك) وقد ارتبط هذا المثل بالعقيلات تجار الماشية بين نجد والشام الذين يأتون إلى نجد محملين بالخيرات ثم تنفذ نفقته فيندم على خروجه من الشام، ونفسها مثل (الشام شامك إلى من الدهر ضامك) ومثل (الهند هندك إلى قل ما عندك) و(الحسا حساك لو الدهر نساك) وهي في مجملها أمثال تدعو للهجرة في سبيل الرزق.
 كما كان لرجال الملك عبدالعزيز حضور كبير في الأمثال الشعبية، كان منهم محمد الشلهوب الذي تولى خزانة الملك عبدالعزيز وشؤون الضيافة، وكالعادة في اتهام من يتولى أمراً مالياً فإن بعض الناس يكون المقدّر له من المؤونة صاعاً واحداً من القهوة أو نحوها وهو قليل فيتهم (شلهوب) بأنه يعطيه إياه ناقصاً بأن يلهفه أي: يلقى ما يكون على رأس الصاع أي: لا يعطي الكيل وافياً فقالوا في أمثالهم (صاع ويلهفه شلهوب)، حتى قال أحد الشعراء:
يا ليتني ولد ابن شلهوب
    وإلا ولد حمد بن فارس
اللي براس القلم مكتوب
    يجيه خرجه وهو جالس
  في حين اقترن مثل (مثل حاجة القويز ما يقضيها إلا هو) بالشيخ عبدالرحمن القويز، وكان إماماً للمك عبدالعزيز، فكان من عادة الملك عبدالعزيز يخرج بعائلته في فصل الربيع ويقضي عدة أشهر، وفي إحدى المرات أحتاج القويز إلى أهله الموجودين في الرياض، فطلب من الملك عبدالعزيز أن يأذن له بالسفر، فسأله عن حاجته فأخبره أنه لا يقضيها إلا هو.
 كان مقبل بن عبدالرحمن الذكير من مشاهير التجار ليس في نجد وحسب بل فاقت شهرته الخليج العربي، ويضرب المثل في تجارته ومقدرته المالية، حتى عرف بلقب (فخر التجار) فكانت من الأمثال الدارجة في نجد التي ارتبطت بالذكير (حوالة الذكير) كناية عن المقدرة في تسديد ما تحتويه من مال مهما بلغ.
 فالأمثال الشعبية ليست مجرد أمثال تناقلتها الألسن، بل كانت تحمل إشارات تاريخية لحوادث وشخصيات أسهمت في تاريخنا الوطني.


ش

ذو صلة