مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

هل يجب على البشرية أن تنقرض اختيارياً؟! مسلسل أنثولوجي يطرح الفلسفة اللاإنجابية

فلسفة الـ(Antinatalism) أو (اللاإنجابية) التي يناقشها هذا المسلسل هي فلسفة قديمة جداً، وقد تحدث عنها في الكثير من المواضع أبو العلاء المعرّي صاحب بيت الشعر (هذا جناه أبي عليّ.. وما جنيت على أحد) سابقاً الكثير من الفلاسفة الغربيين، أمثال الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور صاحب كتاب (العالم إرادة وتمثلاً)، والفيلسوف والروائي النرويجي بيتر زفا صاحب رواية (المسيح الأخير)، والفيلسوف الروماني إميل سيوران صاحب كتاب (مثالب الولادة)، ومؤخراً ديفيد بيناتار أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة كيب تاون وصاحب كتاب (الأفضل أن لا تكون: الضرر في القدوم إلى الوجود).. وغيرهم الكثير من الفلاسفة والمفكرين. وهي الفلسفة التي خرجت من حيز الدوائر الفلسفية النخبوية والأكاديمية إلى فضاء الثقافة الشعبية والجماهيرية بسبب مسلسل (True Detective) أو (محقق فذ) الذي دفع البعض إلى إنشاء حركة (VHEMT) والتي تعني (حركة الانقراض الطوعي للبشر)، كما دفع مغني الراب ميسترو إلى تقديم أغنية بعنوان (تهويدتك يا طفلي الذي لن أنجبه أبداً)، بالإضافة إلى ظهور العديد من الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي التي تناقش الفلسفة اللاإنجابية بالعديد من لغات العالم، فما الجديد الذي طرحه المسلسل ليتسبب في كل هذه العاصفة.
الفلسفة اللاإنجابية قديمة بقدم الفلسفة ذاتها، فقد ظهرت في اليونان القديمة، وبخاصة في أعمال سوفوكليس وتيغونيس، في صورة ناقمة على الحياة، وأخذت أطواراً مختلفة، فكانت تُربط بالتشاؤمية والعدمية، ثم أصبحت ترتبط بالشفقة على حال الإنسانية التي لا تحتاج مزيداً من الضحايا، ثم أصبحت تُطرح كمسألة أخلاقية، خصوصاً في مناطق الحروب والمجاعات، وبدأت تعتبر أن الآباء الذين ينجبون أولادهم في مثل هذه الظروف هم مجرمون، ومن ثم تبلورت الفلسفة اللاإنجابية مؤخراً باعتبار أن الحياة الإنسانية ككل حياة مأساوية، ومهما وصلت إلى السعادة والرفاهية فإنها لا تقارن بحجم الآلام والمآسي، ولذلك يجب على البشر أن يختاروا الانقراض السلمي الطوعي الآمن، بدلاً من نهاية كارثية بالأسلحة النووية أو بالكوارث الطبيعية، وهي الخلاصة التي يقدمها مؤلف ومبتكر المسلسل نِك بتيزولاتو في أولى حلقاته على لسان شخصية المحقق روستن كول الذي يقول: (أعتقد بأن الوعي الإنساني زلّة مأساوية في تطور النوع البشري، لقد تجاوز وعينا بالنفس الحد اللازم. أوجدت الطبيعة جانباً منها غريباً عليها، نحن كائنات لا ينبغي أن توجد وفقاً للقانون الطبيعي. نحن أشياء تكدَح مدفوعة بوهم امتلاك ذات، برمجتنا مشاعرنا وخبراتنا الحسية بتأكيد تام على أن لكل منا أهميته، بينما في الحقيقة لا أهمية لأحد. أعتقد أن رفض برمجتنا هو أنبل ما يمكن لجنسنا فعله: أن نكف عن التناسل ونمضي يداً بيد صوب الانقراض. صوب ظلمة أخيرة، أخوة وأخوات، منسحبين من صفقة فاشلة).
قوة ذلك المشهد ليست فقط في الأفكار التي يطرحها، ولكن في التمهيد الطويل الذي قام به بتيزولاتو على لسان المحقق إريك هارت، الذي أضاف هالة من الرهبة والغموض على زميله روستن كول الذي يلقبونه برجل الضرائب، وذلك لأنه لا يحمل نوتة صغيرة يدون فيها ملاحظات سريعة، ولكن يمسك بدفتر ضخم يشبه دفتر رجال الضرائب، يسجل فيه كل صغيرة وكبيرة، بل يقوم برسم مسرح الجريمة بأدق التفاصيل، وتكتمل حالة الغموض تلك عندما نعرف أنهما زملاء عمل لشهور طويلة، لم ينطق فيها روستن كول حرفاً واحداً خارج حدود العمل، وهو ما يجعلنا نترقب مع زميله كنه ذلك العقل الذي لف حول نفسه ستاراً من الصمت، والسبب الثاني في قوة المشهد أنه المشهد التأسيسي للعمل ككل، وهو ما سيتناوله بتيزولاتو عبر موسمين في ست عشرة حلقة كاملة.
نِك بتيزولاتو اختار أن يطرح أفكاره عبر مسلسل أنثولوجي، يختلف كل موسم من مواسمه في قصته وشخوصه وأحداثه عن الموسم الآخر، حقق الموسم الأول نجاحاً نقدياً وجماهيرياً كبيراً، وحصل على العديد من الجوائز من بينها خمس جوائز إيمي، بينما لم يحظ الموسم الثاني بنفس الاستقبال والحفاوة بسبب ابتعاده شكلياً عن كل ما تميز به الموسم الأول، وإن كان بتيزولاتو قد قام بقرار واع بأن لا يكرر أو يستنسخ الموسم الأول كما هو، وأن يكون الموسم الجديد استكمالاً لأفكار ما سبقه، ولكن ربما لم يُوفّق في صناعة توليفة جذابة في الحلقات الأولى من الموسم الثاني لأنه اختار أن تكون الأحداث تصاعدية وليس بطريقة الـ(فلاش باك) التي اعتمدها من قبل، كما أن عدد الشخصيات الرئيسة في الموسم الثاني كبير للغاية مقارنةً بشخصيتين فقط في الموسم الأول، وهو ما استهلك وقتاً إضافياً طويلاً في التعريف بعوالم جميع تلك الشخصيات، ولكن المغامرة كانت تستحق أن يذهب بعمله الفني إلى حيث أراد هو وليس إلى ما أراده جمهور الموسم الأول.
يحكي الموسم الأول حكاية المحققين روستن كول وإريك هارت اللذين يحققان في جريمة قتل غريبة، تشبه الجريمة الأولى من مسلسل هانيبال من الناحية الشكلية، فتاة عارية في وضعية غريبة وعلى رأسها شيء يشبه التاج، وحولها عدد من الرموز والأشياء التي تشبه التعاويذ مصنوعة من الخشب، ومن ثم تبدأ رحلتهما في البحث عن ذلك الجاني الواثق الذي يفتخر بعمله ويقدم ضحيته بهذا الشكل في ذلك المكان المفتوح، ومع توالي الأحداث تتضح شخصيتا كول وهارت المتناقضتان، فكل ما يمثله كول من أفكار وتصرفات متطرفة من وجهة نظر المجتمع، ستجد أن هارت يقف على الناحية الأخرى تماماً، المحرك الحقيقي الذي يحرك فلسفة روستن كول التشاؤمية تجاه ذاته والعالم هو أنه فقد طفلته الصغيرة في حادث مأساوي عصف بحياته وبزواجه وعالمه بأكمله، رغبته في الانتقام من كل من يؤذي الأطفال تجعله مهووساً بالقضايا التي يكون ضحاياها من الأطفال والمراهقين، ولذلك فإنه يرى على البشرية أن تكف عن الإنجاب حتى لا تؤذي أطفالها، ويرى أن من واجبه الشخصي إنقاذ أكبر قدر ممكن من أطفال العالم من أيدي المجرمين.
تتوالى الأحداث ونكتشف أن الجريمة الأولى لم تكن من قبيل المصادفة، وأنها تأتي ضمن سلسلة جرائم لم يتم الربط بينها من قبل بسبب اختلاف شكل الجريمة، وفي الوقت الذي يعود فيه هارت إلى منزله وعائلته بعد انتهاء العمل، يظل كول يبحث ليل نهار عن خيوط تدله على ما حدث، يذهب بنفسه ليحقق ويستجوب ويعود إلى منزله الذي يعيش فيه وحيداً ليفكر ويحلل ويرسم شبكة على جدار منزله تربط كل ما يحدث ببعضه البعض، الجدير بالملاحظة هو أن معظم الضحايا هم فعلاً من الأطفال والمراهقين، وهو ما يعزز إيمان كول أن هناك شبكة ما تلف كل ذلك، في أثناء ذلك تتعقد علاقة كول مع هارت وزوجته، وهو ما يفسد كل شيء، يفسد زواج هارت ويفسد صداقته الوليدة مع كول، وتلقي تلك المشاكل بظلالها على أطفال هارت الذين لا ذنب لهم في كل ما حدث، وهي إشارة ثالثة من بتيزولاتو أن الأطفال هم ضحايا كل شيء يحدث في عالم البالغين، ليس فقط الجريمة ولكن أيضاً الزيجات الفاشلة، ينتهي الموسم الأول بالوصول إلى القاتل الحقيقي الذي كان يختطف كل هؤلاء الأطفال، ليقدمهم إلى رجال كبار في الدولة لن نعرفهم أبداً، يمارسون طقوساً دينية غريبة تنتهي بقتل الأطفال كقرابين، هؤلاء الكبار الذين يطارد كول أشباحهم في كل مكان يذهب إليه، ويكتشف أن أياديهم قد طالت كل المؤسسات الرسمية، المدارس.. الكنيسة.. وحتى جهاز الشرطة نفسه يقدم لهم حماية حتى لا يتمكن أحد من الوصول إليهم، وبذلك يظل الموسم الأول يدور في فلك الجريمة المباشرة.
على العكس من ذلك فإن الموسم الثاني تدور أحداثه بين الكبار الذين يرسمون ويخططون كل شيء، لا يظهرون بشكل مشوش على شريط فيديو كما في الموسم الأول، ولكن ندخل معهم إلى داخل طقوسهم اللاإنسانية ونشاهد بأنفسنا ما يفعلونه بالمراهقين، الشخصيات الرئيسة في الموسم الثاني هم المحقق ريموند فولكورو الذي يعاني أيضاً من عقدة انتقام مثل روست كول، فريموند تعرضت زوجته للاغتصاب من قبل أحد المجرمين، وانهار بنيان زواجه مع الوقت، وظل ابنهما محل تساؤل حول إن كان ابنهما بالفعل أم أنه ابن المُغتصب، وبذلك يأتي ذلك الطفل إلى علاقة زوجية منتهية أصلاً ويصبح ضحية صراعات والديه في المحاكم لتولي حضانته، الشخصية الثانية هي المحققة أنتجون بيزاريدس وهي الابنة الكبرى لرجل غريب الأطوار، نفهم أن بينهما خلافاً كبيراً ناتجاً عن تربية وحياة خاطئة بالكامل، الشخصية الثالثة هي المحقق بول وودرغ وهو مثلي غير متصالح مع مثليته، ويعيش حالة إنكار تدفعه إلى الارتباط والإنجاب من دون أن يكون مستعداً بالفعل لكل ذلك، وكما هو واضح فإن بتيزولاتو هنا يقدم تنويعة كبيرة من كافة الأشكال المعقدة التي تنتج أطفالاً مشوهين نفسياً، بعدما مر عليها سريعاً في الموسم السابق من خلال أطفال هارت.
الشخصية الرابعة والأهم في هذا الموسم هو أحد المجرمين الكبار الذين لم نقترب من عالمهم في الموسم الأول، وهو رجل الأعمال فرانسيس سيميون، والذي يكوّن علاقة مصلحة وصداقة مع المحقق ريموند فولكورو من أجل تبادل مختلف أشكال المنافع، سيميون أصبح رجل أعمال من الصفر، ولكن ليس بطرق شرعية، فهو ضحية لزواج فاشل وظروف اجتماعية واقتصادية أشد فشلاً دفعته إلى عالم الجريمة، ورويداً رويداً أصبح ذا شأن عبر علاقاته مع المجرمين الكبار وإصراره على أن يكوّن عمله الخاص بعيداً عن التبعية للآخرين، ولكن تبدأ حياته المهنية بالانهيار عندما يُقتل شريكه في العمل في الحلقة الأولى، شريكه الذي أعطاه سيميون عدة ملايين لبدء شراكة عمل جديدة كان من المفترض أن تدر عليهما الربح الوفير، وبذلك تبدأ رحلة سيميون في البحث عن المستفيد من تخريب أعماله، ويتحول الأمر إلى ما يشبه حرب العصابات، الكثير من الصراعات والتحالفات ومحاولة الخروج بأقل خسائر ممكنة قبل أن ينقلب الأمر إلى قلب الطاولة على الجميع، يحاول سيميون أن يعوض الملايين التي خسرها بإدارة أعمال صغيرة غير شرعية مثل السماح لتجار مخدرات أن يبيعوا المخدرات في نوادي القمار التي يملكها مقابل هامش ربح، يذهب إلى كل مشروع باعه من قبل ويفرض الإتاوة على من باع لهم أعماله السابقة، يكاد يخسر زوجته التي تتصدع علاقته بها نتيجة وجوده بشكل دائم خارج المنزل، يموت عدد من رجاله بشكل مفاجئ وغريب، يتعرض للخيانة من مساعده الأكبر الذي يكشف له أن مخططاً كبيراً أصبح يلف حول عنق سيميون ولم يعد من الممكن الفكاك منه، وكرجل جريمة منذ نعومة أظافره ينتقم سيميون بيديه العاريتين من العصابات المنافسة له بعد أن أدرك أن عالمه انهار تماماً ولم يعد من الممكن قبول فكرة أن يكون الخاسر الوحيد.
التجارة المخيفة التي تدور حولها أحداث الموسم الثاني هي تجارة المراهقات والزج بهن إلى عالم الدعارة، ذلك العالم الذي أشار إليه الموسم الأول سريعاً وبشكل عرضي، في الموسم الثاني نكتشف أن هناك صناعة كاملة تقف وراء الأمر، فالفتيات اللاتي يتم اختطافهن أو تجنيدهن يجب أن يكن من فئة عمرية محددة، ويجب أن تكون لهن مواصفات قياسية، يقوم عليها بشكل سري طبيب تجميل شهير، يحول المراهقات إلى بضاعة متشابهة ذات مقاييس جودة صارمة، والزبائن التي تدفع ثمن كل ذلك هم نخبة من رجال الأعمال والسياسيين والمشاهير في حفلات ماجنة وصاخبة تحدث بشكل سري تماماً وبحماية من الشرطة التي تحصل على مقابل ذلك، وفي ختام الموسم تحمل كل من المحققة أنتيجون وزوجة سيميون طفلتيهما في كولومبيا بعد مقتل جميع الشخصيات الرئيسة من الرجال داخل حرب عصابات جنونية لم ينجُ منها أحد، وهي النبوءة التي يحذر منها بتيزولاتو منذ البداية وطوال أحداث المسلسل.

ذو صلة