بداخلي ضعف شديد تجاه كل القصص التي وُلِدت ونبتت في المدينة المنورة، بين جانحيّ عاطفةٌ عميقة، مغدِقة، معطاءة، تتدفّق تجاه كل الأناسي الذين عاشوا شطر حياتهم الأول هناك، في هذه البقعة العطرة المباركة. وكلما علمتُ عن شخص أنه كان من أهلها، توسمتُ فيه الطيبة والصدق ونقاء السريرة، ولو لم أكن قد عرفته يوماً!
يريحني ويحملني على التضافر قلباً وقالباً استخدامُ الكاتب ألفاظاً لا يعرفها إلا من عاش عمراً في المدينة المنورة. ورغم بُعد السنوات الشاسع الذي يفصل بيننا، إلا أن تلك الكلمات حفظتها ذاكرة أهل المدينة، وتناقلتها الألسن عبر خرير الزمن، حتى وصلت لمسمع الطفلة المولودة في ربوعها، والتي هي أنا: كلمات مثل (بيشة)، (أبغى)، (دحين) تكاد تذيب قلبي، وأكاد أسمعها من رفاق الطفولة عبر حجاب الزمن.
ولا أكاد أصدق عينيّ بينما تمرّ بي أسماء أحياء المدينة التي أحفظها عن ظهر قلب، بل وينير اسم حي العوالي ناظري، وهو الحي الذي وُلدتُ فيه أنا وإخوتي، ولا نزال نحمله في قلوبنا أينما ارتحلنا، وحيثما طوّفتنا الدنيا، عالقاً بنا أبداً، أثراً عطراً لا ينضب.
ولأول مرة، أدرك معنى الانتماء والمحبة لمكان بعينه. في هذه الذكريات، من التفاصيل، والتدقيق في الحكايا، وإطالة الوصف، ما لو كنتُ قد وجدته في رواية أجنبية بطابع غربي غريب عني، لما احتملتُ صفحة واحدة. غير أنني هنا، في كل تدقيقة وتفصيلة، وكل حوار بعامية المدينة المحببة إلى قلبي، أجدني أقف أمامه طويلاً، وأتمعن في أحرفه، وأتأمل بحرية في كل مشهد منه. وما هذا إلا لعشقي للمدينة، وذهولي أنني أعيش وأتقلب في أيامها قبل مئة عام من زماني هذا.
عشتُ مع الخالة فاطمة دقيقة بدقيقة، أحمل معها آلامها ومخاوفها وحزنها ومآسيها، ثم عوض الله وتسخيره لها أناسه الطيبين الصالحين.
هذا الشعور بالانتماء لما أعرف، يغرس عميقاً في وجدان الإنسان، دون محاولة منه أو سعيٍ لإيجاده، وكأن الأرواح حقاً تترك أثراً منها في كل البقاع التي سكنتها شطراً طويلاً من أعمارها، خصوصاً المنزل الأول، والحبيب الأول، وذكريات المهد والصحب الأولى.
فاجأني هذا الشعور لأول مرة لدى عودتي إلى المدينة المنورة بعد أشهر من فراقها، وجدت قلبي يكاد يثب في صدري، ونبضاتي تتسارع، بينما المسافات تتضاءل في طريقنا إليها: نخيلها، طرقها الواسعة، أسماء الشوارع، الطريق إلى الحرم، ثم عمارتنا بشرفاتها الخضراء، والشارع الترابي خلفها، ومركز شرطة العوالي مقابلها، والمزرعة الخضراء أمامها.
آه يا الذكريات!
كل هذا لم يعد موجوداً بطبيعة الحال، مركز الشرطة انتقل، وتحول موقعه إلى سلسلة محالّ، والساحة الترابية استقر فوقها فندقٌ حديثٌ ضخم، والشوارع تغيرت، واللافتات أُنزلت، والمزرعة قُطعت كل أشجارها واستُبدلت بـ»هايبر ماركت». كل الملامح تبدلت واختلفت، ولم تعبأ بالحنين يكاد يمزق أفئدتنا.
ولعلها صدفة أن أقرأ سيرتين ذاتيتين تدور أحداثهما في الوقت ذاته، لكن بينما كان أحدهما يعيش في المدينة المنورة، وُلد الآخر، وعاش وسكن في قاهرة مصر. والمفاجأة أن الحياتين قد لا تختلفان إلا قليلاً، ولا يعود هذا إلى تشابه الأحلام والتطلعات وشقاوة الصبا التي اشترك فيها الكاتبان فحسب، لكن أيضاً إلى تشابه التدرج الدراسي، والالتحاق بمدارس افتُتحت لتوها، وحب القراءة والأدب، الذي كان بوابة إلى العالم الواسع، البعيد، الممتد، والإسهامات الجليلة، فيما قُدِّر له أن يكون من أعظم المنشآت الثقافية والأدبية فيما بعد: عزيز ضياء وأحمد أمين.
(من الذي يستطيع تذكر أول صباحٍ في حياته ما دام قدِم الحياة ذات يوم، ودرج مع الأحياء يستقبل الأصباح كما يستقبل الأماسي؟
لكن أنا.. أنا أذكر أول صباح في حياتي).
هكذا يستهلّ الكاتب ذكرياته، ويشرع في الحديث عن أهم، وأفظع، وأقسى حقبة في حياته، رغم أن تلك الحياة جرت مقاديرها وهو دون الخامسة عمراً، حيث يقص عليك قصة الأسرة التي ارتحلت إلى الشام بالبابور، مع الآلاف من أهل المدينة، بأوامر من الدولة العثمانية التي كانت تتهاوى عروشها في أمل ضعيف للحفاظ على الحجاز.
الأسرة كانت تتكون من عزيز، وأخيه الرضيع، وخالته الحبلى، ثم من الشيخ العجوز، والد الفتاتين، والجد المقرئ الجليل أحمد الصفا.
إن المعاناة التي يصفها عزيز، والتي تتجلى في كلمته وهو يهز كمّ أمه:
(فَفّم، أنا جعان)
فيها من الوجع والخوف والترقب القلق، ما هو كفيل بجعل القلب ينفطر حقاً، لا مجازاً.
(عرفتُ الجوع الحقيقي، الجوع الذي يمزق الأمعاء، الجوع الذي جعل وجبة من خبز الشعير الأسود ألذ وأشهى وجبة ذقتها في حياتي).
إن ما جعل فؤادي يتمزق، هو موقف الشيخ العجوز، وهو يحمل على عاتقه رعاية ابنتيه والأطفال الثلاثة، ولا معين ولا سند لهما سواه. هذا الأب العملاق، المخيف، الذي هزّته أهوال الجوع والحرب، وقصّرت قامته، كان يغادر البيت تحت أصوات القصف البعيدة، ولا يعود إلا بزاد اليوم الضئيل الهزيل.
ذلك الأب الذي احتوى ابنته بين يديه، يوم مات طفلها، يحتضن رأسها إلى صدره، وفي عينيه دموع يكبتها، وآهاتٌ يكتمها، ووجعٌ لا يُقال.
ثم إن هذه الفصول، كما يخبرنا عزيز، هي من بطولة هذا الجد، والأم فاطمة، أو (ففّم) كما كان يدعوها، وهي تشهد احتضار شقيقتها، حبة قلبها، وأرقّ وأجمل من في الأسرة، ثم وهي تزف إلى القبور طفليها، ثم وهي تنكفئ على صدر والدها الذي انطفأت فيه الحياة، وتحتضن بين كفيها وجهه، ثم يغشى عليها لفرط الهول، هي وعزيز جنباً إلى جنب.
ثم تأخذ على عاتقها مهمة العودة إلى الوطن، إلى المدينة المنورة، برغم ما ألمّ بها من مرض الملاريا، وليس في يدها سوى طفلها ذي السنوات الخمس.
وما كان منها، إثر وصولها، إلا أن تسجد ثلاثاً، وتلعق الثرى الذي آبت إليه أخيراً.
هذا المشهد هو ما حفر في قلب عزيز معنى الانتماء، ومعنى الوطن.
هذه المأساة، التي تمثل الشطر الأول من مذكراته، هي أكثر ما يُحفَر في القلب، ويبقى أثراً لا يُمحى بعد الانتهاء من مذكرات الجوع والحب والحرب بجزئيها.
الأسلوب الأدبي في هذه المذكرات مذهل، مذهل فوق كل وصف.
يجمع بين فصاحة بليغة، وسهولة جذابة، وأسلوب مشوّق، آسر.
ووجدتني أتساءل: كيف لم أسمع بالأستاذ عزيز ضياء من قبل؟ وأين كانت مؤلفاته عني؟
وبما أن الجزء الثاني انتهى فجأة، استعنت بمحرك البحث (جوجل)، وكلي فضول لأكتشف كيف كبر هذا الإنسان، هذا الوليد الذي رافقته طوال سنوات عمره الأولى، حتى تركته شاباً يخطو نحو العشرين.
وكما توقعت، كانت رحلته زاخرةً بكل ما هو جميل: جامعات في بيروت والقاهرة، رحلات حول العالم، مؤلفات أدبية، مناصب مرموقة، جريدة أدبية صارت صرحاً من بعده، مقولات وآراء لا تنفد. حتى كان رحيله، يرحمه الله، عام 1997، بعد أن خلف وراءه بصمة لا تُمحى، تشي باسمه وقامته وإسهاماته، وتحكي للأبد حكايا بقلمه، ما كان لها أن توجد بيننا اليوم.
حكايا جعلتنا نرى المدينة قبل مئة عام، ونعيش وأهلها، ونشهد أحاديثهم، وشيئاً من قصصهم، وتقاليدهم، وضحكاتهم، وأحزانهم، الساحات، والأسواق، وأبواب الحرم، وألعاب الأطفال.
حكايا لا يسع قلمي قط الإحاطة بشعور الامتنان الهائل الذي يملأ جناني للأستاذ عزيز، لأنه قصّها عليّ، لكأنه كان حاضراً أمامي، يأخذ بيدي في رحلةٍ إلى الماضي الذي لطالما شغفتُ به، وبين ربوع أشتاق العودة إليها، تشدني إليها الذكريات، والطفولة، والمدرسة، والرفقة التي جمعتنا قبل أن ننتشر ذرات في فضاء الأرض الواسعة الرحبة.
والغريب أنني صرت أشعر، وكأن الطفل عزيز كان برفقة طفلتي، كلاهما وُلِدا هناك، وكلاهما ظلّا أبداً في حبٍّ وحنين للمدينة المنورة،
نسرح أشباحاً بين طرقها وأزقتها، وحواريها القديمة، في طواف أبدي لا يعترف بالزمن.