جزيرة صقلية، تلك الجوهرة الواقعة في قلب البحر المتوسط، لم تكن مجرد موقع جغرافي فحسب، بل كانت معبراً حضارياً مهماً بين ضفّتي العالم الإسلامي وأوروبا، فقد أشار ياقوت الحموي في معجم البلدان إلى موقعها الجغرافي بقوله: إنها من جزر بحر المغرب، وتقابل بلاد إفريقية، أي تونس حالياً، وقريبة من شكل المثلث، والمسافة بينها وبين يابسة إفريقية تبلغ مئة وأربعين ميلاً، أي ما يعادل حوالي 225 كيلومتراً. ويذكر الحموي كذلك أنها جزيرة خصيبة غنية بالموارد، فيها الكثير من القرى والأنهار والمواشي، وخالية من السباع والعقارب، وتنتج أنواعاً عديدة من الفواكه والمعادن كالنحاس والفضة والذهب، وتتميّز بزراعتها للزعفران، كما لا ينقطع محصولها لا في الصيف ولا في الشتاء، ويخلص إلى أنها كانت في الأصل قليلة العمران وخاملة قبل أن تصلها الحضارة الإسلامية.(1)
إن مفهوم المعابر الحضارية لا يقصد به مجرد العبور العسكري أو السياسي، بل يشمل تأثيراً حضارياً ملموساً ينتقل من أمة إلى أخرى ويندمج في ثقافتها تدريجياً. وصقلية كانت من أهمّ تلك المعابر؛ فقد خضعت للحكم الإسلامي بعد أن كانت تحت سيطرة الإمبراطورية البيزنطية، وبدأ فيها المسلمون مشاريع حضارية تركت آثاراً بعيدة المدى. وبعد دخول المسلمين إلى صقلية اندمجوا مع أهلها بسلام، وحتى بعد زوال حكمهم على يد النورمان، لم يخرج المسلمون منها تماماً، بل استمر تأثيرهم في مختلف جوانب الحياة. وكان الملك النورماني روجر الأول يعامل المسلمين باحترام، بل ترك العلماء والفقهاء والناس يمارسون حياتهم وعاداتهم بحرية، واحتفظوا بكنائسهم وقوانينهم، وهو ما يشير إلى عمق حضورهم وتأثيرهم في الجزيرة.(²)
اهتم المسلمون في صقلية بتطوير الزراعة واستصلاح الأراضي، كما أنشؤوا مصانع للورق والحرير، ونقلوا هذه المهارات للسكان الأصليين، وشيّدوا القصور والمساجد ذات الطابع الإسلامي التي بقيت محفوظةً طيلة قرون. ومن دلائل التأثير العميق استمرار بعض الألفاظ العربية في اللغة المحلية نتيجة احتكاك الولاة وحرصهم على العدل والمساواة، وحفرهم للمجاري وتوسيعهم لحركة التجارة، مما أدى إلى ازدهار اقتصادي غير مسبوق. ومن المظاهر الاجتماعية الملفتة أن نساء صقلية تشبهن في لباسهن بلباس النساء المسلمات، فلبسن النقاب والحرير المذهّب، حتى أصبح الزي الإسلامي حاضراً في مجتمع الجزيرة. أما على صعيد التعليم، فقد أسست مدرسة عربية في مدينة جنوة الإيطالية لتعليم اللغة العربية، وهو ما يدل على استمرارية هذا التأثير الحضاري. وقد نقل ابن جبير في رحلته الشهيرة مشاهدات دقيقة تدل على هذا التداخل، حيث وصف ملك صقلية حينها، وليام الثاني، بأنه كان يعامل المسلمين معاملة حسنة، ويثق فيهم، حتى جعل منهم قادة في الجيش ومسؤولين في البلاط، وذكر أن الناظر في مطبخه كان من المسلمين، بل إن وزراءه وحجابه أيضاً كانوا منهم.(3)
---------------------------
(¹) البغدادي، ياقوت بن عبدالله: معجم البلدان، ج3، ص416–417.
(²) الملا، أحمد علي: أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوروبية، ص120–126.
(³) ابن جبير، محمد بن أحمد: رسالة اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك، ص267.