مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

الحقيقة وحدها لا تكفي للزخرفة

لماذا علمونا، منذ صغرنا، أن الفصاحة والبلاغة والطلاقة هي فضائل كبرى؟
بخلاف إعجابي العميق بالقدرات الكتابية لمن يسجلون جيداً (لأن الكتابة -بطبيعتها- تأتي مع الكثير من أدوات الانضباط والتثبت، كالمساحة الوقتية والانعزال والقلق والمراجعة والتراجع والمقارنة والتصحيح وحزم كاملة من الأدوات البحثية)، هل تصدقني إن قلت إنني لا أرى أي جمال في الطلاقة الكلامية القصوى؟
من ناحية، ربما كمن السبب في أن الطلاقة ترتبط بالضرورة بالاسترسال والإطناب والاستطالة والإسهاب، وهذه جميعها نقائض للمباشرة والفعالية.
ومن ناحية أخرى -وهي الأهم- ربما يتمثل السبب في فكرة (الارتباط الشرطي) conditioned reflex، وفق تعبير عالم النفس الروسي بافلوف Pavlov وتجاربه الشهيرة؛ فهناك -في مكان ما من عقلي- ارتباط وثيق بين الطلاقة من جهة، وبين الزيف والادعاء من جهة أخرى، ولذلك فأنا أجد الطلاقة العالية مريبة دائماً.
أرى الطلاقة كمركب شحن كبير، لا تكفي الحقيقة وحدها لملئه في أغلب الأحيان، ولذلك فهو يأتي محملاً -إلى جانب الحقيقة- بحمولة حاويات ثقيلة من الزيف والادعاء والدجل والكذب والمبالغة. وحتى تتوزع هذه (الحمولة) الديماغوجية جيداً على ظهر مركب الخطيب المفوه، فلا بد -في أغلب الأحيان- من موازنة شحنته البلاغية هذه من خلال رصّ حاويات أخرى على الجانب المقابل من سطح المركب، وهذه الحاويات الإضافية عادة ما تكون عامرة بأطنان من الميل المرضي للظهور الاستعراضي، لأن الطلق، في بيئتنا العربية العتيقة، يدرك تماماً أنه محاط بإطار نموذجي جداً لأمثاله: مجتمع ذي ثقافة شفاهية راسخة، ينظر أفراده إلى لسان الخطيب -وليس إلى ما يتحرك به هذا اللسان- كقدس الأقداس، ولقدراته الكلامية كفضيلة كبرى، أياً ما كان المحتوى العبثي لما يتفوه به هذا الخطيب. وهكذا، ينتهي الأمر مع الطلق دائماً بكمية أسطورية من الفخر، كفيلة بإدارة أكبر الرؤوس تواضعاً.
لا يحضرني تعبير مصور لعلاقة الطلق بجماهيره أفضل من اللوحة الشهيرة للألماني Magnus Zeller المعروفة باسم (الخطيب) The Orator (الصورة). لاحظ شكل الخطيب الذي يوحي بامتلائه بما لا أجد تعبيراً عنه أفضل من لفظ panache الإنجليزي، أي إدمان الشعور المختلط بالعظمة والنشوة معاً، والذي نقله لنا الفنان بكل اقتدار.
في أغلب الأحوال، يصدق ظني. نظريتي الخاصة الآن هي أن هناك -إلى أن يثبت العكس- علاقة طردية بين الطلاقة النشطة وبين الزيف؛ فكلما ازدادت طلاقة المتحدث ومساحة ظهوره، ازداد اضطراره لتعبئة قوالبه الكلامية الفارغة والسريعة بما هو أكثر من (الواقع) وبما يتجاوز (الحقيقة).
(الأمثلة الجيدة على ذلك لا تعد ولا تحصى في كل من الخطاب السياسي بما يختلط به من كذب وخلط، وفي الخطاب الديني الوعظي/التجاري وما يقحم به من إحالات مبالغ فيها إلى الكثير من الإعجازيات والغيبيات).
كان رسول الله صلى الله عليْه وسلم يقول: «أخْوف ما أخاف عليْكمْ بعْدي عليم اللسان».
عبر التاريخ، وبشكل عام، لم تكن الحقيقة أبداً حليفاً جيداً للنشطين من الطلقين كلامياً، لأن الحقيقة تأتي عادة عارية، فقيرة، مملة، وجرداء.

ذو صلة