مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

العودة إلى الجمال الفنون الصوتية في الميزان الحضاري الإسلامي

عندما تتذكر كلمة (حضارة)، تتبادر إلى الأذهان فوراً المخطوطات النفيسة، القصور الشامخة، والمساجد العتيقة. تلك المشاهد البصرية بلا شك تشكل شواهد عظيمة، لكنها ليست القصة الكاملة. هناك قصة أخرى، أعمق وأكثر حميمية، تُحكى بين ثنايا عبق البن المحمص في الصباح، وصدى الأذان بين الأزقة الضيقة، ومذاق حلاوة الطحينة التي تُعدّها الأيدي الحانية. إنها قصة حضارة تُروى بالحواس المنسية، قصة حضارة لم تقتصر على المنظور البصري بل امتدت لتشمل العطر، الصوت، الطعم والملمس. في حضارتنا الإسلامية، ليس الجمال ما يُرى فحسب، بل ما يُسمع ويُشمّ ويُلمَس ويُتذوَّق، وكان أعلامها يعيّنون هذا العالم الحسي الغنيّ، ويمنحونه مكاناً لافتاً داخل الفكرة الحضارية.
في مدن الخليج مثلاً، لا يُعدّ (العود) و(الدّهن) مجرد عطور، بل هما سفراء للهوية ومفاتيح للاحتفاء بالذاكرة الجماعية. وقد كتب علماء الكيمياء المسلمون مثل الكرخي وما سبقه بدقة وصفاً لطرق تقطير الورد والعنبر والمسك، محولين هذا العلم إلى صناعة عطرية راسخة من بغداد إلى غرناطة، ليس من أجل المتعة فحسب، بل لأنّ (الذاكرة الشمية) كانت أداة فعالة لحفظ الشعائر والعادات. رائحة البخور في المجالس، ورائحة الزعتر والحبق في البيوت، كلها تشكّل نسيجاً خفياً من الذكريات التي تربط الفرد بأرضه وتاريخه، كما فعل علماء النفس العرب القدامى عندما ربطوا بين الرائحة واستدعاء المشاعر والذكريات بلغة تفوق ما تبلغه الصورة. بهذا المعنى، كانت الحضارة الإسلامية قوة حسية متكاملة: عطراً وصوتاً وطعماً ولمساً.
إذا كانت العمارة الإسلامية تجسيداً للفضاء، فإن الأصوات كانت روحها النابضة. فلم يقتصر دور علماء الصوتيات والموسيقى مثل الفارابي في كتابه (إحصاء العلوم) على وصف النظريات الموسيقية فحسب، بل امتدّ إلى تحليل الظواهر الصوتية من حولهم: صدى الأذان الذي ينساب كخيط نوراني يربط السماء بالأرض، لم يكن مجرد نداء للصلاة، بل كان مؤقتاً يومياً للجماعة ومحدداً لإيقاع الحياة، وضجيج الأسواق الشعبية، بنداءات الباعة وأصوات المطارق في ورش الحِرف اليدوية، كانت تشكّل نسيجاً صوتياً اجتماعياً يخزن في ذاكرة الأجيال حتى بعد زوال تلك الأماكن. وفي المطبخ والورشة، كان الإبداع الحسي حاضراً، فالأطباق التراثية التي تنقلها الجدات ليست مجرد وجبات بل جسوراً بين الأجيال، كل لقمة تحكي قصة زراعة القمح وطحنه، وتوابل طريق التجارة القديم، وحكمة حفظ الطعام، بينما الحرفة اليدوية، كالحياكة والخزف، كانت تُحاكي اليد واللمس، في النسيج والخزف كانت الأصابع تتحرّك كأنها تروي الصبر والإتقان، وفي العمارة كان ملمس الحجر المنحوت والجص المنقوش يخلق حواراً بين جسد الإنسان والفضاء المعماري، وهو ما أشار إليه مهندسون ومسجّلون قدامى في مخطوطاتهم عن فنون البناء. بهذا المنظور، كانت الحواس الخمس أدوات لحفظ الهوية والإبداع الثقافي وليست مجرد وسائل لاستهلاك الجمال.
في عصر رقمي يهيمن فيه البصر والشاشات، أصبحنا محاصَرين بصورة جامدة تفقدنا تدريجياً حساسيتنا تجاه العوالم الحسية العميقة، لكن هذا التحدي يحمل في طياته فرصة كبيرة. كيف يمكننا، باستخدام التقنيات الحديثة، أن نسجل ونحيي (التراث الحسي) غير المادي؟ هل نستطيع أن نخلق متاحف افتراضية نستمع فيها إلى أصوات أسواق بغداد القديمة؟ أو نشمّ فيها عطور القاهرة في العصر الفاطمي؟ تبدأ اليوم الصحوة من مبادرات فنية ومتاحف تحاول كسر هيمنة البصر، كأن يُستخدم معرض تقنيات نشر العطور لإعادة رائحة سوق عتيق، أو معرض فني يعرض مقطوعات صوتية لأذان مساجد تاريخية، أو ورش عمل لتعليم الأطفال فنون الخزف والتطريز لاستعادة ذاكرة اللمس. إن تراث الحضارة الإسلامية يذكرنا بأنّ ثراءنا الحضاري لا يكمن فقط فيما نرى، بل أيضاً فيما نسمع ونشم ونلمس ونذوق، وأنّ استعادة هذه (الأنفاس المنسية) ليست ترفاً بل ضرورة لفهم أنفسنا بعمق وربط حاضرنا بماضينا عبر إبداع يعيدنا إلى علماء أسسوا حضارة انطلقت من (اقرأ) لتشم كل عطر وتسمع كل صوت وتلمس كل جمال.
وقد شغلني دائماً سؤال الجمال في حضارتنا الإسلامية، ذلك الجمال الذي يتجلّى في كل شيء من نقوش المساجد إلى أنغام الأذان، لكنه يبدو اليوم في أزمة حقيقية. فبينما نرى شبابنا منجذبين بصورة متزايدة إلى الموسيقى الغربية، تظل الفنون الصوتية الإسلامية الأصلية حبيسة الكتب والندوات الأكاديمية، في مسيرتي البحثية - التي بدأت ببحث حول (التقاطع بين العلم والموسيقى) ثم تعمّقت في دراسة (الثقافة المصرية في سياق تاريخي) - اكتشفت أن الإشكالية ليست في وجود تحريم مطلق للموسيقى كما يظن البعض، بل في فهمنا المشوش لتراثنا الصوتي الإسلامي الغني. لقد أخطأنا عندما حوّلنا النقاش الفقهي الثري إلى مواقف متصلبة، ففقدنا الجوهر الجمالي الذي ميّز حضارتنا. فقد أنتجت الحضارة الإسلامية منظومة متكاملة من الفنون الصوتية تبدأ بتلاوة القرآن الكريم - وهو أرقى أشكال الفن الصوتي - وتمتد إلى الأناشيد والمدائح والأغاني الشعبية، حيث قال العلماء مثل الغزالي إن الحكم يعتمد على الزمان والمكان الصحبة، فلا تحريم مطلق إنما موازنة تتم بفهم تأثير الصوت على النفس والروح. ومن خلال أبحاثي في تاريخ الموسيقى المصرية وتطورها من الأنواع التقليدية إلى الروك والميتال والجاز الشرقي، أدركت أن الفنون الصوتية الإسلامية تحمل خصائص جمالية فريدة، فهي تعتمد على النمط اللامتناهي حيث تتكرّر المقاطع الموسيقية مع تحولات طفيفة تخلق تأثيراً تراكمياً، على عكس البناء الخطي الغربي الذي يصل إلى ذروة ثم ينتهي، كما أنها تتميز بالارتجالية التي تجعل كل أداء فريداً، وتستمد روحها من الصوت المنفرد لتلاوة القرآن، بعكس تعدد الأصوات في الموسيقى الغربية، وهذه الخصائص لم تأت من فراغ بل هي انعكاس لرؤية كونية قائمة على التوحيد والتناغم مع النظام الإلهي. لكن الأمر لا يكتفي بالنقاش والتحريم، بل علينا أن ننتقل إلى مرحلة البناء، بدءاً من دمج الفنون الصوتية في حياتنا اليومية: ورش عمل في المساجد والنوادي، تعليم الأناشيد والمدائح، وتشجيع الموهوبين على إنتاج فن صوتي إسلامي معاصر، بدلاً من الاكتفاء باستهلاك المنتج الخارجي. علينا أن نقدم تراثنا الصوتي بشكل معاصر يجذب الشباب دون المساس بجوهره الروحي، وأن نستأنف التواصل بين الهوية الثقافية للشباب وتعبيراتهم الفنية، فالمعركة الحقيقية اليوم ليست في منعهم من الاستماع إلى ما يحبّون، بل في تقديم بديل جميل يُلامس شغفهم ويغذي روحهم ويحافظ على هويتهم، إنها معركة جمال ضد قبح، وأصالة ضد ذوبان، وهوية ضد ضياع. وبذلك نشيد من أصواتنا جسراً إلى الله، ونوراً يضيء قلوبنا، وجمالاً يروي ظمأ أرواحنا للتناغم مع الكون الذي خلقه الله بميزان دقيق وأنغام متناسقة، لنؤكد أن العودة إلى تراثنا الصوتي ليست مجرد عودة إلى الماضي، بل استعادة لجوهر هويتنا، واستثمار لجمال أرواحنا، وبناء لذوق الأجيال القادمة.

ذو صلة