على هامش محاضرة كنا نحلل فيها مقالاً يتحدث عن الذكريات باختلاف أنواعها، سألت الطلاب عن ذكرياتهم، فتوالت الإجابات التي كان معظمها يدور حول أطعمة تستدعي ذكريات سعيدة، فذاك يذكر حلاوة البقر في العيد، وآخر يصف الشاي العدني في ليالي الشتاء القارس، وثالث يتحدث بشوق عن خبز التنور في الديرة الذي تعجز مطاعم العالم عن محاكاته. ضجّت القاعة بالضحك وانهمرت الذكريات تباعاً، غير أن تعليقاً بدا لي مختلفاً، حيث علا صوت أحدهم بنبرة تحمل شيئاً من الإحباط: (العفيس يا دكتورة، يذكرني بالاستراحة التي كنت أجبر على الذهاب إليها عندما كنت طفلاً، وفي كل مرة كان الإفطار عفيساً، كلما تذوقته الآن تهاجمني رائحة الطريق الطويل للاستراحة التي كنت أذهب إليها كارهاً).
كان الموقف عابراً، لكن غير العابر هو أن معظم المداخلات جاءت مركزة على الذاكرة المتصلة بالطعام، ولعل ذلك يكشف لنا عمق العلاقة بين الذاكرة والطعام، فالمذاق ليس مجرد إحساس عابر على اللسان، بل تجربة شعورية تتجاوز الحاسة إلى الوجدان، إذ يورث المذاق - طيباً كان أو رديئاً - أثره في النفس إقبالاً أو إدباراً تجاه ما يُشبهه من النكهات، ليتحول إلى محفز للذاكرة، يستدعي فينا الحنين، ويرتب مشاعرنا، ويعيدنا إلى أمكنة وأزمنة لم نعد فيها. وتتنوع تلك الذكريات بين سعيدة وأخرى غير سعيدة، كذاكرة صاحب العفيس -على سبيل المثال- التي ظلت عالقة في ذهنه، ومقرونة بالشعور بالملل، ومرارة الذهاب الإجباري إلى الاستراحة.
ليس الطعم استجابة حسية للسان فحسب، بل ذاكرة كاملة تسكن الحواس، فالنكهة تفتح باباً خفياً في الذاكرة لا تفتحه الكلمات، ثمة أطعمة معينة تعيدك إلى الطفولة كما يفعل ساندوتش الفسحة، ونكهة العصير المعلب المصاحب له. وأخرى ترجعك إلى المراهقة فتقترن في ذهنك بالعنفوان ولحظات الطيش تلك، وطبق يذكرك بيومك الأول في الوظيفة، أو بلحظة شراء سيارتك التي كنت تحلم بها، فلكلٍّ منا مخزونه الخاص من النكهات المحفزة لذاكرته، ولكل منا أطباقه المثيرة للحنين. وما يبهجك عزيزي القارئ من طعام، قد يولّد في نفس غيرك مشاعر خلاف ما تشعر به وفق تجربته الشعورية المتصلة بذاك الطعام أو تلك النكهة.
وبطبيعة الحال ليست كل ذكرياتنا المرتبطة بالطعام سعيدة، فبعضها يعيد إلينا مشهداً كنا نظن أننا تجاوزناه، وما إن تلامس النكهة أفواهنا حتى يستيقظ المشهد ذاته بكل حمولاته الشعورية، قد تجرنا نكهة إلى لحظة ضعف عشناها، أو تذكرنا لقمة بوجه اقتلعه الموت من بيننا، فكم من لقمة أعادت إلينا الإحساس الأول الذي ارتبط بها! كأنها توقظ القلب بما ظن أنه نسي، وتعاود اجترار تلك الذكريات من جديد، وإن حاول المرء منها فكاكاً.
والطبق نفسه قد يحمل طروساً دلالية مختلفة في ذاكرة كلٍّ منا تبعاً لتجاربنا التي نخوضها على مر الزمن، فتتبدل الذكريات الملتصقة بذلك الطبق، وتتلون تبعاً للمواقف التي عبرت تلك النكهة، فقد تغدو اللقمة التي التصقت يوماً بتجربة مؤلمة مصدر بهجة حين نستعيدها بعد سنوات، حيث تكتسب معناها الجديد من المواقف اللاحقة التي أعادت تشكيلها وشحنتها بحمولات شعورية مغايرة، وفي المقابل كم من طبق ارتبط في أذهاننا بذكريات سعيدة، ثم تحول إلى طبق يثير في النفس ذكريات مريرة حين تبهت وجوه من كانوا يشاركوننا ذاك الطبق يوماً.
إننا حين نتذوّق لا نأكل الطعام للإشباع أو للمتعة فحسب، بل نأكل ما علق بتلك النكهة من حكايات وذكريات ارتبطت بها، ولعل هذا يفسر لماذا تبدو بعض الأطعمة للمرء أدفأ من غيرها؟ ولماذا حين نحزن أو نمرض نشتهي أطعمة بعينها؟ ولماذا تزدهر المطاعم الشعبية القديمة بزبائنها وإن تغير مستواها أو تراجعت جودتها؟ وربما لهذا السبب أيضاً يخاف الناس تغير مذاق طبق أحبوه، وكأن في تغيّر النكهة أو طريقة التقديم تهديداً خفياً لهويتهم الخاصة.
وللطعام ذاكرة لا تقف عند حدود الذاكرة الفردية، فثمة ذاكرة جماعية له أيضاً، فكما تحتفظ الشعوب بقصائدها وحكاياتها، فإنها تحتفظ بمذاقاتها التي تقترن بذكريات معينة في نفوس أبنائها، فلكل مجتمع أطباقه التي تؤكل في مواسم مخصوصة، ولكل مناسبة طعامها. وكما يستدعي الفرد عبر نكهة ما ذكرياته الخاصة، تستدعي الشعوب عبر أطعمتها ذكرياتها الجماعية: أعراسها، طقوسها، أعيادها. فالأطباق التي تقدم في المناسبات الاحتفالية على سبيل المثال تظل مقرونة ذهنياً بالبهجة والسرور، ومن ذلك معمول العيد في بعض الدول العربية، وحلاوة المولد في مصر، والمأكولات المرتبطة بشهر رمضان المبارك كالسمبوسة واللقيمات في كثير من الدول العربية وإن اختلفت أسماؤها، وقهوة اللوز الحجازية التي اقترنت برأس السنة الهجرية في منطقة الحجاز.
كل تلك الأطعمة أرشيف حي يحمل في طياته ذاكرة الشعب وهويته، ويحفز في ذاكرة أبنائه الشعور المبهج ذاته المقترن بالاحتفالي، وكأن تلك الأطباق تخضع لبرمجة تمليها المؤسسة الاجتماعية بدءاً من إعداد الطبق، مروراً بسياق تقديمه، وانتهاءً بتذوقه. وهكذا تُصبح النكهة جزءاً من منظومة الرموز التي تؤطر الشعور الجمعي بالمناسبة، حتى ليبدو أن الطقوس الاحتفالية لا تكتمل إلا بتكرار النكهة ذاتها، كما لو أن تلك النكهة أو ذاك الطبق هو الذي يمنح المناسبة معناها في الوجدان العام.
وعلى الصعيد المحلي نشهد تنوعاً في الأطعمة والنكهات التي تحمل حضوراً وجدانياً في الذاكرة الجماعية. فطبق الجريش في نجد، ومخامير شقراء، والعريكة في الجنوب، والسليق الطائفي، ومقشوش حائل.. ليست وجبات تطهى فحسب، بل أضحت رموزاً للذاكرة الجماعية تشكّل ما يمكن تسميته بالنكهة الثقافية للمكان. فيتجاوز الطعام بذلك دلالته المادية الاستهلاكية ليتحول إلى هوية تعبر عن الأنا وتكشف لنا الآخر، فنحن حين نتناقل وصفة لطبق شعبي، ونحرص على الحفاظ على نكهاته الأصلية غاية الحرص، نحصّن - من حيث لا نشعر- ذاكرتنا وهويتنا وانتماءنا ونستمر في نسج صورتنا الثقافية، والمطبخ بهذا المعنى يغدو نصاً تتجلى فيه الهوية بشكل مضاعف، لأنه يغذّي الجسد والروح. ويحدث أن نستورد أطباقاً من ثقافات أخرى ثم ننكهها بشيء من مطبخنا وذاكرتنا الاجتماعية، فلا تتعجب إن وجدت برجر حاشي، وكوكيز حساوي، وكبسة مكرونة، ومن أعجب ما رأيت في أحد المطاعم بيتزا باللومي والبهارات السعودية!
وبذلك يتحول الطعام إلى فضاء تفاعلي يعكس تحولات الهوية، فكما تهاجر الأطباق إلى حضارات جديدة وتعبر ثقافات مختلفة، فإننا نعيد صياغتها أيضاً ونطعّمها بشيء من ذكرياتنا. إن برجر الحاشي، والكوكيز الحساوي، وما شابههما ليست مجرد أمثلة طريفة على امتزاج الثقافات فحسب، بل دلائل على قدرة الهوية المحلية على الاحتفاظ بخصوصيتها في مواجهة العولمة عبر إعادة إنتاج رموزها بنكهة جديدة، وقدرتها على التكيف دون الانصهار التام.
وهكذا يتجاوز الطعام دوره الوظيفي ليغدو أداة لتشكيل الهوية وإعادة إنتاجها في سياقات ثقافية متغيرة. فالمطبخ لا يوثّق الماضي فحسب، بل يعبّر عن مرونة الحاضر وقدرته على استيعاب الآخر دون الذوبان فيه، وكل طبق في جوهره مَعْبَرٌ إلى الذاكرة، يحمل في نكهته سير الأفراد تارة، وسير الجماعات تارة أخرى.
إن الطعام بهذا المعنى مستودع للذاكرة، ووثيقة هوية تحتفظ بملامحنا، وتتيح لنا إعادة تعريف ذواتنا مع كل طبق جديد نتذوقه أو نعيد خلقه بوعي منا أو دون وعي، ولعل في (العفيس) ما يذكّرنا بأن الذاكرة لا تحتفظ بما لذّ وطاب فحسب، بل تحتفظ أيضاً بما أثقلها، وأنها لا تُعاد صياغتها على أيدينا وباختياراتنا، بل على أيدي التجربة ذاتها، ويظل (عفيس) الطالب شاهداً صادقاً على الجانب المعتم من النكهات، ذلك الذي يذكّرنا أن الهوية لا تُبنى مما نحبه فحسب، بل من كل ما تذوقناه وما أردنا نسيانه أيضاً.