الرائحة ليست إحساساً عابراً، بل هي جسر زمني يعيدنا إلى ماض غائب بطريقة لا تستطيعها الكلمات والصور. إنها ذاكرة لا تمر بالعقل بل بالقلب، ولذلك تبدو دائماً مفاجئة ومؤثرة وعميقة. لذا فحاسة الشمّ في الأدب واحدة من أغنى الحواس وأكثرها حمولة رمزية ودلالية، حيث تتجاوز الوصف الحسي لتصبح أداة قوية في بناء الذاكرة والعاطفة واستدعائهما حين تشاء. وقد وظّف الشعراء والكتّاب العرب على مرّ العصور الروائح، سواء كانت عطرية زكية أو كريهة منفّرة، جاعلين منها وشائج تربط القارئ بجوهر التجربة الإنسانية المتكئة على الحنين والاشتياق والوله الغامر، والاستياء والنفور أيضاً.
وقد عبَّر الأدب العربي عن الروائح ضمن مسارين: الأول مسار المدح والغزل الذي يعكس الحسن والكمال، والثاني مسار الهجاء الذي يعكس القبح والنقص. فقد ارتبطت روائح الطيب من المسك والعنبر والعود والندّ بالغاية الجمالية القصوى، حيث كانت تُستخدم كإكسير شعري لرفع الموصوف إلى منزلة عليا.
يُصوّر الأعشى محبوبته بوصفها مصدراً متدفّقاً للحسن والجمال باستخدام العطر، حيث يقول:
إِذَا تَقُومُ يَضُوعُ الْمِسْكُ أَصْوِرَةً
وَالزَّنْبَقُ الْوَرْدُ مِنْ أَرْدَانِهَا شَمِلُ
فقيام المحبوبة وحركتها يتسبب في انتشار المسك، وكأن رائحته ترسم صوراً محسوسة في الهواء، تحفّ المحبوبة بهالة من شذى، في إشارة إلى قوة تأثير عطرها. كما أن روائح الزنبق والورد تفوح من أطراف ثيابها كأنها نسيم طيب. وبذلك يجعل الشاعر العطر دليلاً مادياً على رقة المحبوبة وجمالها، متجاوزاً إطار المرئي إلى المشموم، رابطاً بينها وبين أفخر أنواع الطيب ليؤكد على مكانتها الرفيعة والترف الذي تعيشه، فتنقلب الحركة البسيطة إلى مصدر دائم لانتشار الجاذبية والعبير.
وفي بيتٍ لامرئ القيس يصف فيه مشهداً بالغ الرقة والفخامة، إذ يُفتن بنسوةٍ فوق الهوادج، فيشبهن بالغزلان وصغار الظباء، مستعيناً بالعطر كأداة للغزل، بقوله:
وَفَوْقَ الْحَوَايَا غِزْلَةٌ وَجَآذِرُ
تَضَمَّخْنَ مِنْ مِسْكٍ ذَكِيٍّ وَزَنْبَقِ
فقد تعطرن بعبير المسك الذكي الممزوج برائحة الزنبق، ما يُبرز جمالهن ونعومتهن، مشيراً إلى عادة اجتماعية لدى طبقة محددة تتمثّل في التطيّب أثناء الارتحال، وهو ربط للروائح الفاخرة بالمكانة العالية والترف، بحيث أضحى العطر دليلاً مادياً على رقة المحبوبة ورفعتها وعلو شأنها.
وفي دلالة على ارتباط العطر بوصف المكان واختزال ذلك في الذاكرة، يقول عنترة:
دارٌ يَفوحُ المِسكُ مِن عَرَصاتِها
وَالعُودُ وَالنَّدُّ الذَكِيُّ جَناها
وهو وصفٌ بليغٌ لدار لا تتميز بمبناها فحسب، بل بعبقها الفوّاح، حيث تتضوع من ساحاتها وأفنيتها رائحة المسك والعود والندّ الذكي ذو الرائحة النفّاثة. إن هذا الوصف يتجاوز الإشارة إلى التطيّب المعتاد، فهو رمزٌ عميق لعدة دلالات ثقافية في الوجدان العربي. فانتشار هذه الروائح الثمينة من محيط الدار يدل على الجود والكرم وحفاوة الاستقبال، كما يشير إلى الرفعة والمكانة الاجتماعية لأهل البيت، ويخلق في الوقت ذاته ذاكرةً عطريةً للمكان تزيد من قيمته الجمالية والوجدانية، ما يخلق ترابطاً بين طيب المكان وسموّ ساكنيه مع تبيان أثر ذلك في النفس.
وفي ما يخص الطبيعة، فقد شغلت بروائحها العطرة خيال الشعراء ما دفع الصنوبري ليصف ريح الربيع وتضوعها، رافعاً إياها إلى مرتبة أعلى من أي مرتبة، فالمسك والكافور ليسا بذي قيمة أمام رائحة الربيع، يقول أبو بكر الصنوبري:
من شمَّ ريح تحيات الربيع يقُل
لا المسك مسك ولا الكافورُ كافورُ
جسّد الصنوبري تفوّقاً جمالياً فريداً بوصف الربيع عبر حاسة الشم بدلاً من البصر، حيث ترتقي رائحة الربيع إلى معيار أصيل تتضاءل أمامه أثمن العطور. هذا الانتقاء يُضفي عبقرية على تجربة الشاعر باستخدام حاسة الشم في مدح الطبيعة.
وقد احتل العطر مكانة رفيعة لدى العرب منذ القدم حيث جعلوا منه أداة للقسم، يقول زهير بن أبي سلمى:
تداركتما عبساً وذبيان بعدما
تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
وكان أن اجتمع نفر من القوم على جفنة من عطر ابتاعوه من امرأة تدعى منشم، فأقسموا عليه أن يقاتلوا حتى آخر رمق، وقد بروا بقسمهم، وقُتلوا جميعاً، فراح عطر هذه المرأة مثلاً للتشاؤم والنحس.
وفي المقابل، شكلت الروائح الكريهة وسيلة فنية فعالة في مسار الهجاء والذم، حيث كانت تُستخدم للطعن، والإشارة إلى النقص المعنوي والخلقي للمهجو. فالشاعر لا يكتفي بوصف العيوب، بل يهدف إلى إحداث اشمئزاز حسي يرسّخ صورة التحقير في ذهن المتلقي دافعاً إياها إلى حالة من النفور. ففي الأدب العربي القديم، ظهرت نماذج لهجاء يستهدف روائح الجسد للتدليل على الخسة أو البخل المبالغ فيه أو انعدام النظافة. ومثال ذلك ما ورد في هجاء الشمقمق لرجل بسبب رائحته الكريهة:
وابِطُكَ قابِضِ الأَرواحِ يَرمي
بِسَهمِ المَوتِ مِن تَحتِ الثِيابِ
إذ يصور الشاعر المهجو كملك الموت، وهي صورة توحي بالشر والخطر. لكن مكمن الهجاء يتمثل في دمج هذه الصورة بالواقع الحسي القبيح للمهجو: (يَرمي بِسَهمِ المَوتِ مِن تَحتِ الثِيابِ). في إشارة سافرة إلى رائحة الجسد الكريهة الناتجة عن العرق، وإهمال النظافة، فالرائحة النتنة هنا تتحول من مجرد عيب إلى سهم قاتل أو سُمّ ينبعث من تحت الثياب، يُشبه في تأثيره سهم الموت، فيمزج الشاعر بين السخرية والهجاء.
وضمن سياق تجسيد ما هو معنوي يقول الطغرائي:
فضحَتْكَ رائحةُ الذنوبِ بنتنِها
فتعطَّرَنْ منهنَّ باستغفارِ
إذ عمد الشاعر إلى تجسيد المعنوي في صورة محسوسة، حيث حوّل الذنوب من مجرد خطايا باطنية إلى رائحة كريهة نتنة تفضح صاحبها: (فضحَتْكَ رائحةُ الذنوبِ بنتنِها). هذا التوظيف لحاسة الشم ينقل العقوبة من دائرة العذاب الآجل إلى الخزي الآني والمباشر في الدنيا، جاعلاً المعصية عبئاً حقيقياً مُنفِّراً ومُعلناً. وهو أيضاً، يقدم العلاج بنفس اللغة الحسية، فيحثّ على التطهر من هذه النتانة المعنوية عبر الاستغفار، الذي يُصبح بمثابة عطر يُضفي على النفس طِيباً ويستر سوء الرائحة: فتعطَّرَنْ منهنَّ باستغفارِ، فتكون المقابلة الدلالية بين نتن الذنب وطِيب الاستغفار، أداة لترسيخ فكرة التطهير الروحي بأسلوب حسي مؤثر ومُقنع.
إن للرائحة قيمة سامية ورمزاً عميقاً في الثقافة العربية، حيث تتجاوز مجرد الإحساس الشمي لتصبح معياراً للثناء والمدح والذم. فقد ربطها الوجدان العربي بالمحبوبة كدلالة على الجمال، والرقة، والرفاهة، إذ يُنظر إلى العطر الفواح كجزء لا يتجزأ من أنوثتها وجمالها الآسر. وهو رمز للصفات النبيلة عند الرجل، كالكرم، والجود، والفضل، والعطاء، حيث يعكس تبخير المجالس وتعطير الضيوف كرم الرجل وحسن ضيافته. يُضاف إلى ذلك البعد المعنوي كالسيرة الحسنة ولين العريكة. في المقابل رمزت الرائحة الكريهة للبخل وعدم الاهتمام بالنظافة وسوء الخلق. لذا، شكّل ارتباط الرائحة بالأدب قيمة مضافة. وبذلك، لم تكن الرائحة مجرد إحساس عابر، بل معياراً ثقافياً وأدبياً محورياً لتقييم التجربة الإنسانية المادية والروحية على حد سواء.