مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

حاسة الشم وبعدها الاجتماعي

إن الحياة لا تُعاش ولا تُدرك بالعقل فحسب، فالانخراط في العالم لا يعني الإدراك العقلي فقط، بل هناك الإحساس أيضاً، إذ يبدو العالم للإنسان كمجموعة من الوقائع يدركها عن طريق الحواس، فهي إحدى طرقه إلى المعرفة؛ فأن تحيا يعني أن ترى وتسمع وتلمس وتشمّ.
وإذا كان الإحساس يبدو في الوهلة الأولى أمراً طبيعياً، فهو مسألة ثقافية في الآن نفسه؛ فالميل إلى حبّ واستنشاق رائحة الزهور أمر طبيعي يشترك فيه الناس جميعاً بغضّ النظر عن زمنهم ومكانهم، أمّا ما هو ثقافي فيبدو خاصة في تفضيل عطورٍ عن أخرى؛ فثمة من يفضل العطور المسكرة، بينما البعض الآخر يفضل العطور الزهرية، وهي اختلافات تعود لتجارب سابقة وذكريات وخبرات قبلية.
وتاريخ حاسة الشم في الثقافات العالمية يعكس تناقضات غريبة؛ فإذا كانت هذه الحاسة ممجوجة في الثقافة الغربية، خصوصاً اليونانية منها، بسبب ربط حاسة الشم بالميول الحيوانية حيث تم وضعها كحاسة في أدنى المراتب، فإن الثقافة الفرعونية أولتها أهميةً تبرز من خلال العناية بالعطور.
ولو سألتَ أيّاً كان من الناس في عصرنا هذا عن أهم حواسه، لأجاب أنها: النظر في المرتبة الأولى، تليها بعد ذلك حاسة السمع، بينما حاسة الشم فهي من الحواس التي يعتقد البعض إمكانية الاستغناء عنها، فهي عندهم مجرد حاسة ثانوية إدراك الإنسان بها عارض.
هكذا يعتقد البعض أن حاستي النظر والسمع أقوى ارتباطاً بالمخ، فهما سبيلا الإدراك الأساسيتان، لأن ما يشغل الإنسان أكثر هو ما يراه وما يسمعه، إن الفعل (رأى) في اللغة العربية يحيل على معنيين: أولهما الرؤية الحسية، والثانية الإدراك العقلي.
إن هذا حقيقي، إلا أنه لا ينبغي أن نستهين بما يدركه الإنسان عن طريق حاسة الشم مهما بدا هيناً، فهو يؤثر بعمق فيه، وأهم دليل على ذلك تلك العلاقة الوثيقة للمولود البشري الجديد، والذي يرتبط بعالمه الخارجي وبأمه خصوصاً بفضل حاسة الشم، فحينما يرضع المولود من صدر أمه يتعرف في الآن ذاته على رائحتها التي تميزها.
وهكذا، إذا كانت حاستا الرؤية والسمع طريقَي التعلّم البارزتين، فإن حاسة الشم لا تقل أهمية في هذا المجال، خصوصاً في ميدان الطبخ وبعض الصناعات كصناعة الخمور والعطور، فالروائح والعطور وسائل تواصل ليس فقط بين الرضيع وأمه، بل على مستوى أبعد من ذلك، إنها تعبر عن الهوية الفردية والهوية الاجتماعية.
وإذا كان فعل (رأى) يحمل بُعداً عقلياً في اللغة العربية، فإن الفعل (شمّ) في اللهجة الجزائرية يحمل بُعداً عاطفياً، فـ(ما نشموش) هي عبارة تعني بالفصحى (لا أشمه) المرادفة لـ(لا أحبه) أو (لا أحتمل وجوده).
إنّ ما يعرفه العلم عن حاسة الشم قليل بالمقارنة مع حاستي النظر والسمع، لأنه يمكن قياس حاستي النظر والسمع عكس حاسة الشم التي يصعب اختبارها وعلاج نقصها.
ولحاسة الشم ذاكرة تدفع الإنسان إلى ردودٍ متنوعة، فهو يميل حتماً إلى العطور التي خبرها في طفولته، وقد أدركت ماركات العطور العالمية ذلك، فقامت بتصنيع أنواعٍ من العطور ومزيلات العرق متنوعة الروائح حتى تستجيب لمختلف الأذواق.
وفوق ذلك، تتميز حاسة الشم في حياة الإنسان بخطورة كونها مدخلاً لكثيرٍ من الأمراض المعدية كالإِنفلونزا، كما أنها قد تكون وسيلة للموت بسبب استنشاق مختلف المواد الكيميائية السامة، والعكس صحيح؛ فقد تكون سبيلاً للاستشفاء، فاستنشاق الهواء العليل واحد من طرق العلاج المعاصرة.
بالإضافة إلى ذلك، تكتسي حاسة الشم بُعداً مهماً في ارتباطها بعوالم الطفولة، إذ يحب الناس الروائح الطيبة ويألفونها بسرعة، خصوصاً حين يستعيدون بفضلها أحلام الصبا، فمن ذلك الروائح المنبعثة من محلات بيع التوابل أو المخابز والمقاهي، وهي كلها تذكر الإنسان بطفولته وتجعله يحنّ لطعام أمه وقهوتها، على حدّ تعبير الشاعر محمود درويش في حنينه لخبز أمه وقهوة أمه.
كما أنها كثيرةٌ هي النباتات الزهرية التي ترتبط بطفولتنا، مثل نبتتَي مسك الليل والياسمين، وعند استنشاق عطورها نستعيد ذكريات الطفولة، بل إن ما ينعش الإنسان في كل الثقافات هو رائحة التراب الممزوج ببلل المطر.
كما تكمن أهمية حاسة الشم في ارتباطها بحاسة التذوق، حيث إن أي مرضٍ يعطّل حاسة الشم فإنه يُبطل حتماً حاسة التذوق، فالأكل يفقد مذاقه حين الإصابة بنزلة برد تسبب انسداد الأنف.
وما كثرةُ منتجات التنظيف والتعطير وتعدّدها كمزيلات العرق في عصرنا إلا دليلٌ على أهمية حاسة الشم حالياً، فالناس ينفرون من الروائح الكريهة المنبعثة من المواد الكيماوية مثلاً، ويميلون إلى الروائح الطيبة.
ومعروفٌ أنثروبولوجياً أن حاسة الشم كانت أقوى عند الإنسان البدائي، ولكن هذا لا يعني ضعفها حالياً، ومع ذلك لا يزال عالمنا المعاصر يضع العين في المرتبة الأولى، حتى في عالم الطبخ، وتكفي مشاهدة حصص الطبخ في مختلف وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.

ذو صلة