الحواس تحسّ. قد تبدو هذه الجملة غريبة باعتبار أنها تعيد نفسها، ولكن ربما هذا ما نحتاجه هنا تحديداً. الحواس تحس وهذا الإحساس علاقة خاصة بالكائنات الأخرى. أن تحس لا يعني أن تتصل فقط، بل هو اتصال خاص ومختلف. أن تحسّ يعني أن تمكّن الخارج من داخلك. نقول (حسّ يا أخي) بمعنى أتح للخارج أن يؤثر فيك. الحواس تحسّ يعني أنها تمكّن الخارج من داخلنا. هذا التمكين يعطي اعتباراً مهماً لدور الحواس لكن لا يفترض أن يُفهم منه أنه عملية إرادية. الحواس هي سلبيّة الإنسان ومنافذه الأولى وانكشافه على الخارج. أن تحس يعني أن يكون فيك ما ليس منك وأن تجري من خلالك مياه الحياة.
يقال إن حاسة اللمس عند الإنسان هي الحاسة الأولى والأساسية وإن كل الحواس الأخرى تتأسس عليها. النظر مثلاً لا معنى له دون تأسيس الحس بالمكان وهو ما يتحقق باللمس أولاً. السمع والشم كذلك قائمة على علاقة مكانية مع الكائنات الأخرى. الذوق في المقابل ليس سوى شكل من أشكال اللمس. الملامسة بهذا المعنى هي التعبير الأوضح على الاتصال الذي تعبّر عنه الحواسّ. الاتصال الذي لا يتأسس على إدارة طرف من الأطراف، بل على الانكشاف الكامل من طرف على الآخر. نقول إن فلان حسّاس بمعنى أنه يتأثر بشكل واضح بما يدور حوله. هذه الحساسية يفترض أن تدفع بنا إلى نوع من العناية بما نقول أو نفعل مع هذا الإنسان في تعبير واضح عن الانكشاف والسلبية المرتبطة بالحساسية. السلبية هنا تعني التلقي والاستقبال. سلبية فاعلة بالتأكيد، ولكن كل فاعليتها نابعة من الانكشاف الأول وعدم القدرة على الانغلاق.
من هذه السلبية الكامنة في الحواس تولد خبرة خاصة يولد فيها عالم خاص من عوالم الإنسان. سأتلمّس شيئاً من ملامح هذه الخبرة مع (الطيب). الطيب هنا هو العطر في المحكيّة الدارجة في السعودية ومناطق أخرى من العالم. العطر بالمعنى الجمالي الذوقي وهو ذاته الطيّب بالمعنى الأخلاقي للكلمة. هذا اللقاء بين الجمال والأخلاق في كائن واحد علاقتنا الأساسية علاقة حسية أمر يدعو للإنصات. الطيب صفة أخلاقية عالية عند الناس. يقولون فلان طيّب للدلالة على أمور متعددة منها: أنه جيّد ومبادر لفعل الأمور الطيبة. طيّب هنا تأتي بمعنى شامل لا يحدد خصلة محددة، بل يعطي دلالة عمومية وهذه واحدة من علامات الأحاسيس على كل حال. الإحساس طبيعته غامرة. الطيّب كذلك تعني طيبة القلب القريبة من السذاجة. لذا طيب القلب عرضة للاستغلال من الآخرين وكأنه بلا حصون دفاعية وهذا المعنى جوهري في الحس عموماً باعتباره ذلك الانكشاف الذي يسبق أي قدرة على التحكم بما سيحدث. من هنا نسمع أمثلة ومقولات تعبّر عن أن طيبة القلب لم تعد ممكنة في هذا العصر وأن الإنسان يجب أن يحيط نفسه بكثير من الاحترازات التي تسعى لقطع الصلة المباشرة بين الداخل والخارج. هذه الصلة المباشرة هي تحديداً ما كان يعوّل عليه روسو في كتابه إيميل حيث تكون التربية عيشاً مباشرة مع الطبيعة. الطبيعة هنا نداء مستمر للحواس فيما تعبّر المدينة عن الرغبات التي صمّمها الإنسان لنفسه.
الطيب غامر والطيب ضعيف وهذه هي التركيبة العجيبة لسحر العطور. العطر يعمّ المكان ويستحوذ على الوجود. لكن كل هذا يتم بيد من ضعف. ليس الطيب سوى كائن هوائي لا يشغل حيزاً خاصاً له من المكان. لعل هذا ما جعل من العطور كائنات روحانية بامتياز وترتبط بها عوالم واسعة من السحر وانتقال الأرواح وطرد الأرواح. لا يكاد يخلو أي مشهد تمثيلي عن السحر من بعد عطريّ يعبّر عنه البخور بشكل أساسي. من هنا كان الطيب علاقة خاصة مع الرائحة تجتمع فيها الأخلاق بالجمال.
ومن العطور عطور اجتماعية بطبعها. البخور بشكل عام عطر للمكان قبل أن يكون عطراً لشخص محدد. عطر يملك القدرة على أن يكون شرطاً مكانياً واجتماعياً في ذات اللحظة. (العود)، وهو شكل من أشكال البخور، يمكن أن يعبّر عن هذه الحالة بشكل بارز. العود اسم لبخور خاص يُعطّر به المكان ويُقدّم للضيوف، وهو خشب أشجار خاصة توجد أكثر في جنوب شرق آسيا. يقدّم العود بالنسبة للضيوف في لحظتين أساسيتين: عند الاستقبال وقبل الوداع وكأنه لا بد أن يحفّ باللحظة الأولى واللحظة الأخيرة من الضيافة. نلاحظ هنا أن اسم هذا البخور (عود). العود كلمة مرادفة للخشب. يقال عود من أعواد الشجرة. نتذكر هنا كذلك أن كلمة العود تطلق على آلة العزف المعروفة. وكأن هذه الكائنات، هذا البخور وهذه الآلة، لا تحتاج إلى وصف آخر غير مصدرها الخشبي الأول وكأن علاقتها بالشجرة كفيلة بالتعبير عن كل المعاني الإضافية التي أتاحتها استعمالات الإنسان.
يقدّم العود بطريقة احتفالية وكأنه يُزفّ للضيوف. يقدّم في مبخرة خاصة مزينة بطريقة محددة. المتعارف عليه أن يتم اختيار الجمر المناسب من النار إذا كانت تشتعل في المجلس. هذا الاختيار عمل فني بحيث لا تكون الجمرة شديدة فتحرق العود ولا ضعيفة فتفشل في استثارته. كذلك اختيار قطعة العود عملية فنية بحيث يتم اختيار الحجم المناسب لسعة المجلس وعدد الضيوف. بعد أن يتم اختيار الجمر المناسب والعود المناسب يتم نفخه من المضيف بحيث يتأكد أنه جاهز للتقديم للضيوف. حين تُقبل المبخرة محمولة بيد من عناية يستعد لها الناس. عادة ما تُسدل الشمغ لكي تحتضن البخور. يُسلّم الطيب (اسم العود الأبرز) أولاً للضيف والمتوقع منه أن يحتضنه ويغطيه بشماغه ويستنشقه ثم يمرره لمن هو على يمينه. تمرّ المدخنة على الجميع بالترتيب والتساوي. تجاوز أحد الحضور دون أن يمرر له الطيب يعد تقليلاً من قيمته. يدور الطيب مرتين أو ثلاثاً ثم يوضع في طرف المجلس أو يُخرج إذا كان هناك من يعاني من مشاكل في التنفّس.
يوزّع العود نفسه على الجميع ولا يستثني المكان. بعد أن يرحل الجميع يبقى في المكان حافظاً ذكرى من كانوا هنا. هويّة مجلس الضيوف تتشكّل بهذا العطر الذي جمعهم واجتمعوا حوله. هذا العطر الذي مرّ بينهم ليحمل لكل واحد منهم شيئاً من الذي قبله ولمن بعده. كل هذا يتم من خلال الحواس والدلالات التي أصبحت ممكنة من خلال هذه الحواس. كل هذا يتم بلا كلام إلا لغة الحواس التي تصل مباشرة.
في تاريخ الإنسان توجهات فكروية كانت في كثير من الأحيان على حساب الاتصال الحسي مع الوجود. منذ أفلاطون كان هناك إعلاء للاتصال الفكري مقارنة بالاتصال الحسي. الحس ارتبط بالتحوّل والتغير والجانب الغريزي من الإنسان في مقابل الاتصال الفكري بالمُثل وحقيقة الأشياء. هذا الأمر حدّ من إمكانية تقدير الأبعاد الواسعة للخبرة الحسية عند الإنسان ودلالتها في وجوده. ربما يمكننا القول إن الخبرة الحسية عند الإنسان هي نافذته الأوسع على العالم الخارجي وبالتالي على محدودية الذات والانغلاق المحتمل عندما لا تدرك هذه الذات محدوديتها. هذه المحدودية، التي هي رحم الوجود الإنساني والمعبرة عن انفتاحه على العالم الخارجي ربما تكون هي المنفذ من تورّم الذات الذي تدفع باتجاهه ثقافة الاستهلاك المعاصرة. الذات المتورمة وحيدة باعتبار أن كل اتصال لها بغيرها لا يهدف إلا إلى تمددها. هذه الذات التي تنسى أنها تأكل وتشرب وتتنفس. تنسى أنها تعتمد على الخارج لكي تبقى على قيد الحياة. وتنسى ربما، وهذا أهم، أن ما تأكل وتشرب وتتنفس لم يكن ممكناً لها لولا أنه أتاح ذاته لها. أنه لم يكن ضد وجودها في أصله. أنها ولدت في وجود من صداقة وأن هناك من يهب نفسه لها.