مجلة شهرية - العدد (590)  | نوفمبر 2025 م- جمادى الأولى 1447 هـ

الموروث الشعبي العربي من ذاكرة الهوية إلى أدوات التنمية

يمثل الموروث الشعبي في العالم العربي ذاكرة الأمة الحية، ومرآة تعكس تنوعها الجغرافي والثقافي والاجتماعي. فهو يعبر عن طيف واسع من التعبيرات الثقافية والانعكاسات لتفاعل الإنسان العربي ببيئته باختلافاتها من جبل ونهر وواحات وصحارٍ، وكيف شكلت هذه البيئة الثقافية من الحكايات الشعبية والأغاني والأمثال، إلى العمارة التقليدية والحرف اليدوية واللغات المحكية والممارسات التقليدية. بيد أن هذا الموروث الغني يواجه في العصر الحديث تحديات متنامية تهدد بفقدانه أو اندثاره، وهو ما يستدعي جهوداً حقيقية وحثيثة لتوثيق هذا الموروث وصونه وتعزيزه من أجل تعزيز دوره في التنمية الثقافية والاقتصادية وحتى المجتمعية، وتعزيز أهميته في حماية تماسك المجتمعات في ظل التحديات الإقليمية والعالمية.
يشكل الموروث الشعبي العربي الغني والعميق، والذي أعتقد أنه من أعمق الموروثات الشعبية في العالم، إذا ما نظرنا إلى عمق الحضارات في المنطقة العربية، فلا يمكن أن نرى هذا الموروث الحي حالياً بمعزل عن الموروث الأثري والبيئي. فيحمل هذا الموروث في طياته تراكمات التجربة التاريخية على مدى آلاف السنين، والتي بالتالي شكلت نمط التفكير الجمعي المرتبط بشكل عميق بدور الإنسان في مجتمعه. كما نجد أن هذا الموروث ارتقى لأن يعبر عن وقائع الحياة من خلال الشعر والقصص والأمثال، وهي أحد صور التعبير عن العواطف والمواقف. فعليه، لا ينبغي أن يقتصر دورنا على حفظ الماضي، فهو أعمق بكثير من شيءٍ للتوثيق، ولكن ينبغي تفعيل آليات خاصة تعزز من انتماء الأفراد لهذا الموروث، والذي هو انعكاس لارتباط الإنسان ببيئته، وبالتالي يمنح المجتمع القاعدة الجمعية للانتماء لجذور ثقافيةٍ مشتركة. فعلى سبيل المثال: الأغاني تعكس قصصاً تاريخية وتوثق أحداثاً تاريخيةً مهمة جداً، والأمثال الشعبية تمثل الحكمة التي توثق تجارب حياتية متوارثة، كما يعكس هذا الموروث منظومة أخلاقية متقدمة، تقدم فيها منظومة القيم والأولويات المجتمعية. فالممارسات التقليدية تعكس هذا بوضوح، على سبيل المثال لا الحصر نظام الحِمى التقليدي الرعوي.
ويمكن تصنيف الموروث الشعبي إلى ثلاثة أصناف رئيسة، كالتالي:
الموروث المادي: لما يشمل العمارة التقليدية، المباني، الحرف اليدوية، الأزياء، الآلات المستخدمة في شتى المجالات، الأدوات المختلفة مثل الزراعية والصيد، حتى تشكيل الأراضي وإدارة المياه مثل الأفلاج والخزانات والمصاطب الزراعية، وعلى سبيل المثال لا الحصر البيوت الطينية، والحرف النحاسية في فاس ومصر، والزخارف الهندسية، ومخططات المدن والمباني.
الموروث غير المادي: وهو أحد أعمق تجليات الهوية الثقافية للمجتمعات، فبالرغم من أنه غير ملموس، لكنه متجذر في الذاكرة الجمعية وممارسات الحياة اليومية، بشكل ندركه أو لا ندركه. يتمثل هذا الموروث في الممارسات التقليدية مثل الممارسات الزراعية والرعي وطرق البناء، أو الحكايات والأساطير والأغاني والرقصات والطقوس والمناسبات والموالد والفنون الشعبية التي تنتقل غالباً شفهياً، ما يجعلها أكثر هشاشة أمام التغيرات.
بالرغم من أن الموروث اللغوي يُعد أحد الموروثات غير المادية، فإنني أجد أن اللغة العربية بعمقها وزخمها وتطورها يجب أن تأخذ حقها من الاهتمام، فهي موروث مهم وجزءٍ من الهوية الشعبية. فاللغة العربية لا تقتصر بوصفها أداة تواصل، بل تتجاوز دورها لتعبر عن الهوية والانتماء والتجربة التاريخية المشتركة. فبالرغم من أن المنطقة العربية تزخر باللغات الأخرى مثل الأمازيغية والسقطرية والمهرية والبجاوية.. وغيرها من اللغات في المنطقة؛ فلا تزال اللغة العربية تعكس عمق الموروث الثقافي في المنطقة. فعلى سبيل المثال، تطورت اللغة لتعكس بشكل تفصيلي النظم البيئية المختلفة. يشمل هذا الموروث اللهجات المحلية، والألفاظ الشعبية، والتراكيب التعبيرية، بالإضافة إلى أنماط الشعر الشفهي مثل الشعر النبطي والزجل والملحون.
وتمثل اللهجات امتداداً لخصوصية كل منطقة، وتُجسد علاقة الإنسان بمحيطه، فلهجة أهل الخليج تختلف في ألفاظها وإيقاعها عن لهجة بلاد الشام أو شمال أفريقيا، لكنها جميعاً تحمل بصمات بيئية واجتماعية واقتصادية. أما الأمثال والأقوال الشعبية، فهي خلاصة تجارب متراكمة، تنقل الحكمة بروح ساخرة أحياناً ومباشرة أحياناً أخرى.
يواجه الموروث الشعبي العربي في العصر الحديث جملة من التحديات المتسارعة التي تهدد استمراريته وفاعليته في الوجدان الجمعي. فقد أدت العولمة الثقافية إلى تعميم أنماط ثقافية غربية على حساب التعبيرات المحلية، ما ساهم في تراجع مظاهر التراث التقليدي في الحياة اليومية، وخصوصاً بين الأجيال الشابة.
كما أن التكنولوجيا الحديثة وتغير أنماط الحياة لها دور محوري في تراجع الممارسات الشعبية، حيث حلت وسائل التواصل الرقمية محل التجمعات الشفاهية، وانقرضت بعض الحرف والفنون بسبب ضعف الطلب عليها أو صعوبة مواكبتها للسرعة الإنتاجية للأسواق المعاصرة.
ويُضاف إلى ذلك ضعف التوثيق المؤسسي، إذ تفتقر العديد من الدول العربية إلى قواعد بيانات شاملة أو أرشيفات مرجعية توثق عناصر التراث الشعبي بكافة أنواعه أو حتى دراسة أهميته ودوره المحتمل في الحياة الحديثة. وغالباً ما تكون جهود التوثيق موسمية أو غير ممنهجة، ما يزيد من هشاشة هذا الإرث الثقافي.
وتتفاقم التحديات في السياقات التي تعاني من الهجرة القسرية والنزوح، حيث يفقد المجتمع بيئته الحاضنة التي كانت تؤمن تداول الموروث، وتصبح الأولويات الإنسانية الطارئة عائقاً أمام حفظ الثقافة المحلية.
ويُضاف إلى هذه التحديات المتنامية التغير المناخي، الذي بات يشكل تهديداً غير مباشرٍ لكن بالغ الخطورة، إذ تؤدي الظواهر المناخية القاسية كالجفاف وارتفاع درجات الحرارة واندثار التنوع البيئي إلى زوال ممارسات تراثية ارتبطت بالمواسم أو أنماط الزراعة التقليدية أو الحرف التي تعتمد على موارد طبيعية بدأت بالاختفاء.
إن مجموع هذه التحولات والتحديات يتطلب استجابة شاملة تشمل توثيقاً رقمياً وفهماً لدور هذا الموروث الشعبي وأهميته، وتمكيناً مجتمعياً، وسياسات حماية ثقافية تتماشى مع متغيرات الواقع المعاصر، واستغلال هذا الموروث الثقافي في التنمية المجتمعية الاقتصادية.
كل هذه التحولات تضع التراث الشعبي أمام خطر التلاشي، ما لم تُتخذ إجراءات عاجلة لحمايته، وتُعتمد سياسات توثيق رقمية ومجتمعية تضمن استمراريته، فهو أحد روافد الهوية والتنمية.
وعليه، فإن الحفاظ على الموروث الشعبي العربي مسؤولية متعددة الأبعاد، ترتبط بالهوية والانتماء مثلما ترتبط بالتنمية المستدامة. وبينما تتسارع وتيرة التغيير في العالم، يبقى الموروث الشعبي شاهداً على أصالة الأمة وثراء مخزونها الثقافي.
______________________________________
* خبيرة دولية متخصصة في التراث الثقافي والبيئي

ذو صلة