مجلة شهرية - العدد (590)  | نوفمبر 2025 م- جمادى الأولى 1447 هـ

اللغة العربية والموروث الشعبي وجهان لعملة واحدة

يمثل التراث على وجه العموم الإطار المعرفي والفلسفي والحضاري لما جرى في عالم الوجود الإنساني منذ القدم، لذلك هو نبض الأمة العربية وشريانها المفعم بالحياة من الخليج إلى المحيط الذي لا ينضب أبداً لما فيه من قيمة لا أحد ينكرها على الصعيدين المحلي والدولي، لذلك يجب الحفاظ عليه من الاندثار مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال التي للأسف تستخدم التقنية الحديثة والتكنولوجيا، وهو ما يعرف بالعولمة الرقمية التي خرج من رحمها الذكاء الاصطناعي، والمتوقع غزوه شتى مناحي الحياة وتحييده للماضي وتراثه سواء المادي أو غير المادي، الذي يُعدّ مظهراً من مظاهر القوة الناعمة لدى الدول العربية، والتي تتكاتف الآن خوفاً من ضياع التراث تحت مظلة الحداثة التي أثرت بالسلب على كل ما هو قديم، وظهرت أجيال عربية جديدة متأثرة بالحضارة الأمريكية والغربية وبخطوط العولمة ومعطياتها في الجوانب الثقافية والفكرية. نحن لسنا ضد التقدم الذي يخدم البشرية، لكن دون تحطيم للقيم والمبادئ العربية الأصيلة المغروسة في وجداننا وقلبنا وعقلنا النابعة من اللغة العربية التي تربينا عليها منذ الصغر.
يشكل التراث معلماً مهماً من معالم الهُوية العربية التي توفر شعوراً عميقاً بالانتماء، فإنه باختصار شديد عصارة آلاف السنين من الإنتاج الثقافي للإنسان في العالم العربي، لذلك يجب أن ندق ناقوس الخطر لننبه به غافلاً، أو نوقظ نائماً، أو نرشد حائراً، أو نكشف ملتبساً حول الأخطار التي تحدق بهذا التراث، المتمثلة في الهجمات البربرية الممنهجة المنظمة التي تهدف إلى محو وانتشال الجذور العربية من أراضيها لتصبح في مهب الريح لكل غازٍ أو معتدٍ أو مستعمر. وصدق القول المأثور: (من لا تاريخ له، لا حاضر ولا مستقبل له)، فالأمم بماضيها قبل أن تكون بحاضرها، فمن هذا الماضي تستمد وجودها، وبالحفاظ عليه يكون بقاؤها، وفي رحابه تعيش قوية بكيانها ومقوماتها. والتراث الحضاري لأي أمة في العالم هو الأساس الذي تبني عليه مكانتها، وتحدد به هويتها ومسيرتها، كما يُستدل على مدى عراقتها في التاريخ، ونوعية إسهامات رجالها في حركته، ومدى تأثيرها فيه وتأثرها به. ولهذا يجب أن نعي الماضي جيداً لتشكيل الحاضر والمستقبل. فالتاريخ يقدم دروساً وعبراً من التجارب السابقة، مما يساعد على تجنب الأخطاء وتطوير الأفضل، كما أنه يساهم في بناء الهوية والوعي الذاتي للأفراد والمجتمعات، وهنا تبرز ثمرة التاريخ، وهو التراث الذي خلفه الأجداد سواء كان ملموساً أو غير ملموس، والذي يتمثل في الموروث الغنائي والشعري والعادات والتقاليد والفنون الشعبية، وفي الخطوات المعقدة للرقصات الشعبية، وتقاليد القبائل البدوية، واللغة العربية سواء الفصحى أو العامية، والشفهية بعدة لهجات أو المدونة بعدة خطوط والألفاظ الشعبية، والشعر النبطي والزجل الذي يُستخدم في المجالس الجماعية لرواية القصص والأخبار.
لا شك أن الرابط بين سائر الدول العربية هي اللغة الأم، وهي اللغة العربية، فهي بحق لغة الميلاد التي تسبق العقول، فتتملكها، من أجل ذلك كانت هي باب المعرفة والعلم، والميزان الذي يوزن به شتى اللغات، والعين التي تُرى بها الأشياء، فيتعذر فهم ما كتب بغيرها ما لم يترجم إليها، كما يتعذر الإبداع بغيرها، لأن شرط الإبداع استيعاب العلوم وفقهها فقهاً يترتب عليه تملكها، وأن تصير جزءاً من الفكر والخيال والشعور، ولا تفقه العلوم والآداب ذلك الفقه إلا أن تكون باللغة الأم. لكن ما يحدث الآن هو أمر في غاية الخطورة، وهو تربية الطفل منذ نعومة أظافره على التحدث والتعلم باللغة الأجنبية كنوع من الأبهة الاجتماعية، وكمسلك للتقدم عند بلوغه، طامساً هويته وجذوره العربية الأصيلة، ويترتب على ذلك قلة علم العرب بالعربية وضعف الإنتاج الثقافي والعلمي، بالإضافة إلى اصطناع لغة هجينة ركيكة من العربية الفصحى والعامية واللغات الأجنبية، والتي يطلق عليها الفرانكو آراب. هنا ذهبت اللغة العربية في أدراج الرياح سواء كتابة أو تحدثاً، وحل محلها اللغات الأجنبية، لأن للأسف لا يوجد حائط صد لصيانتها بحجة صعوبتها وشيخوختها وعدم تطورها لتواكب التقدم في شتى العلوم. كل ما سبق هو دعاية مغرضة، وإلصاق التهم بدون وجه حق، وتجنٍ مدفوع بدوافع غير علمية. وأفظع ما يمكن قوله في هذا الحديث، وهو بمثابة التحدي الأكبر، هو احتقار أهل اللغة العربية لها بدلاً من مناصرتها، وهو أمر جلل، عمل عليه الاستعمار في كل بلد حلَّه، فكان يؤثر في الشعوب العربية نفسياً، ويُوهمهم بأن السبيل وراء التقدم والرفعة هو التخلي عن اللغة العربية وتهميشها والتشبث باللغات الأجنبية، وبهذه الطريقة أُخرجت العربية من الحياة، واصطُنِعَت لغة أجنبية مكانها، وبالتالي تغيرت الثقافات ومُحيت الهوية العربية شيئاً فشيئاً.
وطبقاً لليونسكو، فإن التراث الثقافي غير المادي يتجلى بصفة خاصة في التقاليد وأشكال التعبير الشفهي، بما في ذلك اللغة للتعبير عن هذا التراث بكل وضوح وشفافية، وهنا تظهر اللغة كحجر زاوية وركن أصيل من مكونات التراث غير المادي، ومقوم من مقومات التراكم الحضاري والمعرفي لأي مجتمع إنساني، فباللغة وحدها يندمج الفرد بالمجتمع، ويتلقى تراث الأمة الفكري والشعوري والأخلاقي والاجتماعي كله. وتوجد علاقة طردية ووثيقة وإيجابية بين درجة إتقان الفرد للغته الأم وهويته، ينجم عنها اعتزازه بقوميته وانتمائه الشديد بها، لذلك تعد اللغة قيمة أساسية في هوية المجتمعات، وأن الحفاظ عليها معناه الحفاظ على الهوية. فاللغة هي السياج الأهم الذي يوحد الأمة الناطقة بها، والدرع الأمين الذي يحمي المجتمع من براثن الانحلال والتفكك والذوبان.
توجد حلول عديدة لإحياء اللغة العربية من جديد، وبالتالي إنعاش التراث غير المادي، والذي من خلال اللغة العربية سيصل لكل الأجيال المتعاقبة، مثل الرجوع إلى نظام الكتاتيب في تعلم اللغة العربية، واستخدام يوتيوب، وبودكاست وتيك توك في تدريس اللغة العربية، وتطبيقات تتعلق بالتراث غير المادي للبلدان العربية، وعمل مسابقات ثقافية بجوائز مجزية تهدف إلى نشر التراث غير المادي، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لجلب محبي تعلم اللغة العربية، وتكثيف جهود الترجمة من اللغات الأخرى، ووضع معاجم لغوية عربية موجزة وميسرة بأسعار زهيدة يمكن تناولها عبر الإنترنت، وتنفيذ سياسة لغوية عربية موحدة تهدف إلى تيسير الفصحى وحمايتها، وتصميم ألعاب رقمية باللغة العربية لجذب عدد كبير من الأطفال، واستخدام تقنيات الواقع المعزز والافتراضي في العروض المتحفية التفاعلية لإحياء التراث غير المادي باللغة العربية.
وفي إطار التعاون الثقافي المشترك بين الدول العربية، تقدمت كل من السعودية والكويت والإمارات والبحرين وسلطنة عمان ومصر والعراق والأردن وموريتانيا والمغرب وفلسطين والسودان وتونس واليمن ولبنان والجزائر بملف لإدراج الخط العربي في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية المتضمنة 500 عنصر الصادرة عن اليونسكو، وبالفعل تمت الموافقة على هذا الطلب في 2021، وتسهم هذه الخطوة بشكل فعال في تعزيز التراث الثقافي غير المادي، وبشكل خاص فنون الخط في المجتمعات المحلية. بالإضافة إلى ذلك، يعد هذا إنجازاً منقطع النظير في مجال صون الهوية، باعتبار الخط من أهم مفردات الحضارة العربية، وأحد الوسائل الفعالة في التعريف بها، مما يساهم في الحوار بين الثقافات العالمية ويدعم جهود إلقاء الضوء على تاريخها.
_____________________________________
* الخبير الأثري في علم المتاحف والتراث الإنساني
نائب مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية

ذو صلة