مجلة شهرية - العدد (589)  | أكتوبر 2025 م- ربيع الثاني 1447 هـ

الأوبرا بين الإرث الغربي والبدايات السعودية

يُعدّ فن الأوبرا واحداً من أسمى أشكال التعبير الفني الذي استطاع أن يجمع بين عناصر متعددة من الفنون: الموسيقى، الدراما، التمثيل، والغناء، ليخلق تجربة فنية شاملة لا تقتصر على الأذن فحسب، بل تمتد إلى وجدان المتلقي وخياله. هذا الفن، الذي يُؤدّى غالباً في قاعات المسارح الكبرى وبمرافقة أوركسترا حيّة، يستبدل الكلمة المحكية بالغناء المؤدّى بلغات أوروبية راسخة في تقاليدها الأوبرالية، مثل: الإيطالية، الفرنسية، أو الألمانية، في محاولة لتقديم النصوص الدرامية في أبهى صورة فنية ممكنة.
نشأت الأوبرا في أواخر القرن السادس عشر في إيطاليا، ضمن سياق ثقافي متوهّج، تأثّر بإرث المسرح الإغريقي واهتمامات النهضة الأوروبية بإحياء الفنون الكلاسيكية. ومن هذا المهد، تمدّدت الأوبرا سريعاً إلى فرنسا، وألمانيا، والنمسا، فكانت أوروبا لأزمنة طويلة الحاضن لهذا الفن، بلومركز إشعاعه وابتكاره.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد استقبلت الأوبرا في القرن الثامن عشر، لكنها لم تلبث أن منحتها فضاءً جديداً للنمو والازدهار، وبخاصة مع افتتاح دور العرض الكبرى مثل دار متروبوليتان أوبرا في نيويورك عام 1883، والتي أصبحت مع مرور الوقت معلماً من معالم الفن العالمي الحديث.
ومع اتساع رقعة حضورها عالمياً، لم تتوقف الأوبرا عند حدودها الأوروبية، بل سعت مجتمعات أخرى -مثل روسيا، الصين، اليابان، أستراليا- إلى استيعابها وإعادة صياغتها بما ينسجم مع خصوصياتها الثقافية، في تجربة عكست حواراً متدرجاً بين الفن الغربي والهويات المحلية.
وفي إحدى ليالي سبتمبر الجاري، كان عرض أوبرا (كارمن) في الرياض ليس حدثاً عابراً في روزنامة الأنشطة الثقافية، بل هو علامة فارقة على دخول المملكة مرحلة جديدة من الانفتاح الفني العالمي. فمنذ انطلاق رؤية السعودية 2030، تسارعت خطوات دعم الثقافة والفنون، وجاء هذا الحدث تأكيداً على أن الرياض أصبحت فاعلة لا متلقّية فقط في المشهد الفني الدولي.
في هذا الإطار، لا يمكن النظر إلى العرض إلا بوصفه إعلاناً حضارياً ناعماً، تستخدم فيه المملكة أدوات الفنون الرفيعة لصناعة صورة ثقافية جديدة، تتجاوز الأنماط التقليدية، وتؤسّس لحوار عالمي بلغة الفن.
لقد أكّد العرض أنّ الأوبرا، باعتبارها فناً كلاسيكياً عالمياً، لم تعد حكراً على دور العرض في أوروبا أو أمريكا، بل أصبحت اليوم ضيفاً مرحّباً به في الشرق الأوسط. فأن تُغنّى (كارمن) بالصينية، في مسرح سعودي، أمام جمهور متعدد الجنسيات؛ لهو أمرٌ يُعبّر بصدق عن قوة الفن في تجاوز الحدود، وخلق حوار حضاري متوازن وملهم.
في تلك الليلة، لم تكن الرياض مجرد مدينة تستضيف عرضاً فنياً، بل كانت منصة حضارية تُخاطب العالم بلغة الموسيقى والجمال.

ذو صلة