مجلة شهرية - العدد (589)  | أكتوبر 2025 م- ربيع الثاني 1447 هـ

موسيون العصر.. هل زرت مكتبة الإسكندرية من قبل؟

قرص الشمس الخالد الذي تحتله رائحة يود البحر، فلا تتركه ولا يتركك.
تم افتتاحها في السادس عشر من أكتوبر 2002 في حفل دولي مهيب يليق بمكانتها، كان الحدث كبيراً بما يكفي كي يتحدث عن ذاته، فكرة أن يتم إحياء ذاك الصرح الذي مثّل ذروة المعرفة في العالم القديم.. منارة أخرى جاوَرَت منارة فاروس، إحداهما لهداية السفن والأخرى لهداية العقول. والاثنان شيّدهما بطالمة مصر!
في الحقيقة لم تكن مكتبة الإسكندرية القديمة أول مكتبة في التاريخ، فقد عرف العالم المكتبات من قبل، أُلحقت المعابد المصرية مثلاً بمكتبات كهنوتية، لكنها اقتصرت على الكهنة فقط، وظل هذا التقليد محافظاً عليه في العصر الهلنستي والروماني، فأُلحق معبد السرابيوم بالإسكندرية بمكتبة صغرى -هي فرع من المكتبة الكبرى- وأُلحق معبد القيصرون بمكتبة، كما وُجدت مكتبة ملحقة بالمعبد البطلمي في إدفو. لقد حاول خلفاء الإسكندر بشتى الطرق نشر ثقافتهم كسبيل للتنافس فيما بينهم في مجال العلم والثقافة عن طريق تأسيس المكتبات ومراكز البحث العلمي في أهم المدن الكبرى. وتدريجياً، أصبحت ظاهرة المكتبة العامة معلماً أساسياً في معظم المدن الهلنستية، من هنا تأتي أهمية مكتبة الإسكندرية كونها (أول مؤسسة ثقافية عامة وتابعة للحكومة في التاريخ).
بدأ الأمر بمقترح عرضه السياسي الأثيني ومستشار الملك بطلميوس الأول (ديمتريوس الفاليري)، بتأسيس مجمع علمي في العاصمة التي تحمل اسم الإسكندر الأكبر، على أن تُلحَق به مكتبة ومعامل ومختبرات تجتذب العلماء من كل بقاع الأرض، مما سيجعله فريداً من نوعه. وبالفعل، تم تأسيس الموسيون (لفظة يونانية تعني معبد ربات العلوم والفنون Μουσείον، اشتُقت منها فيما بعد كلمة Museum بالإنجليزية، وMusée بالفرنسية). أُلحق الموسيون بمكتبة كبرى، سُمّيت باللاتينية Bibliotheca Alexandrina، وباليونانية Βιβλιοθήκη Ἀλεξανδρείας. حوت المكتبة أكثر من سبعمئة ألف كتاب تغطي جميع المعارف والفنون السائدة في عصرها من فلسفة وطب وفلك ورياضيات وجغرافيا وغيرها، كما اشتملت على ترجمات لتراث المصريين القدماء والبابليين والفينيقيين والهنود إلى اللغة اليونانية. كانت نموذجاً للعولمة الثقافية والفكرية بين الشرق والغرب في العالم القديم، وفرض ملوك البطالمة على كل عالم يدرس فيها أن يهديها نسخة من مؤلفاته، كما فرضوا تفتيشاً لكافة السفن الراسية في ميناء المدينة، على أن يُصادَر أي كتاب يُعثر عليه، ويتم نسخه، وتحتفظ المكتبة بالنسخة الأصلية وتُرَد النسخة المصوَّرة إلى صاحبها مع تعويضه مادياً.
كانت مكتبةً ومعهداً للأبحاث، ومدرسة فلسفية، وجامعة تضم نخبة من العلماء اشتغلوا بالنشر والبحث العلمي والجمع والترجمة، ورجع إليهم الفضل في التوصل إلى نتائج علمية سابقة لعصرها، إذ كان من أهمهم: أرشميدس عالم الرياضيات والفيزياء مكتشف قانون الطفو، أريستارخوس عالم الفلك الشهير الذي اقترح نظرية دوران الأرض حول الشمس، إقليدس السكندري (أبو الهندسة) ألّف بها كتابه الخالد (العناصر) وأهداه إلى الملك بطلميوس الأول (سوتير)، هيرون الرياضي والفيزيائي الشهير، كما جرت بها الترجمة السبعينية وهي ترجمة العهد القديم (التوراة) من العبرية إلى اليونانية لتصبح الديانة اليهودية أكثر عالمية، إذ كانت اليونانية هي لغة العصر.
ولكن كيف كانت النهاية بعد كل هذا الصخب العابر للزمان؟ في الحقيقة هناك روايتان: الأولى تتهم (عمرو بن العاص) بأنه عند دخوله مصر أمر بتوزيع اللفائف والكتب على حمامات المدينة ليتم حرقها بالمواقد، لكن الكثير من المؤرخين برّأوا عمرو مثل (جوستاف لوبون) و(ألفريد بتلر) و(عزيز سوريال عطية). الرواية الأخرى تتهم يوليوس قيصر بإحراق المكتبة ويستند مؤيدوها إلى رواية الفيلسوف والمؤرخ اليوناني (بلوتارخ) الذي أرّخ لحرب الإسكندرية (كانت بين بطلميوس الصغير ويوليوس قيصر) حيث قال في كتابه (Life of Caesar): إنه خلال الحرب استهدف قيصر حرق مئة وواحد سفينة من الأسطول المصري، فاندلعت النيران ووصلت بالخطأ إلى المكتبة.
مر ثلاثة وعشرون قرناً على اقتراح (ديمتريوس الفاليري) بناء المكتبة، ليأتي المؤرخ السكندري الدكتور (مصطفى العبادي) في القرن العشرين، ويقترح إعادة إحياء المكتبة العظمى من جديد. يرجع إليه الفضل في ذلك، لعل هذا ما جعل محرك البحث جوجل يحتفي بذكرى مولده في العاشر من أكتوبر فنشر لوحة له وهو يحمل كتاباً بين يديه. حيث ألّف دراسات تتناول المكتبة القديمة وألقى عدداً كبيراً من المحاضرات الداعمة للمشروع، ما أقنع مؤسسة اليونسكو والحكومة المصرية آنذاك بضرورة الدعم والتنفيذ. وبالفعل، تم إنشاؤها في نفس مكان المكتبة القديمة تقريباً، بعد أن فاز تصميم الشركة النرويجية (Snøhetta) في مسابقة عالمية شارك فيها أكثر من ألف وأربعمئة تصميم معماري، بسبب تميّزه، إذ يحمل بين طياته امتناناً للمكتبة القديمة كونها كانت شمس المعرفة.
صُممت المكتبة لتكون بمثابة موسيون العالم الحديث، ولتكون أكثر من مجرد مكتبة! فالمبنى الرئيس يشبه القرص المنحدر من أعلى لأسفل مُمثِّلاً قرص الشمس الذي يخرج من البحر المتوسط ويشرق على الكون، كرمز للانفتاح على العالم. الواجهة الخارجية لوحة فنية هندسية متفرّدة، فهي عبارة عن جدار من الجرانيت الأسواني، تزن الجدارية ألفين وأربعمئة طن، واستغرق بناؤها أكثر من عامين كاملين، نُحتت عليها يدوياً حروف ورموز لمئة وعشرين لغة من لغات العالم القديم والحديث (من الهيروغليفية إلى الكورية) رمزاً لكون المكتبة مستقرّ الحضارات قديماً وحديثاً.
عند الولوج من المدخل تجد أمامك تمثال (ديمتريوس الفاليري) تخليداً وتكريماً له، تدخل إلى قاعة الاطلاع المتطورة، والتي تعد من أكبر قاعات الاطلاع في العالم، إذ تتسع لنحو ثمانية ملايين كتاب. تم تصميمها بشكل متدرج على سبعة مستويات، يمكنك أن تستمتع بالنظر إلى تفاصيلها من دون إزعاج القراء أو إحداث أي جلبة بوقوفك داخل (مثلث كاليماخوس)، وهو مثلث زجاجي تم تصميمه لهذا الغرض خصيصاً، وسُمّي كذلك نسبة إلى الشاعر اليوناني (كاليماخوس)، أول من وضع قواعد تصنيف الكتب (الفهرسة) في مكتبة الإسكندرية القديمة.
وكما نرى، فكل ما في المكتبة الحديثة يحيل إلى المكتبة القديمة، في محاولة لإحياء تراثها، كونها أعظم مكتبات العالم القديم، ولكن بأسلوب عصري حديث، لتمثل بذلك جسراً حضارياً وثقافياً بين الماضي والحاضر، وبين الشرق والغرب.
نظام الإضاءة من التفاصيل المميزة جداً في قاعات الاطلاع، إذ يستهدف راحة القارئ، والحفاظ على الكتب، مع إبراز الجمال المعماري للمبنى. فالسقف عبارة عن ألواح زجاجية ضخمة تسمح بدخول ضوء الشمس لتعطي إضاءة طبيعية للقاعات، ولكن بطريقة مبتكرة تقلل من حدة الضوء، وتحمي الكتب من الأشعة فوق البنفسجية. كما نجد نظام إضاءة صناعية متزناً وموزَّعاً بعناية، بحيث يكون آمناً ومريحاً للعين، مع استخدام اللونين الأخضر والأزرق لكونهما من الألوان الباردة التي تقلل من الإجهاد البصري أكثر من الإضاءة البيضاء والصفراء المعتادة، بالإضافة إلى تزيين الواجهات الخارجية بإضاءة معمارية تبرز شكل المكتبة الدائري الفريد، مما يجعلها من المعالم الرئيسة على كورنيش الإسكندرية.
تحتوي قاعة الاطلاع على قاعات أكثر تخصصاً مثل:
- قاعة الكتب النادرة: للباحثين المتخصصين وتحتوي على أندر وأثمن الكتب والمخطوطات.
- قاعة الدوريات: وتجد فيها مجلات علمية وثقافية بشتى اللغات.
- قاعة الخرائط: تضم مجموعات ضخمة من خرائط العالم القديم والخرائط الحديثة.
- قاعة الفنون والوسائط المتعددة: تضم مواد سمعية وبصرية (موسيقى، أفلام، تسجيلات) تخدم دارسي الفنون والإعلام.
بجانب قاعات الاطلاع، تمتلئ المكتبة بمكتبات صغرى متخصصة تستهدف فئات معينة، على سبيل المثال:
- مكتبة الطفل: موجهة للأطفال من 6 - 11 سنة، تحتوي على قصص بلغات متعددة، وألعاب تعليمية.
- مكتبة النشء: مخصصة لعمر 12 - 16 سنة، وتُعقد فيها الندوات التعليمية والتثقيفية وورش العمل المختلفة.
- مكتبة طه حسين: لذوي الإعاقة البصرية، وتجد داخلها كتباً بطريقة برايل، وتسجيلات صوتية، وأجهزة حاسوب ناطقة.
- المكتبة الفرانكفونية: أُهديت من المنظمة الدولية للفرانكوفونية إلى مكتبة الإسكندرية، دعماً للعلاقات الثقافية بين مصر والدول الناطقة بالفرنسية، وتضم مراجع ومجلات بالفرنسية في مختلف المجالات بهدف خدمة الباحثين المهتمين بالثقافة الفرانكفونية.
كما نجد بداخلها عدداً من المتاحف الثرية متنوعة المحتوى، على سبيل المثال:
- متحف الآثار: يحتوي تشكيلة متنوعة من القطع التي ترجع إلى حقب مختلفة من تاريخ مصر.
- متحف الرئيس محمد أنور السادات: يضم مقتنياته الشخصية وأوراقاً بخط يده، وتسجيلات وصوراً.
متحف المخطوطات: يضم مجموعة نادرة من المخطوطات والوثائق والخرائط.
- متحف آلات الطباعة: وهو أول متحف في مصر مخصص لتاريخ الطباعة، حيث يستعرض تطور آلات الطباعة عبر العصور.
كما تعرض المكتبة قطعة أثرية تمثل كسوة الكعبة المشرفة، ترجع لعام 1828 مع المحمل الشريف الذي كان يخرج من شوارع القاهرة قبل موسم الحج. كما تحتوي على قاعات المسرحين -الكبير والصغير- اللذين يستضيفان عروضاً موسيقية ومسرحية بشكل دوري. ولديها المركز الدولي للمؤتمرات الذي يحتوي على قاعات مؤتمرات مجهزة بأحدث التقنيات العالمية الحديثة، وتستضيف المؤتمرات الدولية والندوات والفعاليات المختلفة.
تستضيف المكتبة العديد من المعارض الدائمة والمؤقتة مثل:
- معرض الكتاب السنوي، معرض (عالم شادي عبدالسلام) الذي يتناول أعماله واسكتشاته وأفكاره السينمائية.
- معرض الخط العربي: يتناول فنون الخط العربي مع نماذج للخطوط القديمة والحديثة.
- معرض للفن الشعبي العربي: ويستعرض مجموعة منوعة من قطع مستوحاة من الفلكلور الشعبي.
- معرض الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل: يحتوي على تسجيلات وصور متنوعة.
بخلاف معارض لفنون التصوير والكاريكاتور والنحت وغيرها.
ولأنها موسيون العصر، فقد احتوت على مراكز بحثية وعلمية وثقافية متطورة، وكل مركز متخصص في مجال، مثل:
- مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات: يركز على الحوار بين الحضارات والأديان، وينظم ندوات عن التعايش والسلام.
- مركز الدراسات القبطية: متخصص في دراسة التراث القبطي؛ تاريخاً، وفناً، ولغة.
- مركز دراسات الإسكندرية وحضارة البحر المتوسط: يهتم بتاريخ الإسكندرية والبحر المتوسط من العصور القديمة إلى اليوم.
- مركز الدراسات الإستراتيجية: يقوم بعمل أبحاث تخص القضايا السياسية والاقتصادية لمصر والمنطقة.
- مركز المخطوطات: مركز بحثي دوره جمع وحفظ وترميم المخطوطات، كما يهتم بالتحقيق العلمي للنصوص القديمة.
هذا بجانب مركز القبة السماوية العلمي (PSC – Planetarium Science Center). لتكون مكتبة الإسكندرية بذلك أول مكتبة تبني مدينة للعلوم. القبة من الخارج تأخذ شكل كرة فضية ضخمة، ومن الداخل تحتوي على قاعات عرض فلكية للأفلام العلمية والفضاء بزاوية 360، تستهدف شتى الأعمار.
إذن، فالمكتبة مدينة ثقافية وعلمية متكاملة: (مكتبات وقاعات متخصصة - متاحف - مراكز بحثية - معارض - قاعات مؤتمرات - مسارح - قبة سماوية). وبالإضافة إلى كل هذا، هي أكبر مكتبة رقمية في المنطقة العربية، فمستودع الأصول الرقمية الخاص بها يضم مئات الآلاف من الكتب والمستندات والفهارس المتخصصة، وهي مجانية ومتاحة للجميع على الإنترنت. كما أن هناك مشروعات رقمية متطلعة إلى المستقبل مثل مشروع المخطوطات الرقمية (Digitization Project)، والموسوعات الإلكترونية، والأرشيف العربي الرقمي، ما يؤكد أن المكتبة ليست متجمّدة عند فكرة (الكتب الورقية)، بل تواكب المستقبل وتُعِدّ له.
مكتبة الإسكندرية ليست مجرد مؤسسة، إنها حلم إنساني باستعادة الدور الريادي للمعرفة من مصر إلى العالم.

ذو صلة