كثير من الحرف اليدوية كانت في زمن سابق مهمة لارتباطها بالحياة، ومع المتغيرات الحضارية توقف استخدام أغلبها، مما قد يتسبب بانقراضها، وهنا لمحة من حياة في تلك الحقبة الزمنية الآفلة وعن بعض الحِرف اليدوية والصناعات البسيطة التي رافقت أهلها ما بين شظف ولين، وجوانب أخرى.
وقد استقيت ما سيتبع من مصدرين أحدهما جدي رحمه الله، والمصدر الثاني ذاكرتي الطفولية، حيث أدركت في سن صغيرة في أواخر التسعينات الهجرية - السبعينات الميلادية، أدركت بعضاً من تلك الحرف اليدوية، وطريقة صنعها ودواعي استعمالاتها وهي الآن تتلاشى وعلى وشك أن تندثر ويطويها الغياب.
ومن تلك الحرف والصناعات الخشبية اليدوية ما كانوا يصنعونه من جذوع الأشجار وفروعها، حيث كانوا يستغلون كل أجزاء الشجر تقريباً في عمل صناعات تتفاوت في أحجامها وتنوعها ومدى أهميتها وطرق استخدامها.
كالعصي والهراوات، وأبواب المنازل والأسقف وبعض أدوات الزراعة وعدة استخراج المياه من الآبار، وتمتد إلى صناعة بعض أدوات الأكل، كالصحون الصغيرة منها المعدة للاستعمال اليومي والعملاقة المعدة لتقديم الطعام في الولائم والمناسبات المختلفة.
وسنعرض هنا لبعض تلك الصناعات الخفيفة والمهمة الخشبية منها والجلدية، وأود الإشارة إلى أن هناك صناعات وحرفاً أخرى كثيرة لم يتسع المقام لذكرها هنا لضيق المساحة المتاحة للنشر.
المحراث
كانوا يعمدون إلى اختيار فرع كبير من فروع شجر العرعر أو الطلح أو السدر العملاق، وكان لابد أن يكون ذلك الفرع ذا شعبتين طويلتين على هيئة الرقم سبعة 7.
يقصون شُعبة ويبقون على الأخرى طويلة، ويثبتون بالجزء المقصوص وصلة حديدية حادة مصفحة، والفرع الطويل يربطونه بحبل ويثبتونه على الضمد الذي سنعرض له لاحقاً والمثبت على رقاب الثيران، لكي يشقون به الأرض لزراعة البذور من خلال الضغط عليه أثناء الحركة بواسطة مقبض خشبي رفيع مثبت في الطرف السفلي منه ليغوص في عمق التربة ويشق كبد الأرض.
الضَّمد
سارية خشبية بطول مترين في كل طرف منها يتم تركيب فتحة تتسع لرأس الثور، وتلك الفتحات تصنع من عمودين خشبيين قصيرين، موصلة بحبل جلدي يغلقها من الأسفل، وتثبت من أعلاها بثقوب في السارية الخشبية (الضمد) الذي يوضع على رقاب الثيران ليسهل قيادتها وتطويعها، وذلك أثناء استخدامها للدياس أو نزع المياه من الآبار لسقي الحقول أو الحرث والفلاحة.
الصحون
يعمدون إلى جذوع بعض الأشجار كالعرعر والعتم ويقتلعونها، ثم يعهدون بها إلى نجار ماهر فيصنع منها صحوناً مختلفة الأحجام والاستخدامات وكثيراً ما يصنعها صاحب الدار بنفسه.
والأحجام الكبيرة من تلك الصحون يقدم فيها الأكل الكثير للضيوف وتفرد عليها ذبائح كاملة في المناسبات كالزواج والختان ويوم العيد.
والأحجام الصغيرة منها للاستخدامات اليومية لأفراد الأسرة.
وكان البعض يقوم بزخرفتها من الحواف أو يثبت عليها قطعاً معدنية فضية اللون، وهي دائرية الشكل مزودة بحلق ومقابض جانبية من الحديد، ليسهل نقلها من مكان إلى مكان وكذلك لتعليقها بعد الفراغ من الأكل.
وصحون الطعام العملاقة مشهورة عند معظم قبائل السراة وغيرها، وما زال كثيرون يستخدمونها حتى يومنا هذا.
والبعض يحتفظ بها على سبيل الزينة، وكجزء من التراث، وهي غالية الثمن، وقد يباع الواحد منها اليوم بالمئات من الريالات.
سهوم البئر
وتتكون من عارضتين خشبيتين، تتقاطعان مع عارضتين قصيرتين علويتين لتشكل مستطيلاً عملاقاً جميع أضلاعه من الخشب ويتم عليه تثبيت العجلة والدرّاجة، ويتم نصبه وتثبيته جيداً في أعلى البئر مع ميلان خفيف نحو فوهة البئر في منطقة تسمى القف وهي معدة لاستقبال الماء المنزوع بحيث يتم سكبه فيها من الدلاء الضخم (الغرب) لينساب بعد ذلك عبر الفلج إلى المزرعة المراد ريّها.
العجلة
أسطوانة دائرية كبيرة تصنع من الخشب ويتم ثقبها من المنتصف تماماً، ويوضع في الثقب عمود خشبي صغير يتم تثبيت طرفيه بين الوصلتين الخشبيتين في (السهوم) بحيث تتحرك العجلة بشكل دائري عند مرور الحبال فوقها أثناء سحب الماء بـ(الغروب) من الآبار العميقة بواسطة الدواب لسقي المحاصيل الزراعية.
الدّراجة
عجلة أصغر حجماً من العجلة الكبيرة وتميل للاستطالة في شكل دائري، ويتم تثبيتها في أسفل مستطيل (السهوم) المشار إليه أعلاه.
وتقوم بدور مساند ليتم سحب الماء بواسطة (الغرب) وهو وعاء ضخم تمت حياكته من الجلد كما سياتي في باب الجلدية، يتم ربطه من طرفيه بالحبال وإسقاطه في البئر حتى يمتلئ.
ويستخرج به الماء وذلك بواسطة الحيوانات، وهي غالباً البقر وأحياناً تستخدم الجمال.
وعبر تلك الوسائل وبواسطتها يتم سقي مزارع كاملة على مدار العام.
عدا الفصول التي يسقط فيها المطر بغزارة.
الِحلاسة
قطعة خشبية سميكة بعرض ثلاثين إلى أربعين سم وطول مترين وتوضع فوق الزافر لكي تستقر عليها أطراف القُطّع والمرابيع التي يقوم عليها سقف البيت، وتوضع الحلاسة أيضاً فوق السّدة لتشكل الجزء العلوي من المدخل.
وعندما تكون فوق الزافر بوسط البيت يتم زخرفتها بالنقوش على غرار نقش الزافر وتعلق في أطرافها خطافات لحمل الأتاريك والفوانيس للحصول على إضاءة كافية في جميع أطراف البيت.
السّقوف
عملية تسقيف المنزل تتم بواسطة الأخشاب ولحاء الشجر والتربة، حيث يعمدون أولاً إلى نصب (الزافر).
ثم يضعون (القُطّع) السميكة، ثم يوضع أو يفرش فوقها (الجريد)، ثم يفرشون فوق الجريد وبشكل منسق ومتساوٍ (اللحاء) ثم توضع التربة كآخر مرحلة من التسقيف.
ويعتبر تسقيف المنازل أكبر عملية يتم فيها استخدام الخشب واستغلاله بكثافة.
فقد كانوا يعمدون إلى شجرة العرعر خاصة والتي تغطي مساحات شاسعة من جبال السراوات.
ويتم اختيارها لأنها شجرة صلبة العود، وتمتد نحو السماء لعشرات الأمتار إذا تم العناية بها وتشذيبها.
حيث يقومون بقطع أطرافها لكي تنمو أمتاراً عدة نحو السماء، فإذا بلغت من المسافة والطول الحجم الذي يريدونه قاموا بقطعها واستخدامها في تسقيف المنازل.
كما يستخدمون الأغصان الصغيرة منها وتسمى (الجريد) وكذلك (اللحاء) في العملية ذاتها.
حيث توضع بشكل أفقي مجموعة من الأعمدة الخشبية وتسمى (القُطّع)، وهي تكون عادة ما بين ثمانية إلى ستة أعمدة سميكة تمتد من جدران المنزل الأربع وتلتقي في نقطة واحدة حيث الزافر، والذي يتم تثبيت قطعة خشبية عملاقة مصفحة الجوانب على رأسه كقاعدة مقلوبة وتسمى كما أسلفنا (الحِلاسة)، وتكون نقطة لتقاطع الأخشاب الثمانية التي تحمل سقف المنزل بما عليه وتحته من لحاء الشجر والجريد والقُطّع والمرابيع.
وكانوا يحملون الجمال بأعمدة العرعر مختلفة الأحجام والطول، ويذهبون بها إلى الأسواق الأسبوعية المجاورة، وإلى مدينة الطائف، ويتم استبدالها بالمواد التموينية المختلفة.
نقش الزّافر
عمود البيت الذي يرتكز عليه الشقف ويتم اختياره بعناية من أشجار العرعر الباسقة بحيث يكون ممتداً لا عوج فيه خالياً من النتوءات صلباً للغاية.
وتتم زخرفته بعناية ودقة، وقد يكون مبروماً كما هو عند قطعه وقد يتم صقله وجعله مسطحاً من الجهتين إذا كان المراد زخرفته بالنقوش.
وكلما كان الزافر طويلاً وسميكاً ومزخرفاً بعناية، دل ذلك على وجاهة صاحب الدار ومكانته الاجتماعية.
نقش الأبواب
يتم ذلك باختيار شجرة وغالباً تكون شجرة العرعر، يأخذون العمود الفقري للشجرة، أو الجذع الأكبر فيها، ويقوم (النقاش) بتشكيله على شكل لوح مستطيل حسب المساحة المراد تركيبه فيها، وذلك بنحته (بالقدوم) وهي آلة حديدية حادة تشبه المسحاة ولكنها أصغر حجماً، تستخدم لتسطيح جذور الشجر وتشذيبها وجعلها ملساء ومصفحة الجوانب أشبه بعلبة كبريت، ثم يرص إلى جوار تلك القطعة الخشبية المسطحة أخرى بنفس المواصفات، حتى يتشكل لديه لوح عريض مستطيل الشكل.
ثم تأتي المرحلة النهائية في صناعة الباب، حيث يقوم (النقاش) بعملية الزخرفة والنقش، وذلك باستخدام الإزميل بدقة وتأنٍ وصبر قد يمتد لعدة أيام وربما أشهر.
وقبل أن ينتهي النقاش يدون في أسفل الباب تاريخ اليوم والشهر والسنة الذي تم فيه إنجاز العمل.
وقد يضع التاريخ فقط مع البسملة أو أي عبارة دينية وقد لا يضع شيئاً.
والذين يمتهنون النقش كانوا قلة ولهم شهرة واسعة ومهاراتهم تتفاوت من حيث الإتقان وجمال الشكل.
تأتي بعد ذلك المرحلة الأخيرة حيث يتم تركيب الباب، وقبل ذلك يقومون بدهنه بمادة (القار) لكي تحفظه من التشقق وعوامل التعرية.
ولم تكن الزخرفة أو النقش قاصرتين على الأبواب الرئيسية للمداخل فحسب، بل كانت تطال أماكن أخرى في المنازل.
كبعض أبواب النوافذ، وتسمى (الصُّفة) وتتم زخرفتها ونقشها بنفس النقوش من الداخل والخارج.
الصناعات الجلدية
بعد سلخ جلد الذبيحة سواء كانت من الغنم أم البقر أم الجمال وبعناية شديدة، لأن تمزقه يؤدي إلى تلفه وبالتالي عدم الاستفادة منه يتم دهنه من الداخل بورق السدر المسحوق الذي سبق تجفيفه، ثم يفرد على سطح مستوٍ ويتم تعريضه للشمس أياماً عدة.
وبعد أن يجف الجلد تماماً إلا من بعض الليونة، يتم تقطيعه بشفرة مرهفة بشكل دائري، ويتم تطويع استخدامه حسب الحاجة، فيقتطعون منه سيوراً رفيعة لخياطة بعض الأواني الجلدية، وحبالاً طويلة لها استخدامات متعددة، كنزع المياه من الآبار العميقة وتثبيت الحمولة على ظهور الدواب، وعند الاحتطاب والاعتلاف لربط الحُزم، وللتدلي للنزول في عمق الآبار، ومن المرتفعات الطويلة الشاهقة، وفي جميع الاستخدامات المعروفة التي تدخل فيها الحبال.
(الغروب) جمع غرب
وهو الدلو العملاق الذي ينزعون به الماء من أعماق الآبار بحيث يتم إنزاله ويغطس في عمق البئر حتى يمتلئ.
ويصنع من الجلد وهو عريض من الجزء العلوي الذي تثبت فيه عصاتين على هيئة صليب وفيها يتم ربط الحبل العلوي الذي يمر من فوق العجلة الكبيرة المثبتة بالسهوم في أعلى البئر.
والجزء السفلي منه كخرطوم الفيل ينتهي بفتحة صغيرة ومربوط بالحبل السفلي الذي يمر من فوق الدراجة ويتم جذب ذلك الحبل السفلي قبل العلوي ليغلق الفتحة على الماء المنزوع من البئر أثناء الصعود وعند وصول الثيران لنهاية (المجرة) أو المسار الذي يمتد لمسافة تعادل طول الحبال المدلاة بالبئر ويصل الغرب للفوهة العلوية للبئر يتم إرخاء الحبل السفلي لتحرير الفتحة فيندلق الماء بغزارة في المكان المخصص له المسمى بـ(القف) ثم ينساب الماء عبر الفلج ليصل للمزارع.
ويثبت (الغرب) على ظهور الثيران أو الجمال بحبال جلدية طويلة، ويتم سقي المزارع والحقول على مدى سنوات بواسطة ذلك (الغرب).
الدلو، والقِربة، والزير، والعُكّة، والشكوة
كما يصنعون من تلك الجلود الدلاء بمختلف أحجامها، والتي يتم جلب الماء بواسطتها من الأعماق نزعاً باليد المجردة، وكذلك يصنعون منها (القِرب) لخزن المياه وحفظها باردة.
و(الزير) والزير هنا ليس زير الماء المعروف، بل هو الزير الدف المستخدم في احتفالات (العرضة) وبقية المناسبات.
ويصنعون منها أيضاً (الجاعد) وهو مفرش صغير يتم صنعه من جلد الخروف بحيث يتم سلخه بعناية ويدبغ ويجفف ثم يستخدم لتلك الغاية.
كما يصنعون منه (العُكك) جمع عُكّة، وهي إناء جلدي صغير لحفظ السمن بحجم الذراع.
وكذلك يصنعون (الشكوة) وهي إناء جلدي أصغر من (القِربة) لحفظ ومخض اللبن.
وكذلك يصنعون منها بعض الأحزمة وتسمى السّبتة وتثبت فيها الجنبية أو السكين.