مجلة شهرية - العدد (589)  | أكتوبر 2025 م- ربيع الثاني 1447 هـ

جولة في شقة كاداري أحد أبرز روائيي ألبانيا

في أوائل أغسطس وصلت -ولأول مرة- إلى تيرانا عاصمة ألبانيا، هذا البلد الذي لم أكن أعرف عنه الكثير، عدا ما ينتشر هنا وهناك عن تنوعه الجغرافي بين البحر، والجبل، والمدن والقرى، والأسواق الشعبية.
ينفتح أمامي لأول وهلة، منذ المطار، والساحات التي تعج بذاكرة البلد المتعبة، والحقب المتتالية، وملامح حداثة تتشكل على حد سواء، بلد يتداوى بالتذكر، بعد أن هدأت عاصفته منذ أواخر التسعينات وما قبلها. وإلى تواريخ معلنة في شوارعها، حيث تقف التماثيل والنصب جزءاً من ذاكرة الانتصارات ومن ذاكرة الألم جنباً إلى جنب، قيل لي إنهم لن يزيلوا أي شيء يمثل أي حقبة، بل سيترك شاهداً على الزمن، وبالفعل تجد آثاراً لأقبية الحقبة الشيوعية، ومعارض خاصة بهذه الحقبة وضحاياها مثل معرض (بيت الورق)، وغير بعيد من هناك ما يشير إلى تواريخ أقدم كإسكندر بيغ الذي انتصر، وصنع لشعبه المجد. تجده في الساحة العامة في نصب شامخ، وفي هدايا تذكارية للسواح، وفي قصائد وأدبيات ألبانيا.
هي تيرانا التي سرعان ما تبدأ في الكشف عن نفسها دون مشقة، وكأني أمشي في كتاب مفتوح عن التاريخ والأزمنة والتحولات، في الشوارع، والمقاهي، والساحات، والمساجد والكنائس، يصطفون جنباً إلى جنب، في شعور مسالم ورحب، بل ويبدو كل ما في تيرانا يحكي لك عن قصة خاصة، حتى الصخرة في وسط الحديقة، أو باعة الكتب، أو المقاهي العتيقة.
كانت جولة ممتعة منذ أول أيامي، وتوقعتُ أنني زرت كل ما في البلد مما يهمني، لولا المصادفة الجميلة في اليوم الثالث حيث لفت انتباهي تلك الجداريات الفنية على البيوت، وعرفتُ لاحقاً أنها لمجموعة فنانين من العالم بدأوا مشروعهم في عدة مدن في أوروبا، فرسموا رموز كل بلد، من شخصيات أدبية وسياسية أو تاريخية. وكذلك شخصيات دينية، أو إنسانية عامة.
هناك بورتريه على جدار إحدى البنايات في وسط تيرانا، يصور كولِه إيدرو مينو الفنان والمهندس المعماري الذي عاش خلال القرن التاسع عشر، ويُعد من رواد الفن الواقعي في ألبانيا، وغير بعيد عنه بيتر ماروبي المصور الإيطالي الألباني، الذي أسس أول أستوديو تصوير في شقودرة، شمال ألبانيا.. وغيرهم كثير.
لفت انتباهي أكثر صورة لشخص يحتل جداراً كاملاً في أحد المباني، كتب على الجدار، اسمه، إسماعيل قادري (كاداري)، بحثت عنه عبر جوجل، ووجدت أنه الروائي والكاتب الشهير، ثم أشار لي البحث عن مؤلفاته، ونضاله، ومحبة الألبانيين له، وقصة شقته التي أوصى بأن تتحول إلى معرض أو أستديو يضم جزءاً كبيراً مما تبقى منه.
وصلت إلى العنوان، تقع الشقة في الطابق الثالث من مبنى (Pallati me Kuba) (المبنى المكعب) في شارع ديبرا، وقد كتب على أحد جوانبها: (Studio Kadare House)، صُمم هذا المبنى عام 1972 من قبل ماكس فيلو، وقد سُجن بسبب تصميمه الذي خالف مبادئ الواقعية الاشتراكية آنذاك. كان المبنى معروفاً بمظهره المكعب المميز، وقد أصبح الآن معلماً معمارياً مهماً.
صعدت إلى الشقة، فاستقبلونا مرحبين، وأخبرتنا مرشدة الأستديو بأن هذه الشقة التي عاش فيها كاداري من عام 1974 حتى أوائل التسعينات، مع زوجته هيلينا كاداري، التي كانت أيضاً كاتبة خلال هذه الفترة.
تجولنا معاً، شاهدنا جزءاً من مكتبته وخزانة ضخمة مليئة بالنصوص، والمستندات الخاصة، ومجموعة من الصور العائلية والرسومات الفنية لأبنائه وأرشيفاً لرواياته وأعماله الأدبية، ومقالاته، وغرفة أخرى تضم جدارية إحصائية عن ترجمات أعماله إلى أكثر من 30 لغة (80 عملاً بين الرواية والقصص والشعر وكتب أدبية أخرى)، منها ترجمات إلى العربية مثل روايته الأشهر: جنرال الجيش الميت، وقصة مدينة الحجر والقلعة، وهي تظهر اهتماماً عربياً مبكراً لترجمة كاداري، على الرغم من أن عدد الترجمات لا يزال محدوداً مقارنة باللغات الأخرى، غرفة تبرز أهمية كاداري في الأدب الألباني المعاصر، ففضلاً عن كونه قدم رؤية فنية تجمع بين الواقع والبعد التاريخي، كتب عن حقب ألبانيا في كل مراحلها، وأرخ لإنسان المكان، كرواية (قصر الأحلام) التي تتحدث عن العثمانيين واستبدادهم والمقاومة الوطنية لوجودهم، أو رواية: جنرال الجيش الميت التي قيل لي إنها بداية شهرة كاداري في الستينات وهي رواية تحكي عن الاحتلال الإيطالي، وكذلك روايات كثيرة عن الحقبة الشيوعية.
انتقلنا معاً إلى مكتبة كبيرة ومكان للعمل مع طاولة ومقعد مميز، مدفأة صغيرة، تعكس الجو المنزلي الذي كان يكتب فيه، ثم في غرفة أخرى تعرض شاشة في غرفة مظلمة مقاطع من الأفلام أو مقابلات مع كاداري وزوجته، ثم عبر ممر يفضي إلى غرفة لمعروضات خاصة بالأدب والكتاب، نسخ من مخطوطاته الأصلية، وأوراق عمله، وصور شخصية ووثائق تتعلق بمسيرته الأدبية وجوائزه، بالإضافة إلى كتيبات تضم صوراً لتيرانا القديمة وصوراً من التقاطات كاداري نفسه وكتابات حول المبنى وتاريخه، ثم بجانب هذه المكتبة، غرفة مظلمة تعرض مقاطع من الأفلام التي أخرجها هو أو زوجته عبر شاشة صغيرة، وعدد كبير من ملصقات ولقطات أفلامه على الجدار، ثم إلى جانبها غرفة مخصصة للطلاب والباحثين في حياته وعن أعماله، وتحوي مراجع ومستندات موثقة عن رحلة أدبية موثقة، كان جلها أيام الديكتاتورية الشيوعية التي فضح جرائمها في أعماله، ثم وبالقرب منها شقة الشاعر الألباني الكبير دريتيرو أغوللي، الذي يعد كذلك أحد رموز ألبانيا في الأدب، ولوجود شقتهما بالقرب من بعض حكاية تختصرها فكرة وجود الأدب الألباني الحديث في مكان واحد. كانت نهاية الجولة، ولكنها بداية معرفتي بأحد رموز الرواية الملهمين، الذين كتبوا عن إنسان هذا المكان في كل ظروفه السياسية والاجتماعية والثقافية، زيارة فتحت لي أفقاً لمعرفة المزيد عن الثقافة والإبداع في ألبانيا وكانت بوابة لزيارة أمكنة أدبية أخرى لا تقل أهمية عنها.. لعل الوقت يسمح بالكتابة عنها.
مبنى يتنفس إبداعاً، يكرم واحداً من أهم رموز الثقافة في ألبانيا، ويحفظ الإرث الأدبي له، ويجعله معلماً حضارياً وثقافياً للزوار والباحثين والمهتمين، إضافة إلى ذلك فقد تم تحويل البيت إلى متحف بمبادرة ودعم من بلدية تيرانا قبل ذلك سنة 2019، باعتباره رمزاً من رموز ألبانيا، وبخلاف كثير من الأدباء الذين يُكرَّمون بعد رحيلهم، كاداري حظي برؤية تكريمه في حياته، وهذا يعكس مكانته الاستثنائية.


*الصور بعدسة الكاتب

ذو صلة