أترجم هنا هذه القراءة المستفيضة لكتاب الباحث والمستعرب والدبلوماسي الفرنسي لويس بلان Louis Plin (فيكتور هوغو والإسلام) الذي صدر في 21/9/2023م، في مجلد واحد، و390 صفحة.
Louis Blin، Victor Hugo et l’islam، Éditions Erick Bonnier، 21/09/2023,1 vol. 390 p.
وصدرت ترجمة الكتاب كاملاً في شهر يونيو الماضي عن المنظمة العربية للترجمة-بيروت بإشراف أمينها العام الأستاذ الدكتور بسام بركة.
وقد نشر هذا التعريف بالكتاب على منصة جمعية ماري نستروم Mare Nostrum بتاريخ 25 نوفمبر 2023م.
ويعد في رأيي المتواضع تمكيناً لهذا المصطلح الذي ينضوي تحت لوائه، ومن أقدم صفحات تاريخ الإسلام، جمهرة من العلماء والأدباء ورجال الفن والرياضة والمجتمع والجواسيس الذين استخدموه لمآرب شتى. لقد امتلأت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بحالات إسلام ثقافي لم تقتصر في العصر الحديث على فئة ممن ذكرناهم ولا على المؤثرات التي أفضت بهم إلى هذا المسار لسبب أو آخر.
النص
كتب المستشرق الفرنسي أرنست رينان Ernest Renan، معاصر فيكتور هوغو (الإسلام هو النقيض المطلق لأوروبا، الإسلام هو التطرف المحض). وإن علاقة مؤلف كتاب (أسطورة القرون) La Légende des siècles بهذا الدين وأتباعه هي علاقة معقدة، ومتغيرة، تجمع بين الاكتشاف والتناقض، بل الأحكام المسبقة المتأصلة أيضاً.
إن لويس بلان يرسي في كتابه الإبداعي (فيكتور هوغو والإسلام)، مساراً مشوقاً، لم يجر من قبلُ البتة اكتشافه في تجلياته كلها. ولويس بلان باحث معروف في العالم العربي، يقدم لنا في كتابه هذا تحليلاً لم يُسبق إليه، جديد كل الجدة عن الروابط التي تربط روحانية هوغو وروحانية الإسلام.
إن الإضافة الحاسمة التي يقدمها الكتاب هي في واقع الأمر: أنه أول الكتب التي اكتشفت عبر بحث معمق كل تعقيدات العلاقات التي نشأت بين فيكتور هوغو والإسلام منذ البدايات الأولى للأحكام المسبقة التي اكتسبها إبان شبابه، وصولاً إلى الإعجاب الذي تمَلَّكه في مرحلة نضجه.
يعقد لويس بلان العزم على أن يقدم للقارئ بحثاً استقصائياً ينصب ببراعة على أعمال هوغو كلها لتوضيح البنية التكوينية لتلك العلاقة الفريدة بين هوغو والإسلام في الموضوعات التي اكتفى فيها النقد باستعراض سريع لمعالجة الموضوع، ذاكراً، هنا وهناك، بعض المصادر دون أن يستخلص منها مشروع رؤية كلية.
الأحكام المسبقة في مرحلة الشباب: من الجهل إلى العداء
يستفيض لويس بلان في القسم الأول من الكتاب، وهو قسم غني بمصادره، يستوفي موضوعه، ويستفيض في الحديث عن الجهل والأحكام المسبقة لدى فيكتور هوغو الشاب تجاه المسلمين، متأثراً بقراءاته أعمال شاتوبريان Chateaubriand والصحافة ذات النزعة الهيلينية. ولكنه كان أيضاً متأثراً كل التأثر بما شاع في فرنسا إبان عهد الإصلاح، Restauration وعهد مَلَكِيَّة يوليو La monarchie de Juillet وهما مرحلتان ألّف خلالهما أول كتاباته.
فشاعر الديوان المعنون: الشرقيات Les Orientales قدم من خلاله رؤية غريبة ومعادية للعالم العربي والإسلامي.
يوضح بلان، عبر أمثلة كثيرة موثقة، وتحليلات نصية أن هوغو كان في المرحلة بين عامي 1820-1830م يرى أن الإسلام هو في المقام الأول زخرفة غريبة، ووهمية.
إنه ضرب من الانحراف الثقافي الذي يصلح في أحسن أحواله لزخرفة أشعاره بلمسة شرقية إطارية.
إنه لمن المؤكد أن هوغو يدعو في بعض أشعاره إلى تقارب سلمي بين المسيحيين والمسلمين. ولكن تتكشف من وراء هذه الدعوة للتسامح الديني الأحكام المسبقة المتمكنة الموروثة من الحروب الصليبية، تلك الأحكام التي تجعل المسلمين ورثة دمويين لإسلام هو في المقام الأول دين حرب وقمع.
يكشف لويس بلان اللثام عن حقيقة أن المدى البعيد الذي توغل فيه هوغو، سواء في ديوانه (الشرقيات)، أم في مواقفه السياسية التي تبناها في ذلك العصر. ويرى بلان أن هوغو كان بذلك يروج لرؤية ضيقة وتعسفية للإسلام، الذي لا ينفصل في رأيه عن (البربرية) العثمانية.
لقد اتخذ موقف هوغو الشاعر، في تحليله المتحمس للحملة الاستعمارية الدموية على الجزائر، شكل عَرَض مرضي.
لقد كان، وهو يتحدث بحماسة كبيرة عن المجازر، وسياسة الأرض المحروقة التي كان يمارسها الجنرالان بوجو Bugeaud وبيليسبيه Pélissier يرخي العنان لأكثر الأحكام المسبقة شيوعاً عن العرب الذين يخلط بينهم وبين (الأتراك)، وعن المسلمين الذين يعدون في رأيه كائنات منحطة عفا عليها الزمن. إن مقولات الشاعر هذه دليل على أن مفهوم التعايش المزعوم، الذي يتبناه، وتتضح من خلال هذه المواقف، حدوده الضيقة، ويتضح أن مشاعره الإنسانية ذات مقاييس متفاوتة، تقتصر على الشعوب التي تسمى (متحضرة)، ويقصي المسلمين من محفل المجتمع الإنساني، ويلقي بهم في حمأة الرفض المتطرف.
الاتجاه البطيء نحو الروحانية الإسلامية
تكمن الفائدة الكبرى من التحليل الذي يقوم به لويس بلان في أنه يلقي الضوء بالدليل القاطع على كيفية التطور الملموس الذي طرأ على موقف هوغو من الإسلام، عندما بلغ هذا الأخير مرحلة النضج.
يبين بلان في فصل ممتع وموثق أن عدداً من العوامل أسهمت في السنوات بين 1830-1840م في التغيير المتدرج لرؤية فيكتور هوغو عن الإسلام.
يأتي في مقدمة تلك العوامل تعطشه الذي لا يرتوي للروحانية، تعطش زاد من حدته الاضطراب الشديد الذي أحدثه موت ابنته ليوبولدين Léopoldine.
لقد انصرف هوغو، وهو يبحث عن إجابات بعيداً عن المعتقدات السائدة، إلى تفحص عدد كبير متكامل من المعتقدات، كانت حتى ذلك الحين مجهولة لديه، تمتد من البوذية إلى السحر والتنجيم، مروراً بالباطنية في الإسلام.
ولكن أكثر ما اجتذبه بلا شك هي قراءاته المعمقة للقرآن، قراءات أحدثت عنده تجلياً، وجعلته يكتشف بشغف، الجمال الساحر، والكنوز الكامنة في هذا النص المؤسِّس في الإسلام.
يحلل لويس بلان ببراعة، مستدلاً بالشواهد التي تدعم تحليله إسهام هوغو المتدرج في أولى محاولات الترجمة الفرنسية لهذا الكتاب المقدس الذي سرعان ما وجد فيه غايته التي كان يسعى إليها في بحثه الدؤوب عن الروحانية. وينطبق القول نفسه على ترجمة السيرتين النبويتين اللتين أنجزهما ألفونس دو لامارتين، وبدرجة أقل ألكسندر دوما.
لقد ظهر له من خلال ذلك جانب لا يتسرب إليه الشك، من جوانب شخصية نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، جانب هو بعيد كل البعد عن المأثورات القروسطية، وعن الرجل الضال، وقائد الحرب الدموية.
إذن، يكشف بلان اللثام عن التأثير المتنامي لهذه القراءات، وعن توجه هوغو الثقافي المتأني نحو فهم أكثر عمقاً وأكثر تقديراً للإسلام، بوصفه نبعاً للمشاعر الروحانية.
إنه لمن المؤكد أن هوغو الذي ما زال لديه بقايا من آرائه السابقة، لا يسلك طريقاً مستقيمة، إذ ماتزال في ذاكرته بقايا من الأحكام المسبقة تنبعث هنا وهناك، خلال جلساته الروحانية، أو في زمن الحدث الدموي الذي طال البريطانيين في جدة عام 1858م.
ومهما يكن من أمر فإن أبواب التقارب قد فتحت إبان تلك المرحلة المفصلية.
لقد اكتسب هوغو، على مر السنين، شغفاً حقيقياً بالإسلام، ولم يعد ينظر إليه بوصفه مجرد معتقد مغاير بعيد، ولكن، على أنه، كون عبادة وثقافة، يستطيع أن يجد أصداءه في نفسه.
الذروة
مكانة الإسلام في ديوان (أسطورة القرون). لا يجادل أحد في أن الفصل المشوق والموثق الذي يخصصه لويس بلان للقصيدة المبهرة المهداة للإسلام في رائعة فيكتور هوغو، (أسطورة القرون) La légende des siècles هي بلا شك ذروة الكتاب.
يقدم بلان ببراعة في التحليل، ومتانة في التفاصيل، تشريحاً للمعيار والمنابع التي تتكون منها هذه النصوص الثلاثة المؤسسة، ويكشف اللثام عن تفردها المميز، وتماسك رسالتها الإنسانية والروحية.
يجعلنا لويس بلان، بإحساسه المميز في مجال السرد، نعايش في المقام الأول كل الملابسات التي أحاطت بتكوُّن قصيدة (السنة التاسعة للهجرة)، إنها قصيدة تنبض بالحياة، تصف اللحظات الأخيرة في حياة نبي الإسلام.
لقد فضل لويس بلان آليات التحليل النصي المحكَمة، المعتمدة على مخطوطات القصيدة، وعلى معرفة عميقة بالنص، واكتشف بذلك التأثيرات المتعاضدة التي كانت تدور في ذهن هوغو في اللحظة التي شرع فيها في نظم هذه الألكسندرية البارعة. وهي القصيدة (المؤلفة من اثني عشر مقطعاً، وكل مقطع في شطرين).
يبرز لويس بلان العمل الباهر في الاستحواذ، والتجلي الشعري الذي برع فيه هوغو، ونجح في رهان القدرة على رسم ملامح الأبعاد الروحية التي تقترب من الوعظ في واقعة موت محمد صلى الله عليه وسلم، قام بذلك بتعاطف واقتدار أدبي آسر.
إن قصيدة (السنة التاسعة للهجرة)، البعيدة كل البعد عن أن تكون تقليداً أو تلفيقاً تناصياً، تظهر في الديوان بمظهر الذكرى المدوية للنبي، ولسر معتقده.
يقدم المؤلف، الذي يبدل محور الكلام ببراعة، دراسة استقصائية مشوقة لا تقل تشابكاً عن سابقتها لقصيدة (شجرة السدر) le Cèdre التي تفصل القول في السلالة الرمزية لهذه الشجرة الأسطورية في المخيلة الشعبية والقرآنية.
يعمد لويس بلان إلى فك شيفرة أحوال المعنى المتتابعة التي تُنجز في هذا النص ذي الرؤية.
إن سعي هوغو للحديث عن الحكاية المميزة لشجرة السدر التي اقتلعت بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، ثم ينتقل إلى قبر حواء الذي يعود إلى آلاف السنين في جدة، ليصل إلى نشر الظل على يوحنا الإنجيلي Jean l’évangéliste في جزيرة باتموس Patmos
(جزيرة يونانية يقال إن الإمبراطور دوميثيان Domitien نفى إليها في عام 95م القديس يوحنا الإنجيلي).
إنه لمن المؤكد أن ما يطمح إليه هوغو هو في الواقع توليفة عظيمة بين تلك المعطيات.
إن هذه القصيدة التي يربط هوغو فيها بين فجر الإنسانية والآخرة، وبين الشرق الأزلي والرسالة المسيحية، وسفر التكوين بالقرآن والإنجيل، تختصر بقدرة خارقة الأديان السماوية الثلاثة في رحلة البحث عن النزعة الروحانية.
شغف بالإسلام
يصعب على لويس بلان في ختام تحليله العميق ألا يقر بأن فيكتور هوغو -شأنه في ذلك شأن الشاعر الألماني غوته Goethe قبله- معجب إعجاباً لا يمكن إنكاره ببعض الجوانب الأساسية في الروحانية الإسلامية.
إن لديه، بوصفه صاحب رؤية، بقدر ما هو مفكر، عطشاً لا يرتوي للمقدس، كان يسعى مدة حياته إلى إرواء عطشه من الينابيع الثرة للإسلام، حتى إنه جعل منه مكوناً رئيساً من مكونات عالمه العقلي والإبداعي.
يعود مؤلف الكتاب بالتفصيل إلى قصائد هوغو في مرحلة النضج وكتاباته، ليبين بجلاء أنه إذا كانت علاقة الشاعر بالإسلام ما تزال في مناطق الظل فإنها، على الرغم من ذلك، ما تزال تضم بين جنباتها فضولاً ثقافياً جماً، واحتراماً متنامياً.
يظل للإسلام في نظر فيكتور هوغو، بغض النظر عن العقيدة، وعن الشعائر الدينية التي يمارسها المسلمون، ذلك البعد الترتيلي والشاعري والروحي الذي تتجلى فيه نفسه كل التجلي، وتستوحي منه لتتجلى.
إنه، بوصفه أديباً، يغريه الجمال الساحر للغة العربية، أحس قبل كثير من معاصرينا بالقدرة الإعجازية الفائقة للنص القرآني، كما تشهد على ذلك المحاولة الشخصية التي بادر إليها في ترجمة بعض الآيات أو صياغتها على النمط الشعري الإلكسندري.
إن هوغو بلا شك هو أول المؤلفين الفرنسيين الذين أحسوا أن القرآن أكثر من كتاب أدعية، أو كتاب حَشْد من القوانين، بل إنه، في المقام الأول، كتاب إعجاز بلاغي. لقد كان هوغو في السياق نفسه، يرى أن سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من بعثته السماوية إلى لحظة موته عظة عبَّر عنها ببراعة نادرة.
ولم يفتأ كل ذلك يثري إلهام الشاعر.
إن هوغو، شأنه شأن كثير من معاصريه، كان رهينة أسطورة الدجال الدموي التي اختُرِعت منذ الحروب الصليبية. لقد أبطل فيكتور هوغو تلك الأسطورة التي ظل زمناً طويلاً أسيراً لها، شأنه شأن كثير من معاصريه، أبطلها عندما كتب شعراً رائعاً عن ذلك النموذج الأعلى، الملهم، الذي (كان يعشق الصحراء)، وكان قادراً على أن يلبس لكل حالة لبوسها، لقد كان في صباه راعياً، وأصبح بعد بعثته مشرعاً، ورجل دولة ذا رؤية ثاقبة، وقائداً ملهماً.
إن هوغو الذي انغمس في هذا التوجه العقلي، الذي جذبه، وملك عليه أمره، ذلك هو الإسلام، الذي شوهته الأوهام لزمن طويل في أوروبا، وانجلى الغموض عن أركانه منذئذ.
لقد استطاع صاحب ديوان (التأملات) Les Contemplations عندما سطعت شمس عصر الرومانسية، أن يوثق عرى الخيط الذي يصل في مجال الماورائيات بين الزخم الصوفي المفتون بالمطلق، وبين البحث الحثيث لدى واحد من أبناء القرن الغربي. ويكمن في هذا كل ما يراهن عليه هذا الكتاب، ألا إنه رسم المسار العقلي والروحي البطيء الذي أفضى بالكاتب بعد عدة سنوات إلى إعجاب متمكن بالإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم.
يعيد لويس بلان رسم ملامح التعقيد في موقف فيكتور هوغو عبر هذه اللوحة، من وجهة نظر وسطية تقوم على التأمل والتوبة، إنه لا يعقد محكمة اتهام بالشعوذة، ولا يبذل المديح المتعجرف.
يغادر القارئ هذه الصفحات وقد استقر في روعه فهم متبصر، ورؤية حاسمة كل الحسم عن التطور الذي مر بمنعرجات كثيرة للشاعر في النظر إلى هذا الموضوع.
يغادر القارئ هذه الصفحات وقد حظي بفهم ثاقب ورؤية عميقة كل العمق للتطور الذي طرأ على رؤية الشاعر في هذا المجال.
إن هذا الكتاب إضاءة متوهجة في جانب مجهول من جوانب شخصية هذا العَلَم الذائع الصيت من أعلام التراث الأدبي الفرنسي.
إن المسافة بعيدة بين فيكتور هوغو الذي كان فيما مضى يهزأ من (البربرية الإسلامية)، وبين ذلك الذي يذرف دموعه شعراً عالياً على موت (محمد) صلى الله عليه وسلم الباقي ذكره على مر الأزمان.
يحاول هذا الكتاب الحافل تجاوز الهوة العميقة التي تفصل بين الرؤيتين.