مجلة شهرية - العدد (589)  | أكتوبر 2025 م- ربيع الثاني 1447 هـ

ومن الحب ما لا يترجم

في حفل شهير أقيم في إستاد دو فرانس عقب نيل فرنسا كأس العالم 1998م، صرحت الفنانة الكندية سيلين ديون (مؤدية أغنية فيلم تايتانيك الشهيرة)، ضمن الأجواء الحماسية للحفل، قائلة: (إن أجمل لغة في العالم نقول بها كلمات الحب هي دائماً اللغة الفرنسية)، وما قالته المغنية الكندية يمثل تصوراً نمطياً شائعاً. لكن مجلة (البريد الدولي-Courrier International) الفرنسية وضعت هذا التصور النمطي موضع تساؤل في الملحق الخاص الذي أصدرته في ديسمبر من العام 2016م تحت عنوان (كلمات الآخرين: رحلة في الكلمات الأجنبية التي لا مقابل لها في اللغة الفرنسية)، وذلك بمناسبة صدور الموسوعة الفرنسية (الكلمات التي تنقصنا)، إذ تضمن المقال إحصاء لبعض المفردات العربية التي لا مقابل لها في اللغة الفرنسية، ومن بينها أكثر من عشرين مفردة عن الحب وأحواله لا يوجد لها نظير في لغة موليير، مثل مفردات: السهد، والخول، والشغف، والوله، والوصب، والتشبيب، والخبل، ووصفت هذه الكلمات، ضمن الموسوعة، بأنها غير قابلة للترجمة إلى الفرنسية. تسعى هذه المقاربة لاستكشاف بعض الدلالة اللغوية والثقافية والتاريخية لمسألة ثراء اللغة العربية بمفردات الحب، واكتفاء اللغة الفرنسية بكلمات معدودة للتعبير عن أحواله.
ليس فقط ترادفاً بل حساسية لغوية استثنائية
في الدرس اللساني العربي، توصف الكلمات التي تدور حول معنى مشترك بأنها (مترادفات) قد تختلف معانيها قليلاً في الدقة والدرجة والدلالة الشعورية، أي أنها مترادفات غير تامة وتنتمي لحقل دلالي واحد له تدرجات دقيقة. فمفردات الحب في العربية تسمي كل درجة من درجاته، وكل عرض من أعراضه وتبعاته النفسية والجسدية، أي أنها تظهر حساسية لغوية استثنائية في تشريح هذه العاطفة الإنسانية. فاللغة العربية نشأت وتطورت ضمن بيئة تعتمد على الشفاهية والبلاغة، ويوصف البدوي بالفصاحة والبلاغة عندما يمتلك القدرة على التفصيل الدقيق والتفنن في الوصف، وهو ما دفع شعراء العربية، في مختلف عصورهم، إلى توليد مفردات متقاربة المعنى مستفيدين من قدرة اللغة العربية على توليد المفردات الجديدة عبر آلية الاشتقاق، أي توليد كلمة جديدة من كلمة أصلية مع الاحتفاظ بجزء من هذه الأخيرة.
بالمقابل، لا تستخدم اللغة الفرنسية، رغم غناها الثقافي والأدبي، مترادفات في وصف الحب وأحواله بالاتساع الذي تعرفه اللغة العربية، فهي غالباً ما تستخدم مفردات قليلة للتعبير عن الحب من بينها مفردتي (amour)، و(passion)، ثم تُلحق بها عند الضرورة صفات لتحديد، مثلاً، درجة هذا الحب. ولا يعني شح مفردات اللغة الفرنسية في هذا الحقل الدلالي أنها فقيرة شعورياً، بل يعود السبب في ذلك إلى الطبيعة اللاتينية التقريرية للغة الفرنسية، ولتطورها ضمن فضاء كتابي مؤسساتي لا شفاهي يفضل الوضوح على التنويع اللفظي.
نموذج شعري مقابل نموذج سردي
شغلت ثيمة الحب مكاناً مركزياً في الثقافة العربية، إذ تطورت مفاهيمه ورمزياته عبر العصور ضمن قالب القصيدة الشعرية، الشكل التعبيري الأدبي الأبرز والمهيمن، فكان الحب عند الجاهليين امتحاناً للفروسية والكرامة، ومثّل عند المتصوفة، في عصور لاحقة، الطريق الموصل إلى الله، وفي العصور الوسطى وضع الشعراء العرب مقامات للحب تشبه مقامات الصوفية، ومثّل كل ذلك محفزاً للغة لتنتج المفردات وتُرَكِبها وتُفصّلها فتنشئ بذلك موسوعة لغوية للمشاعر.
بينما تطورت مفاهيم الحب في أوروبا، بما فيها فرنسا، ضمن الفكر اللاهوتي الكاثوليكي الذي تعامل مع الحب الحسي بكثير من التحفظ عبر الفلسفة وعبر نموذج سردي (الرواية، والمسرح)، أي أن هذه المفاهيم لم تتطور عبر مفردات مفصلة بل عبر أطر سردية ونظرية، لذا تكتفي اللغة الفرنسية بعدد قليل من المفردات في وصف الحب وأحواله، ثم تثريها بعد ذلك عن طريق الوصف ضمن سياق سردي.
مساومة المعنى
عطفاً على بدء، تزخر اللغة العربية بمفردات الحب ربما أكثر من أي لغة أخرى في العالم بفضل آلية الاشتقاق الفريدة والحساسية اللغوية الاستثنائية، ويعكس هذا الثراء تصوراً للحب ليس كعاطفة واحدة بل كخبرة وجودية متعددة الأبعاد. فقد أورد أبو منصور الثعالبي في الفصل الواحد والعشرين (في تَرْتِيبِ الحُبِّ وتَفْصِيلِهِ) من كتابه (فقه اللغة وسرّ العربية) عشر مراتب لتبيان مراحل الحب: (أول مراتب الحب الهوى، ثم العلاقة وهي الحب اللازم للقلب، ثم الكلَف وهو شِدَّة الحب، ثم العشْقُ وهو اسم لما فَضَلَ عن المقدار الذي اسمه الحب، ثم الشَعَفُ وهو إحراق الحب القلبَ مع لذة يجدها. وكذلك اللَّوْعَة واللاَّعِجُ فإن تلك حرقة الهوى وهذا هو الهوى المحرق، ثم الشَّغَفُ وهو أن يبلغ الحب شغاف القلب، ثم الجَوَى وهو الهوى الباطن، ثم التَّيْمُ وهو أن يستعبدَه الحب ومنه سمي تَيْمُ الله أي عَبْد اللهّ ومنه رَجُلٌ مُتَيم، ثم التّبْلُ وهو أن يُسْقِمَهُ الهوى، ومنه رجل مَتْبُول، ثم التّدْلِيهُ وهو ذهاب العقل من الهوى ومنه رجل مُدَلَّهٌ، ثم الهُيُومُ وهو أن يذهب على وجهه لغلبة الهوى عليه ومنه رجل هَائِم).
لكن من غير المناسب أنْ تصف مجلة البريد الدولي مفردات الحب العربية بأنها غير قابلة للترجمة (Intraduisible)، فهذا القول يؤطر الترجمة في عملية النقل الحرفي للمفردات من لغة إلى ما يقابلها من مفردات في لغة أخرى، وليس بوصفها عملية بحث عن المعنى. جميع الكلمات قابلة للترجمة، أي من الممكن إيجاد معنى لها في اللغة الهدف وإن اقتضى الأمر اللجوء إلى الشرح المطول، وقد وصف صاحب (اسم الوردة) السيميائي الإيطالي أمبرتو إكو الترجمة بأنها تنطوي، من أوجه عدة، على مفاوضة ومساومة للمعنى. وقد أعطت مجلة البريد الدولي مثالاً رائعاً للترجمة عبر شرح المعنى في إيرادها لكلمة (ناخور- Nakhur) الفارسية التي لا مقابل لها في اللغة الفرنسية، وربما في اللغة العربية أيضاً، وهي تعني (الناقة التي لا تعطي حليباً إلا بدغدغة أنفها)، أي أن ترجمة هذه المفردة صار ممكناً في آخر الأمر.

ذو صلة