مجلة شهرية - العدد (589)  | أكتوبر 2025 م- ربيع الثاني 1447 هـ

الحب بلغة الآلة.. عندما يحمل الروبوت قلباً عاشقاً

ما عساه يفعل الإنسان الآليّ المنضبط، وبماذا ينطق، وقد تَمَلَّكَه العشقُ الفجائيّ المُزلزل للمرة الأولى، كفيروس مجنون نشط مدمّر للبرمجيات الجاهزة وقوانين التشغيل النمطية، التي تحكم قطيع الروبوتات المروَّضة في هذا العالم المصنوع؟
آنَ وقت التمرد والتحرر والتغيير بالتأكيد، لأن ساعة الحب الصلصالية قد افتتحت دقاتها بإعلان حضور (نيرمانا)، وإثبات حلولها في حواس الروبوت، وضميره الحي النابض. نيرمانا، هي أخصب من أن تكون مجرد امرأة، هي جوهر العشق وفكرته منذ الأزل إلى الأبد، هي خميرة الحياة وثورتها على القولبة والتجمد والاحتمالات المحسوبة في العقول الإلكترونية المعاصرة.
نيرمانا، القيمة الكبرى التي ظهرت بغتة، لتعيد الكائن الآلي إلى ذاته الهاربة، ليستشعر أنفاسه الساخنة من جديد، وينخرط في حركته التلقائية في الهواء الطلق، حافياً وعارياً ومتجرداً إلا من المصداقية والفعل الإرادي الحقيقي، ومغرّداً كما لم يغرّد من قبل في بوحه الإبداعي الأول بعدما اقترب من إنسانيته المفقودة في خضم التقنيات المفزعة والحروب الشرسة (آثارُ أحذية على الرمال، تؤكّدُ أن الجنود مروا من هنا، في طريقهم إلى الحدود والأسلاك الشائكة/ ربما لتأمينِها بأسلحة الماضي، وربما لإزالتِها تماماً، بأسلحةِ المستقْبَل/ رمالُ نيرمانا، وغبارُها الذّرّيُّ، فوق جلدي وجلد حذائي، تؤكّدُ أنها اخْتَرَقَتْ حدودي وأسلاكي الشّائكة، عابرة من مكانٍ ما، إلى مكانٍ ما).
هكذا، ينطلق الروبوت العاشق ضد جاذبية عالم أجوف استعمرته الغازات الخاملة، وغاب فيه الإنسان، أو تعطل بشكل مؤقت، بضغطة على زر ذكي، اسمه: الميكنة. يهزأ الآليّ العاشق بالمسلّمات، يلعب بالنار، يراقص النجوم والفراشات، يقيم حفلات للمفاجآت والصدمات والأخطاء اللذيذة التي تتحدى كل ما هو محدد وثابت ودقيق حدّ الرتابة والموات (تتمنّى ساعة القلب، لو تُخطئُ التوقيتَ مرة واحدة، فتدق دقّتينِ مثلاً في تمام الواحدة!، هذا ليس معناهُ أنني أرغبُ في امرأتينِ، حاشا، الله يشهدُ أنني مصاب بالتُّخمَة من النّسَاء، كلّ ما في الأمر، أنني أودُّ طَمْأَنَةَ نيرمانا، أن كواكبَ المجرّةِ، وإلكتروناتِ الذّرّةِ، من الممكنِ ألا تنتظمَ في دورانِها!).
بالعشق، فقط بالعشق، يراهن الروبوت على عدم الاستقرار، يتشبث بالرغبة في التحلل المطلق من كل شيء، يأمل في الفكاك التام من الصيغ الكابوسية العنكبوتية الراهنة، للوصول إلى أية صيغة أخرى محتملة، فلن تكون هذه الصيغة البديلة أسوأ أبداً تحت أي ظرف من الظروف (لم تكن هناك نيّةٌ للعشق، لكنْ كان هناكَ قمرٌ، حاولنا في مياهه الإقليميّةِ، أن نفعل أيَّ شيءٍ، باستثناء العشقِ، فلمْ نستطع، ولذلك غرقْنا).
أية طاقة عجائبية تبثها نيرمانا في خلايا الإنسان الآلي، ليتفجر كما لم يتوقع أحد، مكتشفاً نفسه وواقعه الفعلي والافتراضي، في آن واحد؟ هي أخطر قفزة من نافذة الغرفة الكونية المجهزة، بغير حساب للعواقب والنتائج، هرباً من حياة مرتبة ميكانيكية الطابع، رقمية الانتظام، محسوبة الأبعاد، بحثاً عن فضاء آخر مشمس، تمرح فيه الأرواح مشحونة بفوضاها الجميلة، وتحتفظ فيه نيرمانا بابتسامتها الصافية غير المعلّبة (حياة واحدة لا تكفي، لاعتناق امرأةٍ مبتسمةٍ).
بالعشق، فقط بالعشق وحده، يعود الروبوت إلى فطرته وفردانيته وخصوصيته، بعدما تبخر الإنسان في كل ما هو غير إنساني، ويبدأ الآلي خطوات التصالح مع الطريق (الغريبُ الذي يعبرُ الطريقَ، ليس بحاجةٍ إلى عصا بيضاءَ، ولا كلبٍ مدرّبٍ، هو بحاجةٍ إلى أن تصير للطريقِ عيونٌ، تتسعُ لغرباء). يمضي الآلي في رحلته، مناضلاً ضد الإجراءات، وضد البرمجيات، خارج شروط الريموت كونترول في يد القوة المهيمنة، أية قوة، وخارج سيادة النظام، أي نظام. وبعيونه العاشقة، فقط بعيونه العاشقة، ينشد الروبوت الدهشة واليقظة (أن أوقظ وردةً واحدةً، خيرٌ من أن أنام في بستان). كما يتمكن الروبوت من معاينة سوءات عصره، الغارق في التسليع والميكنة والتقنية، ووضع يده على الكوارث الاجتماعية والعلمية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، التي قادت الإنسانية إلى هذا المصير البائس، والنفق المظلم.
يقود الآلي العاشق هجمته الفنية، محاولاً تحسُّس فيزياء الحياة بالأصابع، واستشفاف إكسيرها بالروح، التي لم تتسرب كلها بعد. الهواء الفاسد من حوله هو الذي أجبره على فتح النافذة، بل كل النوافذ، من أجل حلم الخلاص من سوء التهوية، والزيف، والتحنيط، والتعطر بإكسير نيرمانا التي لن تكون أبداً زهرة بلاستيكية. لقد نجحت خطة الروبوت بالتأكيد، فقط لأنها لم تكن خطة أصلاً، بل لعبة من لحم ودم ودفقات محمومة وهلوسات حميدة، غايتها ملامسة الذات، والآخر/الأخرى، بوجه لا يعرف التقنّع والادّعاء (في الحفلِ التنكّريّ، أردتُ ألا يعرفني أحدٌ، فذهبتُ عارياً تماماً، النساءُ كلهنّ عرفنني، تفادين مصافحتي، خشيةَ أن أعرفهنّ وأفضحهنّ، واحدةٌ فقط، لم تعرفني، ولم أعرفها، رقصتْ معي ستّ رقصاتٍ، وفي الرقصةِ السابعةِ، اكتشفتُ أنها ملابسي، التي خَلَعْتُها قبل الحفلِ).
يجد الآليّ في تقصّيه أضواء نيرمانا وظلالها السحرية والسرية كل معاني الجوهر المشعّ بذاته، في الحياة والعشق والشعر في الوقت نفسه، وهو جوهر مختلف ونادر بطبيعة الحال (نقطة حبرٍ أراني، لم توضع فوق حرفٍ ثابت، ومساحة ما متوقّعة، لم تتشكّل نهائيّاً بعد. في يدي نصفُ زهرة بيضاء، في يد العالم نصفها الآخر. وحدي، أراهن على اكتمال البياض). وهو ليست معه بوصلة واحدة يتحسس بها الجهات الجغرافية والمغنطيسية، لكن الروبوت يؤمن بأن الجهات الأصلية كلها يمكن الاهتداء إليها بالقوة الحدسية الاستشفافية، ومعانقتها بالحواس الخمس المعروفة، والحواس الذائبة في الضمير، بدون أن تحمل خطواته رائحة إبرة ممغنطة.
وفي الجهات كلها، لا أحد سوى نيرمانا لخلخلة أسلاك الروبوت، وتحويلها إلى أعصاب آدمية شديدة الحساسية يعرف الهاتف أنها هي، فيخجل من حرارته المرفوعة مؤقَّتاً، وينبض بحياةٍ، لا تتحمَّلُها أسلاكُ أعصابي، نيرمانا، (صباح الخير) من شَفَتَيْها، كافيةٌ جدّاً، لأتساءلَ: (كيف سأتحمَّلُ رائحةَ البشرِ أمثالي، بعد أن غمرني عِطْرُ الملائكةِ؟!، (تصبح على خيرٍ)، من عينَيْها، صالحةٌ جدّاً، لزرع الفيروس اللذيذِ، في عقلي الإلكترونيِّ الْمُنْهَكِ، وَمَحْوِ خلايايَ السليمةِ والتالفةِ، لماذا لَمْ تظهرْ نيرمانا، في الصورةِ الديجيتال التي الْتَقَطتُها لها؟ وهل حقّاً أنا عندي هاتفٌ؟!).
الذي يريد الروبوت العاشق أن يقوله، في الأساس، هو ببساطة، أنه يقول. القول بحد ذاته معجزة، في عالم نفدت كل طاقاته، وعلى رأسها: الطاقة الروحية. أن ينزف دماً وناراً ونوراً هو شعور بالغ اللذة، في هذا العالم المتبلد الأجوف. لقد زادت الأمور توحشّاً في ما يخص استلاب إنسانية الإنسان، ومحو إرادته الحرة، ومبادرته، وقدرته على اتخاذ القرار. كما ترسخ منطق الاستقطاب، وضرب الخصوصيات والهويات في مقتل، وإعلاء شأن الأرقام، والبرمجيات، وقيم التسليع والقوانين المسنونة، التي تحكم حركة البشر. لقد غدا الإنسان آلة مقهورة بالفعل، والقوة القاهرة أيضاً ماكينة عمياء. أن يقول الروبوت العاشق، بلسانه وروحه وعقله، وعلى طريقته دون سواه من قطيع الماكينات، هو إشعار بأنه (حيّ)، وبأنه في الإمكان أن يكون هناك أحياء آخرون، وطريقة أخرى لممارسة الحياة (سَأَلْتُ المكنسةَ الكهربائيّةَ، عن سرِّ تعاستي، قالت: لأنكَ اسْتَعْمَلْتَنِي بغير حسابٍ، لدرجة أنني كَنَسْتُكَ فيما كَنَسْتُ!، سألتُ نيرمانا عن سرِّ تعاستي، قالت: لأن ساعتَكَ منضبطةٌ جدّاً، لدرجة أنني فَشَلْتُ في أن أكون مركزَ مينائِهَا، وأن أزرعَ عقاربي الشّفّافةَ محلَّ عقاربِها المرئيّة).

ذو صلة