إن الحديث عن الحب وصياغة الكلمات التي تُعبّر عن هذا المفهوم العميق يجلب السعادة بحد ذاته، وذلك لارتباط هذه القيمة بالجانب العاطفي والروحي الذي يُشكّل هوية الإنسان العاطفية، ويترجم تكوينه الإنساني الذي هو عبارة عن مشاعر وعواطف منصهرة ومتداخلة مع بعضها البعض. هذه المشاعر أفرزت في النهاية كائناً عاطفياً يبرهن على أن الحب هو الأساس، وهو رمز الوجود وما يتشكل بعد ذلك في الهوية الإنسانية هو نتاج هذا الحب الذي قد يبني أو يهدم في الوقت نفسه.
إن فلسفة الحب تقتضي ظهوره عبر الثقافات المختلفة، فالحب في الثقافات الشرقية أكثر تحفظاً، ويميل إلى الرمزية وبعض مظاهر الكتمان هو حب خفي غير مُعلن، بقدر ما هو مرتبط بظهوره في القيم المتمثلة في العطاء أو التضحية. وقد تزداد أهميته في مراحل الزواج، وذلك لاحتياج المؤسسة الأسرية للإشباع العاطفي والجسدي، لذا فقد يلاقي التعبير عن الحب بعض القبول في المجتمعات بأنماط مختلفة بحسب كل ثقافة، ولكن دون أن يتجاوز الصورة النمطية التي ترى في الحب مجرد وفاء وعطاء.
أما إذا أردنا أن نتأمل في فلسفة الغرب، وكيف يتم تأصيل ثقافة الحب، فسنجد أنه يأخذ جانب الانفتاح والإعلان اللفظي الصريح والمباشر. فقد يتجسد الحب هناك في كلمات وهدايا، كما يُعدّ شرطاً أساسياً للزواج، وغالباً ما يعكس الرغبات والحرية الفردية فهنا وجه الحب أكثر انفتاحاً وجرأة.
وإذا خضنا في عمق الحب لنرى علاقته بمجموعة من المفاهيم المهمة كالدين والأدب والأساطير، فسنجد أولاً أنه يتجلى بوضوح في الدين الإسلامي، الذي يؤكد على الرحمة والسكينة، وهما ترجمة لمشاعر الحب الصادق، فالحب الديني مرتبط أكثر بالقيم الإيجابية، كالتضحية، والصدق، وحسن المعاملة، والإخلاص وهذا ما تمت تربيتنا عليه وتزويدنا به منذ الصغر.
أما في الأدب، فالحب هو الذائقة الأدبية العظيمة التي ألهمت المبدعين، هو الكيان المحرك لأوجه الإبداع الفنية فقد ساهم الحب في تحرير الإبداعات في الكتابات المتنوعة عبر الأزمان من روايات وأشعار تمجد هذا الشعور العظيم، حيث يُعدّ الحب في الأدب صلة الإنسان بإنسانيته، وإذا نظرنا إلى الحب في زمن الأساطير، سنجد أنه أخذ أشكالاً مختلفة، ففي الأساطير الشرقية، لا يمكن تجاهل رموز الحب الكبرى مثل: قيس وليلى، أو عبلة وعنترة، فقد كان الحب في تلك المرحلة يعبر عن الصراعات والحرمان والشقاء، وكان يأخذ أدوار البطولة والريادة في حياة المحب والعاشق.
ومن هذا المنطلق، تقودنا التساؤلات عن واقعية الحب في هذا الزمان: هل ما زال الحب مُلهماً للأرواح والقلوب النابضة بالحياة؟ هل ما زالت أفلام الحب، وروايات الحب، وأغاني الحب تشهد انتشاراً؟ وهل ما زالت هناك شخصيات تتوق للحب الأسطوري؟
إن هذه التساؤلات تقودنا إلى مقاربة قد تكون واقعية ومحفوفة بالشفافية وبها جانب موجع ربما، إذا قلنا إن الحب المثالي لم يعد موجوداً اليوم، فالصورة التراجيدية والخيالية للحب لم تعد تُنتجها الواقعية في زمن تتضخم فيه الأنا، ويسود الوعي الذاتي، مما جعل مفهوم الحب الحديث أكثر يقظة، إذ يركّز على مبادئ الشراكة بدلاً من التضحية، وعلى وضع الحدود الواضحة والاستقلال العاطفي منعاً للاستغلال. ولكنه، رغم ذلك، لم يخرج من مفهوم الأسطورة، لما للحب من صفات أصيلة تلامس جوهر الإنسان، إنما أعاد تفسير نفسه في ظل التغيرات الاجتماعية، والتحولات النفسية الشائكة، والثورة التكنولوجية.
فأصبح الحب يأخذ معاني وصوراً مختلفة، ففي علم النفس، يُعد الحب من أكثر الظواهر الإنسانية تعقيداً وتعدداً في الأبعاد، فهو ليس مجرد شعور رومانسي، بل تجربة نفسية وسلوكية وفسيولوجية تتداخل فيها عدة أنظمة داخل الإنسان، إنه ارتباط عاطفي قوي يتضمن الرغبة في القرب من الآخر، والاهتمام برفاهيته، والاندماج النفسي معه، ويأخذ أشكالاً مختلفة: كحب الأم لطفلها، والحب بين الشريكين، والحب بين الأصدقاء، وحتى حب الذات.
الحب قيمة أخلاقية عميقة، ففي الفلسفة الأخلاقية وعلم النفس الإنساني (مثل فلسفة كارل روجرز وإريك فروم)، تم التأكيد على أن الحب يُفهم كقدرة وكمهارة يُمكن تطويرها وممارستها، وليس مجرد حالة شعورية عابرة. ففي كتابه فن الحب يقول إريك فروم «الحب ليس فقط تجربة شخصية، بل هو موقف تجاه الحياة والناس كافة».
وهذا ما يُعلل أن الحب مشروع إنساني كبير.
وفي عالمنا الاستهلاكي الذي تطغى فيه الأنانية والنرجسية، يواجه الحب صراعاً كبيراً، لما يتطلبه من مقاومة النزعات الفردية، عندما نختار عدم الاكتفاء الذاتي، كما يقاوم أمراض النفس المعقدة كالكراهية والبغضاء، وما يدل على ذلك هو اندماجنا وسط الجماعات المختلفة بكل حب وعطاء، بعيداً عن الجنس أو العرق.
لعل الصراع يتجلى أكثر في مقاومة العزلة الحديثة التي فرضت نفسها، ولعل جائحة كورونا وتبعاتها كانت أحد الأسباب، كما قال الدكتور مصطفى محمود «إن الحب في زمن المادة مقاومة».
ورغم محاولات المقاومة، إلا أن الشعور بالاغتراب ازداد في الآونة الأخيرة، وأصبح الشعور بالوحدة سمةً رائجة عند الكثير من الأشخاص، رغم تنوع وسائل التواصل. وهذا ما يُفسر أن التواصل الكمي سطحي، فرغم مئات الرسائل والإشعارات التي تصلنا، إلا أنها لا تُساهم في تغذية الحاجات الإنسانية، بل أصبحت تهديداً للذات، بفعل الحياة المزيفة التي خلقتها وسائل التواصل.
في هذا العالم الاستهلاكي للعلاقات، خلق الحب صراعاً مخيفاً في الذات بسبب التناقضات المفروضة. ووسط هذه التحديات، كيف يستطيع الحب إثبات هويته ليُعلن أنه أصيل رغم كل الصعوبات التي تطاله؟
لكننا على يقين بأنه في زمن تآكل المعنى، قد يصبح الحب شكلاً من أشكال المقاومة، لأنه يُرمم الانكسارات الوجودية، ويُعيد للإنسان إحساسه بالقيمة.
ومن وطأة الاغتراب، يدخل الحب في منزلق العلاقة الجسدية، التي يُفترض ألّا يكون الحب فيها مجرد وسيلة للمتعة، بقدر ما تكون العلاقة امتداداً للروح الصادقة. ولعل زمن التواصل بكل أدواته خلق إشكالية مريبة، مضمونها أن الجسد أصبح متاحاً أكثر من الروح. لكن الفكر الناضج يرى في العلاقة الجسدية القائمة على الحب أن (الآخر) شخص لا وسيلة.
لقد أصبح الحب اليوم في مأزق ومعاناة، بسبب كثرة الصراعات والتناقضات التي تجوب عالمنا السريع. لذلك أعتقد أن الحب يعاني من أزمة، بسبب وجودنا في عالم الشغف السريع أكثر من وجودنا في عالم النضج العاطفي. إن عالم الإنجاز وتحقيق الذات والتنافس، جعل الحب يبدو مبهماً وبلا معنى عند البعض، لدرجة أن بعضهم ربط الحب بالزمن القديم، وكأن لا وجود له في زمننا المعاصر.
لذلك، أعتقد أن المعاناة الحقيقية اليوم في موضوع الحب المعاصر ستطول أولئك الذين ما زالوا يرون في الحب قيمةً كبيرة، أكثر من مجرد رمز. أولئك الذين يعتقدون أن أغاني أم كلثوم هي الداء والدواء للقلب، ومازالوا يقدسون الوردة كهدية.. الذين يُناظرون السماء، ويُحادثون الليل من شدة أشواقهم، والذين تعلّموا الوفاء من الحب... إلى الحب. هم أنفسهم الذين يميلون إلى التأمل في الحب، واستكشاف جوانبه العميقة، أكثر من تمرير الشعور على أنه مجرد تلبية لحاجة ملحة.
أن تكون عميقاً في وصف الحب كشعور، والتعايش معه بصدق، والانتماء له بود، واليقين بأنه الحياة.. قد يُكلفك الكثير اليوم. لكن الحب -كما أؤمن به- سيظل شعار الأقوياء والأوفياء في زمن الأقنعة ونبضات القلب المزيفة، هو الحب كذبتنا الصادقة كما قال (محمود درويش).