يبدو أن كل تاريخ القول الفلسفي في الحب لا يعدو أن يكون غير تاريخ لمقدمات فلسفية في الحب. فلئن كانت الفلسفة تتذكر، بين الفينة والأخرى، أن الحب حجر الزاوية من اسمها (حب الحكمة=الحكمة هي الزاوية)، فتعيد إحياءه، تجديداً للتفكير في نفسها، وفي بعض موضوعاتها الطارئة على التاريخ، بفعل التقدم العلمي والتكنولوجي، وبفعل الابتكارات الفنية منقطعة النظير؛ فإنها تفعل ذلك من أجل أن تطري نسغ حياتها.
لئن كـــــانت الفلسفة، إذن، في كل مرة تستأنف التفكير في الحب، اقتياتاً من اسمها المركب، في مواجهتها لخطابات أخرى لا تنفك تنافسها بضراوة في التعبير عن الحب؛ فإنها تلفي نفسها مدعوة إلى أن تقتلعه من موطنه déterritorialisation الآخر، مفهومَ الحب، لتعيد توطينه reterritorialisation في تربتها المخصوصة.
ولئن كانت تفعل ذلك من أجل أن تطري نسغ حياتها؛ فإنها ما زالت تتوسط بعدُ بوسائط (غير فلسفية). فمنذ مأدبة أفلاطون، إلى تقريظ الحب لآلان باديو، مروراً بجماليات هيغل؛ تعود الفلسفة إلى الميثولوجيا لتوضح صورة الحب، أو تختبر وظيفته الإنشائية في الفنون والآداب، أو تسعى إلى مقاربته استناداً إلى ما يقوله فيه التحليل النفسي وعلم الاجتماع التواصلي. حتى أن المرء ليتساءل إن كان حقاً ثمة قول فلسفي (خالص) في الحب! أفلا يدعو ذلك إلى الاشتباه في (الطبيعة الفلسفية) للحب؟
يبدو، إذن، أن ما هو مربك إرباكاً من شأنه أن يكون مفارقياً هو أن توسيط الفن للظفر بمفهوم الحب؛ إنما هو توسيط لإنشاء بشري طبيعته الغالبة العيان لا البيان، وهو ما جعل بعضهم ينبه إلى ضرب من التعسف الفلسفي على الفن، حين تصر الفلسفة على اختزال المنجز الفني إلى خطاب استدلالي والحال أنه، في مجمله، صامت أو هو لا يتكلم استدلالياً. وبعبارة أخرى، فإن التعويل على الوساطة الفنية من شأنه أن يتحول إلى تلبيس لمفهوم الحب نفسه.
فهل معنى ذلك أن النصوص الأدبية، سرداً أو شعراً، بالإضافة إلى الآثار الفنية التشكيلية والبصرية هي المادة الأولى التي يتعين الانطلاق منها للتفكير في الحب؟ وهو سؤال يحتاج إلى أن نستأنفه بآخر: لماذا الأدب والفن أكثر اهتماماً بالحب؟ بل يمكن الانتباه، فينومينولوجياً، إلى أن المرء العادي كثيراً ما يتوسل بتعبيرات فنية: أغانٍ أو قصائد بالأساس؛ ليعبر عن حالات الغرام التي تنتابه إزاء محبوبه. ولا بد أن نستحضر، هاهنا، مرة أخرى ما يقوله لاكان من أن الحب يتحقق عبر علامات. ومن ثم فإن مجال تحققه هو الخطاب الذي يقص وقائع، إلى درجة أن لاكان نفسه يعترض على إمكان (التنظير) للحب طالما أنه من الصعب ضبط المسافة بين ما هو حميم intime فيه، وما هو جميم extime.
لكن بالمقابل، لا يستطيع الفيلسوف أن يتخلص من عبء الاهتمام بالحب؛ لأنه حتى وإن زهد في هذا المبحث فكثيراً ما تذكره الظروف بأن هناك شواغل لا يختلف فيها عن غيره من سائر الناس، فإن سها عنه لا تلبث الكوميديا المسرحية أو الميلودراما السينمائية أو الرومنطيقية الشعرية أن ترجعه إليها، ولكن بضرب من القسوة في بعض الأحيان، كما يشير إلى ذلك آلان باديو. فإذا ما صرفه الفكر عن شؤون بدت له أقل شأناً من أن يهتم بها الفكر (الرصين) أرجعه الفن إلى تباريح الهوى.
إحراجات لمفهوم
يتنزل الحب، إذن، مفهوماً إحراجياً aporique، مما يضاعف في واقع الأمر من صعوبات مقاربته. فأن نفهمَ الحب عاطفة مشبوبة أو على أنه انجذاب شهواني أكثر منه محبة agapé، دون أن نفصله مع ذلك عن الصداقة، وأن نترك الأيروطيقا في غموضها المربك، ثم أن ندرك الجنسانية مثل قوة شديدة جداً وغاية في الانتشار مثل قوة الليبيدو (الطاقة الشبقية)؛ فإنه يبقى من الصعب عندئذ أن نستوعب في الوقت نفسه الجذر التوحيدي لضروب الوجود هذه من جهة، واختلافاتها من جهة ثانية، ذلك أن جذرها التوحيدي يمثل مشكلاً.
المقاربة الاستعارية للحب
على أن إحراجات مفهوم (الحب) تتعمق أكثر عندما نتساءل إذا ما كان بالإمكان بعدُ ترسم آثار الرحلة التي قطعها (الحب) لغض النظر عن اختلاف تسمياته بين الثقافات -وإن لك لذلك بالغ الأهمية، لكن ليسمح السياق الآن بتناوله- من كائن غامض تشط به مغامرات الميثولوجيا إلى مفهوم مستقر في القول الفلسفي! فهل الحب في هذا القول مفهوم (محض) أم هل هو (استعارةُ) مفهومٍ؟
يمكن القول، فيما يخص موضوع الحب بالأساس، بأن هناك نوعاً من التلفت الفلسفي إلى الأدب، والفن عموماً، حيث الفيلسوف يتكلم كما لو أنه أديب أو شاعر، أو فنان ينهل من الأساطير وينسج صوراً رمزية، بل في بعض الأحيان يتحول نصه إلى ضرب من السيرة الذاتية (الفرنسي أندريه كونت-سبونفيل، مثلاً)، فإذا بكتابته في الحب غير كتابته في غيره من المسائل، وهذا ما يشوش ضبط المفهوم، مفهوم الحب، حيث يتوسل الفيلسوف وهو يبسطه في سياق حجاجي بأسطورة (أيروس) أو يتمثل بأسلوب رومنطيقي شعري. وهذا ما يستلزم بلورة المشكل على نحو صريح: لمَ لا يذهب الفيلسوف إلى مفهوم الحب رأساً؟ ما الذي يحتم في معظم الكتابات الفلسفية التي تتناول مسألة الحب استحضاره على نحو استعاري؟ ولماذا نحتاج، في كل مرة، إلى استئناف التفكير في الحب فلسفياً؟ دائماً كانت هناك دوافع لانكباب الفلسفة على الحب تتراوح بين ما يصل أيروس بالحكمة وبين ما يستوجبه الإيمان الديني من وساطة للحب وبين التقصي عن ظلمات النفس البشرية وما يعتمل فيها من عواطف مشبوبة، وبين ما يستلزمه من حرية أو يترتب عنه من عبودية، أما اليوم، فقد يكون الدافع الأساسي، على نحو ما يسوغ (آلان باديو)، متمثلاً في أن الحب أضحى مهدَّداً من كل الجوانب، بحيث لا بد من (إعادة اختراعه) - كما يدعو إلى ذلك رمبو. على أن هذه العبارة لرمبو تقبل التأويل على غير ما يذهب إليه (باديو) من أن الحب أضحى مهدداً، وإنما قد يكون مسوغها أيضاً أن بلاغة الحب، في الفنون والآداب، قد استُهلكتْ إلى حد الابتذال، بحيث لا بد من تجديدها. بل يمكن تأويلها على أن الحب إنشاء فني أكثر منه عاطفة نفسية.
إذا كان (باديو) يرى أن من أكثر مهام الفلسفة اقتضاءً، اليوم، الدفاع عن الحب، وقد أصبح مهدداً؛ فإن السؤال هو: هل يتعين الدفاع عن الحب بوسائط أخرى، الفن والميثولوجيا أساساً، أم هل يتعين الدفاع عنه بواسطة المفهمة الفلسفية وحدها لا غير؟ وحتى نتفادى الغلو، فيمكن تعديل السؤال: إلى أي مدى يمكن للفلسفة أن تستعير من الفن، ومن غيره، في سعيها إلى مفهمة ظاهرة الحب؟ على أن هذا التنسيب في السؤال ليس من قبيل المنحة الفلسفية للفن، فلا نسهون عن أن الذي نبه إلى ضرورة إعادة اختراع الحب إنما هو شاعر، رامبو. وبعبارة أخرى، لقد كان الانتباه إلى هذا التهديد شعرياً، وليس فلسفياً. لكن إذا كان (باديو) يتأول عبارة رامبو بشأن إعادة اختراع الحب على أنها ما يقتضيه تهديد الحب وجودياً بسبب هيمنة التدبر الاستهلاكي له؛ فإنه يمكن تأويل هذه الوصية على نحو آخر يتمثل في أن بلاغة الحب، أدبياً وفنياً، قد استُهلِكتْ حتى تحولت من فرط الابتذال إلى ضرب من (الكيتش).
يكاد الناس جميعاً يتفقون على كون العمل الفني معقوداً على (الحب)، وهذه بداهة مألوفة يتعذر إنكارها، ولكن ما أن نتلفت إليها بإعمال النظر حتى تنقلب أمراً غريباً. وليست الغرابة في أنه يمكن إنكارها، فذلك أمر يشق على أي توجه فكري أن يقدم عليه لعلائق تصل بين (الفن) و(الحب) صلة الماء بالماء. ولكن الغرابة تكمن في عدم معرفة الأصول التي كرست هذا الانتساب المتعاكس بينهما: فما الذي يجعل من الحب شرط إمكان تحقق الفن؟ وما الذي يجعل من الفن الوسطَ الذي يلتقط منه الحب أكثر دلالاته أخذاً بالألباب؟