الحب مفهوم مجرد غير متصل بالزمان والمكان في أصله البنيوي، ثم يتشكل - كغيره من المفاهيم المجردة - بتصورات صاحبه ويصبح سلوكاً يقوم به ويؤثر عليه، أو لنقل بمعنى آخر، يصبح سقفاً لكثير من الصور التي تدخل في حيزه.
يتحول الحب من أصله المجرد إلى سلوك بسبب تصور صاحبه كما قلنا، وتصوره يتألف من تاريخه كاملاً سواء الذي يعرفه = يعيه، أو الذي لا يعرفه = لا يعيه، وجماع الوعي واللاوعي كما يؤكد كارل يونغ هو الذات، ووفق ما ذهب إليه يونغ وغيره فإن التصور نابع من الذات.
والذات تجمع كل ما دخل إلى ذهن صاحبها عبر المدركات الحسية، أو الأخبار، أو البنى الإدراكية الأصلية كالغرائز والموروثات الجينية، وبعد مجموعة عمليات إدراكية معقدة تنتج الذات مخرجاتها عبر سلوكيات يصعب فهمها عند أول تماس معها، لكن تحليلها الدقيق والمطول يفضي لمعرفة كيفية تكونها، وقد لا يصلح المحلل إلى معرفة جيدة ببنية السلوك بعد تحليله، ووفق ما سبق تكون مفاهيم الفرد المجردة معقدة للغاية ويصعب معرفة كنهها وكيفية بنائها، ولست أبالغ إن قلت، إن الحب والحرية هي أعقد المفاهيم الإنسانية، وما دمنا خصصنا هذا المقال عن الحب فسنتجاوز الحديث عن الحرية ونبقى في عوالم الحب.
قد تكون أبرز علامات الحب هي إلغاؤه الزمن، يقع المحب في اللامتناهي فلا يعود الزمن ذا قيمة، ومتى صار داخل الزمن فقد تغير من الحب إلى التعود الجميل، أو لنقل إنه انتقل من مفهوم الحب إلى مفهوم الجمال، وهنا نسجل أول ملاحظة للكشف عن ماهية الحب وهي التعالق بين الحب والتعود، فليس كل ما يسمى حباً يصدق عليه هذا الوصف، فقد يكون تعوداً جميلاً يألفه صاحبه ويحبه، فهو يحب الفضاء الذي يكوّنه هذا التعود وليس الشخص الذي يشاركه هذا الفضاء، وحين النظر لصعوبة الفصل بين الفضاء ومن فيه نعلم أن مفهوم الحب سيزداد تعقيداً ويصبح المتلقي أو الشاعر بالحب لا يكاد يسلم بهذا الفصل، ويزداد حجاجه كثرة للتأكيد على صحة شعوره ودقة صرفه لمن يستحقه، وكلما زاد حجاجه زاد بعده عن تحليل الفرق بين الحب والتعود الجميل، فيبقى مسافراً لمستقبل لا يعرفه أو لا يعرف أين سينتهي لكنه يفاجأ بأحد أمرين:
-1 اكتشافه أن محاججته في تأكيد حبه جعلته يحب محبوبه فعلاً، بمعنى آخر، اكتشف أنه للتو أحب محبوبه!
-2 اكتشافه أن ما يشعر به ليس حباً إنما تعبئة فراغ أو إسقاط نفسي قام به ليعالج نفسه، فيكتشف أن المحبوب ما هو إلا طبيب أو معالج وليس محبوباً.
لعل هذا سببه أن الحب يُبنى على القلق، فالمُحب يقلق على محبوبه ومنه، يقلق عليه من كل شيء قد يصيبه فيحاول إحاطته بالعناية حتى من الكلمات التي قد يسمعها أو المشاعر التي قد تدخله، يقلق عليه كي لا تتغير عواطفه تجاهه، فلو دخله شعور سيئ لتغير مزاجه فأثر على تواصله معه، أليست هذه أنانية؟! ويقلق منه فيشعر أن المحبوب قد يغادر حياته لأي سبب فيصيبه هذا بإحباط ونفس مكسورة، وحين تزايد هذا القلق يتحول الحب إلى مأساة تورد صاحبها المهالك، وتحول حياتهما إلى جحيم وكآبة (ناقش ديفيد باس هذه الحالة في كتابه: القاتل بجوارك وأكد أنها قد تنتهي بقتل المحب لمحبوبه وهي من قبيل: ومن الحب ما قتل)، ويمكن توصيف هذا بما ذكره دوستوفيسكي في رواية الشياطين بأنه حب قائم على الكره، إن اقتربنا نتعذب، وإن ابتعدنا نتعذب، وهذا التناقض دليل عملي على كثافة القلق في حالة الحب هذه، والحقيقة أن غالب حالات الحب كهذه.
الحب حالة جبرية في أولها ووسطها ومنتهاها، ليس باختيار الفرد أن يُحِب أو يُحَب، هو كما قال لاكان: (أن نعطي ما ليس لدينا إلى من لا يريده)، فالحب ليس لدينا أي ليس جزءاً أصيلاً منا بل يأتي نتيجة تاريخ نفسي، ثم نعطيه من لا يريده وهو الذي كان خلواً منه لم يوجد في الحياة كي يحصل عليه، فيتحول الحب إلى سردية يستحيل معرفة منطلقها ولا تفاصيلها ولا جزئياتها، هو تمثيل للاوعي ولا دخل للوعي بها، لذلك تجد المحبين ينسجان قوانينهما الخاصة بهما دون النظر لقوانين العرف العام كالحرام والحلال والعيب وخلاف القانون، كأنهما في عالم خاص بهما يخلقانه كما يريدان دون تدخل من أحد غيرهما مهما كان قربه منهما، ولعل هذا يبين السبب الذي يُحول الحب إلى سبب لخسارة النفس حين فقده، ففقد المحبوب هو فقد الهوية والقدرة والسلطة التي بهم يكون الفرد قادراً على تشكيل مفاهيمه المؤسسة لواقعه، بمعنى آخر، خسارة الحب هي خسارة الواقع وتدميره.
الحب يحاكي اللذة الغريزية في الإنسان، وهي لذة طبيعية بعيدة عن التصنع ولا يمكن خروجها خروجاً طبيعياً صافياً إلا مع المحبوب، فهي معه تخرج دون أذن تصنع، لذلك يشعر المحب بجمالها فتبعث فيه نشوة الإدمان عليها كي يقترب من ذاته، وقد تكون اللذة مع غير المحبوب لكنها مع المحبوب مختلفة اختلافاً تاماً لانبثاقها من بُنيته النفسية فتتحول إلى إدراك شامل يحوي كل حياته، وهذا الملح الطبيعي يحول المحبوب إلى حياة كاملة تعني المحب عن ما سواه.
الحب عهد بين اثنين، كل واحد منهما أعطى الآخر نفسه وأتمنه عليها، فهو بذلك شعور كامل خالص يصل حد التضحية، لكن التضحية ليست كما يُشاع إنها للآخر، بل هي للنفس لأن دفاعي عن محبوبي هو دفاع عن نفسي التي وهبتها له، وهذا ما يجعل الحب يبقى ويزداد ويشتعل كلما زاد القرب أو البعد، فالحب نوع من الفداء الذي يخلفه قلق واتصال وانفصال واهتمام وكدر وغيرة وكل المشاعر بلا استثناء تتخلل الحب لأنه يعبر عن النفس، وكلما كان المحب متزناً قبل حبه صارت قصة حبه متزنة، وكلما كان مضطرباً قبل الحب صارت قصته وسلوكه مع محبوبه مضطربة، فالسوء الذي يحدث بين المحبين هو نتيجة النفس قبل الحب وليس نتيجة الحب نفسه، وحين العلم بهذا نفهم الحب باتزان ولا نحمله ما ليس فيه.
الحب يمارس غالباً بطريقة التقليد الثقافي، فما حدث للآخرين سيحدث معنا ثم نسميه حباً، كأننا نُجبر أنفسنا على تصنيف ما نشعر به ونسميه حباً دون التأكد من صدق مشاعرنا، مجرد تطابق ما حدث معنا ومع الآخرين يجعلنا نصنفه بذات التسمية والوصف، ثم نكتشف أننا لم ندخل عالم الحب ولا عرفناه إنما كان وهماً كما يقول سبينوزا الذي أكد على اعتبار غالب قصص الحب وهماً لأنها تنبع من التقليد لا التأكد بحقيقة الشعور الذي يستحق وصفه بالحب، وهذا يجعلنا نبتعد عن العجلة في تصنيف مشاعرنا مهما كانت تواقة للحب والحياة في فضائه، بل لابد من النظر إلى خلونا من الاضطراب الذي قد نُسقطه على غيرنا باسم الحب وهو في الحقيقة فراغ وجداني واغتراب نفسي لا أكثر.
في زماننا ظهر نوع حديث من الحب، أو هو شعور يسمونه حباً لكنه ليس كذلك، حب حسي يعتمد على المدرك الحسي البصري والسمعي ثم يُصنف حباً كي يعرف كل طرف كيف يعامل الآخر، الإشكال أن الذهن سيُنزل ما يعرفه عن الحب على هذا الشكل الجديد، فالدماغ مجبول على التصنيف كي يحفظ البقاء لصاحبه، فلا يجد غير وصف الحب يناسب هذه الحالة، فيعطي كل طرف ما يستلزمه الحب للآخر، فيعطيه الاهتمام والتغذية الروحية والمساندة والوقت والتغزل والدعاء والتعزيز النفسي، لكنه يبقى بالصوت فلا يتجاوزه إلى فعل حدثي كاللقاء وما يليه من تقارب جسدي، فيبدأ هنا القلق والتعلق المَرضي الذي يجعل كل طرف لا يستطيع الاستغناء عن الآخر وفي ذات الوقت لا يستطيع الاقتراب منه فيتحول الحب إلى عذاب نفسي، هو كالعطشان الذي يرى الماء ولا يقدر على شربه، وهذا يدفع أفراد المجتمع إلى إشاعة قصصهم البائسة فيتحول الحب إلى مفهوم سلبي، يسلب صاحبه نفسه ولا يعطيه غير الضياع والتعب، وكل هذا يخلق تضخماً نفسياً ولغوياً نهايته خطيرة على الفرد والمجتمع.
الحب المعاصر تأثر بالخطابات الافتراضية وصار جزءاً منها، وصار المحب والمحبوب يمارسان الشعور لكنهما لا يشعران بالشعور، وبين الأمرين فرق كبير، فالممارسة تعني الفعل القصدي المبني على محفوظات اختارها صاحبها لتبقيه متزناً، أما الشعور بالشعور فهو العيش فيه دون النظر لما يقع خارجه، والحب الحقيقي المعهود منذ عصر الإنسان القديم هو الذي يقع الشعور في الشعور ثم ينتج عنه ممارسة، لا أنه ممارسة تؤدي للشعور، ولذا نجد الحب المنتشر حالياً لا يخلو من القلق المَرضي الذي يتجه لتوقع الفراق في كل لحظة، والخوف من تفشي سريته، ونقص حضور الجسد أو انعدامه، وطغيان الجهل بالآخر وما يحيط بحياته إلا القليل مما يظهر، وغياب تام لتاريخ كل طرف عن الآخر، وكل هذا سيزيد الحنق بينهما ويحول التواصل بينهما إلى حلبة إستراتيجيات تنتهي غالباً بكسرهما شعورياً.
أخيراً، الحب حكاية يصعب الحديث عنها!