كأي شيء في هذه الحياة يحتاج أن تهب عليه رياح التغيير والتطوير، كان للمجال الثقافي نصيب من هذه الرياح التي ربما جرت بما لا يشتهي البعض من المنتمين إلى المجال الثقافي نفسه. بدايةً دعونا نعود بالذاكرة إلى الماضي حين كان المعنى الثقافي محصوراً في (المنبر) سواء في الأندية الأدبية أو جمعيات الثقافة والفنون، أو مختلف الجهات التي كانت تقيم الأمسيات الأدبية والثقافية بصيغة منبرية خطابية.
حسناً.. نتفق جميعاً أنه لا ينبغي أن يندثر ذلك التراث الثقافي شكلاً ومضموناً كجزء من التراكم المكتسب في رصيدنا الثقافي. ولكن ما الذي حصل بالضبط؟ وتحديداً حينما انفجر المعنى الثقافي إلى معان متعددة تتجاوز مفهوم المنبر إلى: الطهي، الأزياء، المعمار، الفنون الأدائية، الموسيقى، التراث غير المادي.. إلخ. والتي تشكل بمجموعها هوية المجتمع وشخصيته الثقافية. الذي حصل هو اتساع، وربما انفجار، للمعنى الثقافي، وتشظي مفهومه التقليدي المتمثل في أمسيات ثقافية أو فنية، ليس هذا فحسب، بل تحول المجال الثقافي إلى منظومة قابلة للاستثمار، بعد أن كان ذا شكلٍ رعوي ترعاه الدولة عبر مؤسساتها الثقافية الرسمية. هذا اللاعب الجديد المتمثل في (عنصر الاستثمار) من المؤكد أنه سيقرر مصير الثقافة ويأخذ بيدها لتنتج بدورها فعالياتها (ذاتياً) دون الحاجة لإدارة المؤسسة الرسمية ذات التحرك البطيء والأداء المترهل في بعض جوانبه. هذا الأمر تحديداً -تحويل الثقافة لبيئة استثمارية- هو ما حدا ببعض المثقفين لإبداء مخاوفهم من أن تطغى غايات الربحية الاستثمارية على حساب الجودة والرصانة والرسالة الثقافية.
بتقييم شامل وسريع للحالة الثقافية في هذه المرحلة/ مرحلة الفعاليات، سنجد أن الجانب المنبري لمفهوم الثقافة -هو نفسه- قد اتسع بشكل غير مسبوق، ففيما مضى كانت تقام أمسية واحدة وتصل أخبارها إلى كل البلد، أما اليوم ففي كل حي هناك مقهى (شريك أدبي) يقيم العديد من الأمسيات الثقافية والأدبية والدورات القصيرة وورش العمل. تحظى هذه المقاهي بدعم من وزارة الثقافة في جانب الأنشطة المنبرية ذات الطبيعة الثقافية والأدبية. إلا أن هذا الاتساع والانتشار للنشاط المنبري في تلك المقاهي صار حالة يومية لم تعد تغري - كما في زمن الندرة- بالرصد والمتابعة الإعلامية ومتابعة الفاعلين في حقل الثقافة، حتى إن بعض تلك المقاهي لا تحرص على تصوير وتوثيق فعالياتها. وفي ذات الوقت هناك طفرة أخرى في جانب الفعاليات الترفيهية وكذلك الثقافية (غير المنبرية) كمهرجان الطعام، والبن، والعسل، وأسبوع الموضة.. إلخ.
الذي حصل هو أن كثيرين ممن يحملون ذاكرة (حقبة المنبر) لا يزالون يتذكرون (الصوت العالي) للأنشطة المنبرية وأصداءَها التي كانت تحدثها آنذاك، بسبب غياب أية أصوات أخرى ذات شكل ثقافي. أما في هذه المرحلة، وبسبب الجلجلة الثقافية لمجالات كانت شبه مغيبة تماماً سابقاً، فإن هذا هو ما جعل بعضهم يتوهّم أو يخيل إليه أن الثقافة قد ضاعت أو ستضيع تحت سطوة الاستثمار الحاصل في أنشطتها.
التطوير لا يعني القطيعة مع الرصيد الثقافي للأمة، بل تجب صيانته، وتكريم الرموز ممن خدموا الثقافة، ولكن علينا أن ندرك أيضاً أن هذه الحقبة قد حصل فيها انتشار أكثر اتساعاً للمفهوم الشامل للثقافة وارتداداتها المحمّلة بعناصر الوعي بالذات والهوية بين عامة الناس بشكل غير مسبوق.
هذا التوصيف يقودني إلى المناداة بتصميم مشروع ثقافي عربي يشمل البلدان العربية كافة، على النحو الذي يقوده نموذج الثقافة في السعودية، بما يحقق أحلام الثقافة العربية المنتظرة.