مجلة شهرية - العدد (586)  | يوليو 2025 م- محرم 1447 هـ

نعيمة.. أدب وحكمة

ميخائيل نعيمة علامة فارقة في الفكر والأدب العربيين، تُرجمت أغلب مؤلفاته إلى العديد من لغات العالم، فهو الأديب والحكيم المشهود له بذلك، فقد جادت قريحته المعرفية لينطق بالحكمة، وينثرها في مؤلفات صاغها من تجاربه الحياتية المملوءة بالأحداث والتجوال، كتبها بمداد العمر، وتنضح من معين ذاكرة ثرّةٍ، غنية في متونها، ينهل من معينها كل طالب علم وباحث، أو متذوق معرفة، ومن حظي بالحكمة، فقد حظي بالشيء الكثير، وجاء في التنزيل الحكيم: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً).
الحكيم (نعيمة) ناقد وشاعر وقاص ومسرحي وفيلسوف وصوفي، تنوعت مؤلفاته بين الأدب والحكمة والرواية والخواطر والتجلّيات، التي تعبر عن شخصية فذة، أغنت المكتبة العربية بنتاجها الفكري والثقافي، ونذكر منها: الغربال- كان يا مكان- الدروب- مذكرات الأرقش- في مهب الريح- سبعون - جبران خليل جبران- الآباء والبنون- في الغربال الجديد- كرم على درب- نجوى الغروب- الأوثان- النور والديجور- المراحل- نعيمة وأحاديث الصحافة- رسائل من وحي المسيح- ومضات - شذور وأمثال - الجندي المجهول- أما (همس الجفون) فهي المجموعة الشعرية الوحيدة التي وضعها بالإنجليزية، وتمت ترجمتها للعربية، وتراوحت تلك القصائد بين الحكمة والأدب، تحمل بين ثناياها هموم المجتمع ومآسيه، ناطقة ما يجول في خاطره، من رسائل موجهة للقارئ تنتظمها المعايير الأخلاقية والقيمية، التي تدعو إلى التمسك بها بقوة ليبقى المجتمع محافظاً على تماسك بنيانه، وتقوية روابطه، ومن هذه القصائد (قصيدة الطمأنينة) يقول فيها:
سقف بيتي حديد
ركن بيتي حجر
فاعصفي يا رياح
وانتحب يا شجر
(نعيمة) في كتابه (الأوثان) الكثير من القضايا التي يتناولها تتعلق بعلاقة الإنسان ومنظومته الاجتماعية والأدبية ممزوجة بالعادات والتقاليد التي تشكل جلَّ حياته، ولا يستطيع أن يتجاوزها، وكأنها أوثان محكوم على الإنسان الانخراط فيها دوماً، ولكل زمان أوثانه، بعضها قديم تتوارثه الأجيال المتعاقبة، ولا ينسى (نعيمة) أن يتناول وثن السلطة أيضاً، حيث المجتمع العربي متخم بهذا النمط، فيقول: (حذار من وثن السلطان، وحذار من حليف له ألّهوه باسم (الرأي العام)).
مؤلفات (نعيمة) يجد فيها القارئ سمات انتزعت من وجدانه، وقد صاغها بأسلوب حكمة وأدب رفيع، وينظمها في أدق تفاصيل الحياة، وهي تلك الدروب التي يسلكها في محاكمته للأشياء أو البحث فيها، وما دوّنه في مؤلفه بعنوان (الدروب) يتناول فيها قضايا إنسانية واجتماعية، هي تلك الدروب المتشعبة والمشبعة بالآلام والمكابدات الإنسانية، ولا يجد حرجاً في محاكاة الكائنات الأخرى في أفعالها، وما يتقاطع مع أفعال الإنسان وممارساته أو يشكل درساً من دروسها، لتكون عظة وعبرة للإنسان، ولكن يحدوه الأمل الكبير في قدرة الشباب لكي تتحول إلى فعل، بما يحمله الشباب من سمات التجدّد والانبعاث، وفي الدروب مقالة له بعنوان الشباب (ثروة وثورة) (لولا هذا التجدد لكنّا ما نزال حتى الآن في الكهوف والمغاور، ولما كانت هذه المدنيات والحضارات نشيدها ونهدمها ثم نشيدها ونهدمها).
كثيراً ما كان يلازم حياة الناس، ويعمل على التقاط ما في نفوسهم من هواجس، وما ران على قلوبهم، وفي منظومته المعرفية يتناول كل العلوم، ويستنبط منها الجوانب الإيجابية، ويقرؤها بعمق وتحليل، يدفعه ذلك امتلاكه للمعرفة والحكمة وقدرته على مناقشته الحجة بالحجة، واستحضار القرائن أمام القارئ من دون أي عناء، ولم يكن يخلص إلى التلقين، بل يسعى إلى المحاكمة، وتفعيل الفكر المستلب بالنظم والتقاليد والأعراف دون التدقيق فيها، أو محاكمتها، ففي مؤلفه (الدروب)، يقول: (إننا نتوارث التقاليد والنظم والعوائد والعقائد جيلاً بعد جيل، والتقاليد والنظم والعوائد والعقائد الموروثة من شأنها أن تتحجر وتتعفن وتنقلب تعصباً وكرهاً في فكر الوارث وقلبه ما لم يهضمها وجدانه، ويجعلها دماً من دمه، ولحماً من لحمه).
كتاب (سبعون) في أجزائه الثلاثة من كتبه المميزة والشهيرة التي تلخص حياته ومسيرة حياته الإبداعية، دوّنها (نعيمة) وفق خبرته وخلاصة تجاربه المعرفية ممزوجاً بتاريخ عصر ومجتمع مثقل بالمعاناة الإنسانية بأسلوب أدبي شيق وقلم فنان وفيلسوف مبدع في صياغته الأدبية وقد لاقى انتشاراً واسعاً بين أوساط المثقفين ومتذوقي القراءة، بما فيها من متعة واسترسال ولغة جميلة يتحدث بها عن حياته وعن الهجرة وظروفها، كما يتناول صداقته مع جبران خليل جبران والمراسلات بينهما، ويشير في هذا المؤلف بأنه لم يستطع رصد كلّ تفاصيل مسيرته، فيقول: (إنّك خادع ومخدوع كلما حاولت أن تحكي لنفسك أو للناس حكاية ساعة واحدة من ساعات عمرك، لأنّك لن تحكي منها إلا بعض بعضها، فكيف تروي حكاية سبعين سنة).
(نعيمة) قام بواجبه المقدس في تقويم نفسه أمام نفسه وأمام الآخرين، وتقديمه لنفسه وللآخرين الغذاء الروحي المفيد، بأن يكون صالحاً لا فاسداً، فكانت له شخصية مميّزة في الأثر والتأثير، وفي الجانب الإبداعي الذي يطفو عليه الفكر والحكمة، فحياته نقطة مضيئة لما قدمه من غنى لمسيرة الفكر الإنساني، ليحتل مكانة متميزة بين أبناء جيله، ليكرس قدوة لمن جاء بعده، بما تركه من نتاج أدبي كان معيناً لكلّ باحث وناقد، أو متتبع للشأن الفكري والإبداعي، ولمن أراد أن يستزيد منه، عبر تلك الحكم الفلسفية الحياتية التي دونها في مؤلفاته، فكانت تضجُّ معرفة وبرهاناً فكرياً، فآراؤه لا تحتاج إلى دليل آو قرينة، لأنه يقدم المفارقات التي لم ينتبه إليها الإنسان عموماً في مفاصل معينة من حياته، وقد أشار إليها في الكثير من مؤلفاته المذكورة سالفاً.

ذو صلة