مجلة شهرية - العدد (586)  | يوليو 2025 م- محرم 1447 هـ

الخبز.. عطاء الأرض وخيرها

لطالما ارتبط موضوع الخبز بالتقديس والخشوع، باعتباره نعمة وهبة من رب العالمين. ونحن بالفطرة التي تعودنا عليها كنا إذا وجدنا قطعة من الخبز على الأرض نقبلها بكل تلقائية ونرفعها للجبين ومن ثم نضعها في مكان آمن وأمين. وكلمة خبز قد تعني المستدير، والفعل خبز يأتي بمعنى ضرب: أي ضرب العجين وفرده تمهيداً لخبزه. ومازالت أنواع منه حتى يومنا هذا تستخدم قرباناً في الأديرة والكنائس، فعبارة السيد المسيح (أعطنا خبزنا كفاف يومنا) تعبيرها عميق، بأن نطلب ونكتفي بما نحتاجه من الرب ونتقاسم الزاد مع أقراننا من البشر. وهذا التقديس له جذور عتيقة ضاربة بالتاريخ الإنساني، تعود إلى عبادة الإله داجون أو داجان التي انتشرت أساطيره في منطقة سوريا الطبيعية، وهو اسم كنعاني قديم ومعناه القمح، وبذلك يصبح المعنى إله القمح، ويقال إنه والد الإله بعل، وتدل بعض الألواح المكتشفة في أوغاريت أنه يعني سمكة أيضاً، مما يدل على علاقته بصورة أساسية بالغذاء، في إشارته للمعنى الدال على تحول السكان من الزراعة إلى أعمال البحر والصيد، إذ تحول داجون في الأسطورة من إله زراعي إلى إله بحري. وقد عرفت بعض القرى في فلسطين باسم بيت دجن، ولا غرابة أن اللهجة العامية في قرى الساحل السوري ماتزال تحتفظ ببعض مفرداتها بما يدل على تجذر الفكرة بالمكان على غرار (والله لم أذق الدجن)، أي (لم أذق الخبز أو الطعام)، ولطالما ترددت هذه العبارة أمامنا من معارف وأقارب.
وما المعنى البعيد الرمزي لحكاية قابيل وهابيل إلا صراع يشي بانتصار الزراعة على الرعي، أي الاستقرار والتمدن الذي تمنحه الزراعة. وزراعة القمح من أقدم الزراعات في التاريخ، إذ يروى بأنها عرفت منذ ثمانية آلاف عام قبل الميلاد، ومنذ العصر الحجري عرف البشر استخدام الصخور بطحن الحبوب وتحويلها إلى خبز، أي الغذاء الذي يبقينا على قيد الحياة، ولذا سمّاه المصريون (العيش)، أي ما يرادف الحياة، ويذكر أنهم كانوا السباقين بصناعته بعد السومريين، وبعدها انتقل إلى اليونان والرومان، ومنها إلى باقي البلدان في العالم، وقد ظهرت آثار الحبوب الأولى في قارات عديدة، إذ ازدهرت حبوب القمح في العصور القديمة في سهول (الهلال الخصيب)، الممتدة من العراق إلى سوريا ولبنان وفلسطين والأردن.
وما حكاية النبي يوسف عليه السلام ودوره في ابتداع طريقة لتخزين القمح من أجل سنوات الجفاف في الأراضي المصرية؛ إلا صورة عن التفكير العقلاني المستند على قراءة الظواهر الطبيعية، في التأكيد على أهمية الأمن الغذائي في حماية البشر من أخطار المجاعة، لأن الزراعة المعتمدة على الطبيعة ومياه الأمطار تحفل دائماً بالمفاجآت غير السارة، لذا كان من البدهي لذوي البصيرة الاحتياط لدرء مثل هذه العواقب وتأمين الاكتفاء الذاتي للجماعات الإنسانية. ولأن الخبز احتل مكانة الغذاء الأول في العالم؛ فقد ارتبطت به الحركات الاجتماعية للتعبير عن معارضة شعبية تطالب بواجب الحكومات في تأمين الخبز والأمن الغذائي لشعوبها بالدرجة الأولى، وما عبارة ماري أنطوانيت الشهيرة في استفسارها عن المحتجين المطالبين بالخبز أثناء الثورة الفرنسية المعروفة عندما سألت مستشاريها: (ما سبب غضب الشعب؟)، فكان الرد واضحاً: إنهم لا يجدون الخبز، فردت (ليأكلوا الكاتو)، العبارة التي كانت دليلاً فاقعاً وحاداً عن الهوة السحيقة التي تفصل بين الطبقات الاجتماعية والتناقض الطبقي الموجود في تلك البيئة، وبالتالي انفصال الطبقة الحاكمة عن قضايا الشعب.
الخبز في الأدب
تجلى الارتباط بين رغيف الخبز وسبل العيش في انعكاسه على الآداب الإنسانية، فقد عنون محمد شكري روايته الأشهر بـ(الخبز الحافي)، في تكثيف اقتران مفردتين تعكسان قهراً اجتماعياً وجوعاً مزمناً، لتصور انكشاف القاع الاجتماعي بكل بؤسه. كذلك احتشدت رواية (خبز على طاولة الخال ميلاد) للّيبي محمد النعاس، وهي الرواية الحائزة على جائزة البوكر لعام 2022؛ بمعانٍ دافئة عن أساليب صناعة المخبوزات، عبر بطله الذي نشأ في مخبز أبيه، حيث رسم للقارئ لوحة حميمية عن علاقته بالخبز وطريقة تخميره وكيفية تنفس البخار فيه، وكأنه كائن حي، مضمناً فيه شيئاً من روحه في عملية الخبز، حيث صور إنضاج الخبز كعملية خلق نتبادل معه الحياة حين تناوله.
كذلك فإن ورود الخبز في الأمثال الشعبية له أهمية بالغة، تعكس تغلغله في الموروث الشعبي لدى الأفراد، مثل: (لخبز الحاف يعرض الكتاف)، و(فلان خبزه على ذيله)؛ تعبيراً عن قلة الوفاء؛ لأن من بينه وبينهم خبز وملح رابطة أقوى من الدم، هي رابطة العشرة والألفة والوفاء.
كما كان البحث عن الغذاء ومصادره مسرحاً للصراع والهيمنة في العالم، مما هيأ للعلاقة الوثيقة بين لقمة العيش والثورات الاجتماعية والانتفاضات ضد الظلم والجور ارتباطاً كبيراً، فقد عبر شاعر فلسطين محمود درويش عن الموضوع بقوله:
(أرى ما أريدُ من الفجرِ في الفجر... إني أَرى
شعوباً تُفتِّشُ عن خبزها بين خبز الشعوبْ
هو الخبزُ، يَنْسُلُنا من حرير النعاس، ومن قُطْن أَحلامنا
أَمِنْ حَبَّة القمح يبزغُ فجر الحياة.. وفجرُ الحروبْ؟)
وهو درويش ذاته الفلسطيني الذي أعطى للخبز معنى آخر اتصل فيه الحب بالحنين والشوق لخبز الأم وقهوتها؛ القصيدة التي انتقلت إلى الموسيقى مغناة من قبل مارسيل خليفة:
(أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي
وتكبر في الطفولة يوماً على صدر يومي
وأعشق عمري لأني إذا مت أخجل من دمع أمي).
نعم في عصرنا الحالي كان التضييق على زراعة القمح أحد الوسائل التي حوربت بها الشعوب، فقد فرضت على بعض الدول اختصار زراعة القمح إلى أضيق حيز مقابل أن تتلقى مساعدات أجنبية، على أن تستورد الدقيق من الخارج، والهدف البعيد حصار الشعوب بلقمة عيشها، وكذلك ليست صدفة تلك الحرائق التي شملت مناطق القمح في منطقة الجزيرة الشامية، فهي أساليب خبيثة استغلت فوضى الأحداث لتمرير مشاريعها الاستعمارية بإفقار المنطقة وتعزيز تبعيتها للخارج وإيقاف تطورها وإخضاعها ضمن برامج الهيمنة والسيطرة.
وتتصاعد الأهمية الاستثنائية للقمح وعلاقته برغيف الخبز لكونه المحصول المتعلق بقوت الشعوب، ناهيك عن العلاقة الخاصة التي تربط الإنسان العربي به، وهو القمح الذي عرفت له أسماء كثيرة، فمنه الحنطة والبر والجوارش والقميحة، وهو نبات من الفصيلة النجيلية، ينمو على شكل سنابل منتظمة الحبوب، لطالما كان شكلها عنواناً للسلام والمحبة، ولطالما كان شعاراً للكثير من الجمعيات والمؤسسات المتعلقة بذلك. ويبقى للقمح وللخبز علاقة حميمية خاصة بالإنسان، ارتبطت بأحاسيسه وبوجدانه وغذاء يومه، نظراً لتاريخه الطويل الممتد عبر القرون رغم انتشار البدائل الغذائية وأصنافها على مستوى العالم.

ذو صلة