مجلة شهرية - العدد (586)  | يوليو 2025 م- محرم 1447 هـ

أبو إسحاق الكندي مؤسساً للعلاج النفسي الطبابة في منابتها الفلسفية

العلاج النفسي الحديث وبخاصة فرع منه يسمى العلاج المعرفي السلوكي ينهض على فرضية مفادها أن سلوك المرء وانفعالاته تحكمها الأفكار الثاوية في أعماق اللاوعي التي توجهه في العالم الموضوعي وتسير ردود أفعاله على الأحداث التي يتفاعل معها ومن ثم الحالات الشعورية التي تعتريه بفضل ذلك. وتأسيساً على ذلك فإن المرء متى ما تمكن من تبين هذه الأفكار ومعرفتها يصبح قادراً على تصحيح الخاطئ والمغلوط منها ومن ثم تغيير المشاعر السيئة التي تكتنفه وتعود عليه بالضيق.
في اللوحة الزمنية لنشوء العلاج النفسي بمفهومه العريض بمقدورنا اعتبار الفيلسوف أبا إسحاق الكندي، صاحب الفضل في توظيف الأفكار الفلسفية لعلاج الإنسان من اعتلالاته النفسية، والنظر إليه بوصفه من المؤسسين الأوائل لما يطلق عليه راهناً العلاج النفسي. ويعد أبو إسحاق الكندي المسمى في التراث اللاتيني (إلشنديو) رائد الفلسفة في العالم الإسلامي، وله اليد الطولى في توطين الفلسفة الإغريقية عربياً وإسلامياً، وشروحاته لمؤلفات أفلاطون وأرسطو وبحوثه في علوم النفس والضوء والموسيقى يضربان عميقاً في المنجز الفلسفي الغربي.
من المحزن أن الكندي وضع مؤلفات متعددة تربو على 230 كتاباً لم يصل إلينا منها سوى النزر اليسير، ومن بين ما كتبه رسالة موجزة بعنوان (الحيلة لدفع الأحزان)، وكما يشير العنوان بوضوح ودون مواربة فإن مضمون الرسالة يشرح الأسلوب أو الطريقة التي من خلالها يتمكن المرء من التخلص من مشاعر الحزن والكآبة، وكلمة الحيلة مصطلح واسع الاستخدام في العلوم القديمة يعادله في المعنى مصطلح ميكانيزم في علم النفس الحديث. وأهمية هذه الرسالة الموجزة التي وضعها الكندي لصالح أحد أصدقائه أنها تتضمن النواة الصلبة لتقنيات العلاج السلوكي المعرفي كما نعرفه راهناً، وتعد في الوقت عينه أول مؤلف أسس لما بات يعرف حالياً بكتب تنمية الذات.
لربما غاب عن الكثيرين قدم أسس العلاج المعرفي السلوكي للأمراض النفسية بحيث يظنون أن بدايته كانت في إرساء عالم النفس الأمريكي بيك لخطوطه العريضة، غير أن رسالة (الحيلة لدفع الأحزان) ترسم بشكل مختصر نموذجاً معرفياً متسقاً للعلاج المعرفي السلوكي بالقول إنه ينهض على فرضية أن انفعالات الناس وسلوكهم تتشكل من خلال الكيفية التي يدركون فيها الأحداث. إذ بحسب ما يوضح الكندي فإن ما يحدد الكيفية التي يشعر بها الناس ليس مرتبطاً بطبيعة الموقف الذي يلفون أنفسهم فيه أو ما ينتج عنه بقدر ما هو مرهون بالطريقة التي يترجمون بها ذلك الموقف. وبعبارة أخرى، فإن الكيفية التي تتشكل فيها مشاعر المرء وثيقة الصلة بالطريقة التي يفسر فيها الموقف أكثر من طبيعة الموقف نفسه. فعلى سبيل المثال المريض الذي يشكو من القلق أو الاكتئاب غالباً ما يكون سلبياً في تفسيره للمواقف التي يختبرها ويتعرض لها. وتبعاً لذلك فإن لب النموذج الذي يقدمه العلاج المعرفي السلوكي سمته الوعي بالكيفية التي يفكر فيها المرء بالأشياء ومضمون تلك الأفكار.
يستهل الكندي وصفته للعلاج النفسي بشرح لمصطلح (الحزن) ويوضح بأنه ذو طبيعة روحية ينبثق عن حالة من الضيق الشديد وخيبة الأمل والمعاناة، وبأن حواس المرء خادعة وما يتولد عنها من خبرات بالرؤية والسمع وغيرها معرض للاندثار والزوال. ويرسم الكيفية التي يتعامل بها المرء مع نوازل الحزن من خلال تمييز الحزن نفسه ونسبته إلى مصدرين، فهناك ما ينتج عن أفعال المرء نفسه وآخر يكون مصدره أفعال الآخرين.
يمضي الكندي في القول فيما يتعلق بأشكال المعاناة التي تسببها أفعالنا أنه يجب علينا ببساطة التوقف عن فعلها. ومع ذلك، إذا كان سبب معاناتنا له علاقة بأفعال شخص آخر، يجب أن نسأل أنفسنا ما إذا كان حلها متروكاً لنا أم لا. إذا كان الأمر متروكاً لنا، فيجب علينا حلها. إذا كان الأمر متروكاً لشخص آخر، فعلى الأقل، يجب ألا نسمح لأنفسنا بالحزن قبل وقوع الحدث.
ويسبر الكندي مجاهل النفس البشرية بالقول إن المرء تغمره المشاعر حين يترقب مجيء نعمة مادية أو فراق شخص رحل عن الدنيا، ويشدد على أنه حين يتعلق الأمر بمكابدة الحياة فإن محدودي التفكير يفتقرون إلى الشعور بالامتنان والقبول بتصاريف الحياة بحيث يصبحوا عاجزين عن احتضان المسرات والتخلي عنها على نحو حكيم. ويقترح الكندي ترياقاً لذلك، في العمل الدؤوب على تهذيب السلوك عن طريق اعتناق العادات الحسنة وتمرين النفس على التمسك بها، وإبداء الرضا تجاه كل موقف ترميه الدنيا إلى أعتاب حياتنا، فهذه هي الضمانة لحالة من السعادة الدائمة. ولا يظن الكندي أن مهمة مثل تطويع النفس على انتهاج سلوكيات جديدة هي من المستحيلات، فيؤكد في الرسالة على أن الناس تتحمل الإجراءات الطبية التي يرافق جلها مشاعر الألم في سبيل صون صحة أبدانهم، ومن الأولى أن يغدو أكثر تقبلاً للمشقة بغية صون عقولهم وأرواحهم. فالكندي يرى أن الروح هي طبيعة المرء الحقيقية وأما الجسد فإنما هو محض أداة.
وبمزيد من التفصيل بالطرائق التي نشذب بها النفس يستطرد الكندي بالقول إن المرء عليه إتقان صياغة رغباته وبناء عاداته، وهو تمرين يفضل أن يبدأ بالعادات الصغيرة متدرجاً نحو أكبرها وأشدها التصاقاً بالمرء، وهذه الإستراتيجية التي خطها الكندي باتت الجوهر الذي تتمحور حوله كتب تنمية الذات في العقود الأخيرة والتي تتمثل غاياتها في تعظيم منافع الإنسان عن طريق تغيير سلوكياته.
ولا يستقيم الحديث عن الحزن من وجهة نظر الكندي دون التطرق إلى الموت، فالإنسان يحمل فوق كاهله قلق الفناء ويبتدع أنماطاً متنوعة من السلوك لإنكار الموت وهو ما يترك أثراً بالغاً في النفس الإنسانية. وللتعامل مع هذا المأزق الوجودي يبسط الكندي أطروحته بدءاً من أهمية قبول الموت بوصفه اكتمالاً لطبيعة البشر، وإن تلاشي الموت لن تكون نتيجته إلا تلاشي البشر أنفسهم، فبغير الموت ما كان هناك بشر على الإطلاق. ويرى الكندي أن الموت بحد ذاته ليس مصدر القلق بل هي فكرة الموت نفسها وما تلقيه من ذعر في نفوس البشر. وبرهن العلم الحديث على صواب ذلك، فالمشاعر المختلفة من صنف الخوف والغضب تلحق بالمرء ضرراً يفوق مصدري الخوف والغضب نفسيهما، ومن ثم يتحتم على المرء أن يوطن نفسه على قبول الموت بوصفه حدثاً طبيعياً ويستدعي ضرباً من عدم الاكتراث وربما الازدراء.
لا ريب أن الكندي قد ترك أطروحات أخرى تتعلق بعلل النفس والشفاء منها طواها الضياع إلا أن ما انتهى منها إلينا يجعله بحق رائداً في العلاج النفسي ومقوماً أخلاقياً لمسلكيات البشر، وربما باتت العودة إلى فلسفة الكندي على اتساع حدودها وموضوعاتها أمراً لا غنى عنه لمواجهة مشكلات مستحدثة يكتوي البشر بنيرانها في حياتهم اليومية وفي علاقاتهم وتفاعلهم مع بعضهم البعض.

ذو صلة