مجلة شهرية - العدد (586)  | يوليو 2025 م- محرم 1447 هـ

الترحال بالفلسفة نحوها.. ديكارت زائراً ومَزاراً

أن يكون الترحال فلسفةً، أو العكس، بحيث تكون الفلسفة هي ذاتها ترحالاً دائماً ومستمراً، وسفراً يبدأ كي لا ينتهي، ومساراً خُطت انطلاقته لكن من غير أن يكون للحديث عن منتهاه جدوى؛ معناه فهم دلالات أن يكون المرء فيلسوفاً وحكيماً وجوالاً، كما في حديث هايدغر عن (الطرق التي لا تؤدي إلى أين)، ضمن إشارته إلى الفلسفة في شقائها النظري الذي يميزها عن غيرها، والتي لا تصل لمرادها من خلال سلك الطرق الواضحة، وإنما هي تسافر في البدء دون أن تضع عينها على وجهتها بوضوح، تيمناً بفكرة أن المرء يسافر لا لكي يصل، بل ليجرب الترحال، أو كما في نصح (أمين معلوف)، بعدم التردد في الانطلاق والسفر بعيداً، أكان هذا السفر عبر البحار أو الأفكار أو المعتقدات، في إشارة لهذه الروح الفلسفية التي تتعانق مع فعل التجوال. فما معنى أن يرتحل المرء إلى الفلسفة بالفلسفة؟
أولاً: فيما بين الفلسفة والتجوال من اتصال
تقويل العلاقة بين الترحال والفلسفة، هي مهمة ليست باليسر الذي قد يتخيله الباحث في هذه الموضوعات، فالفلسفة هي نفسها سفر دائم بين القضايا والتأملات والتجارب والمواقف والمطارحات، وامتداد لمتون القول ووصايا القدماء واجتهادات الأجيال الحالية واللاحقة، وغوص في ذاكرة بشرية عريقة وعميقة لا في منعرجات الأمكنة والجغرافيا فقط، وهي بحد ذاتها عملية ترحال دائم ومتواصل، دون أن تشترط تنقل الجسد، كما هو شأن (إيمانويل كانت) فيلسوف الأنوار، الذي لازم في أغلب الأوقات مكانه في مملكة بروسيا، ولم يتطفل يوماً على روتينه المعتاد إلا في نوادر قليلة، وبقي وفياً لطرقاته ومساراته اليومية، وصولاً لحد رفض عروض مجزية، بتعلة البقاء في نفس مكانه، لكنه في المقابل انشغل بتنفيس القول الميتافيزيقي في كونيته، وكتب عن مشروع السلام العالمي الدائم، وَطَبَع عصراً بأكمله على اسمه، وكان دائماً يرفض أن يُقَدَّم مواطناً بروسياً وحسب، تأكيداً لفكرة أن الترحال يكون أحياناً بالفلسفة، وبالقدرة على تفهم واستيعاب مدخراتها وجدالاتها النظرية.
في مقابل هذا المكوث الذي يكون فيه الترحال بالفلسفة لا إليها، والذي لا يمثله فقط (إيمانويل كانت) وإنما هو درب آخرين أيضاً، أمثال (سقراط) الحكيم، الذي كان مولعاً بأثينا وأزقتها ودروبها، وبقي حريصاً على البقاء في جنباتها، يحاور أهلها من صباح يومه إلى ليله، يشاغب بأسئلته التي لا تنتهي تلامذته وخصومه، ويدور في فلك قضايا أثينا ومتطلباتها السياسية والأخلاقية والمعرفية؛ هناك درب آخر من دروب العلاقة بين الفلسفة والسفر، بدأها لربما (أفلاطون) تلميذ سقراط نفسه، والذي أخذ منه الكثير من وصاياه باستثناء حب التجوال والترحال، فكان مداوماً على التنقل، معجباً باكتشاف خزائن الأرض وعجائب الجغرافيا والحضارات، وأنماط الحكم، وأسرار الرباط الموجود بين معاني أن يكون المرء رحالةً وفيلسوفاً وحكيماً وحاكماً، مثله في ذلك مثل تلميذه (أرسطو)، الذي وجد في السفر ضالته، وجاور (الإسكندر) في تنقلاته وتحركاته، وملأ ذخيرته وتركته، فهو رجل كتب في كل شيء تقريباً من جولاته وصولاته، التي وظفها في كتاباته ومتونه.
وبقي حال العلاقة بين التجوال والفلسفة على هذه الشاكلة، مترنحاً بين فلسفة تقول إن سفر الأفكار لا يتطلب سفر الأبدان، وإن التأمل ليس سلعة أو تجارة يُشد لها الرحال؛ في مقابل ربط آخر، يشترط الترحال مدخلاً للتعرف على المتون والحضارات والثقافات والرؤى والأفكار، ويشترط التفكير من خلال هذه القدرة على الانتقال، في لبوساته الجغرافية والحضارية. وبين القولين بقيت الفلسفة وفيّة لقدرتها على عبور التاريخ، وتجاوز حواجز اللغة، والانطلاق سريعاً إلى استكمال فعل التفكير بعمق في الماضي والحاضر والمستقبل، لدرجة أن فلسفات مثل التي ساقها (ديكارت) كانت في أصلها نتاج محنة سفر، وصارت مع الوقت هي نفسها مزاراً يخلد ذكرى الرجل وفلسفته، في إشارة إلى درس آخر من دروس هذه العلاقة:
ثانياً: ديكارت متجولاً
ديكارت كان بحق واحداً من أولئك الذين اعتبروا الفلسفة والترحال أمرين متلازمين، فقد كان شغوفاً بالتغيير في كل معانيه ودلالاته، واستبق شكه بأسئلة كانت في الأصل حول أصله، وهو المولود في فرنسا لأسرة تعود أعراقها إلى هولندا، وكان أبوه مولعاً بالسياسة وفن الاستشارة، في حين أن أجداده كان أحدهم طبيباً والآخر حاكماً لإقليم (بواتيه)، وحين اشتد عوده الفكري، وبدأ في حيازة معرفته بتخصصات المنطق والرياضيات والأدب والفلسفة، بروح فرنسية؛ التحق بعدها بالجيش الهولندي، الذي تطوع لخدمته، قبل أن يعود لفرنسا، ويبدأ رحلات جديدة زار فيها أغلب مدن أوروبا وعواصمها، ولم يُعهد عليه المكوث في المكان الواحد إلا نادراً، فانتقل من فرنسا إلى هولندا، ونحوهما إلى ألمانيا والسويد ومناطق أخرى، ما انتهى به إلى إضافة المزيد من الغموض حول فرنسيته التي يُعرَّفُ بها، فهو باحتساب مجمل عمره يكاد يكون كالسائح لها، ولكنه في ذات الآن يُعَرَّفُ بها وتُعَرَّفُ به، لدرجة قول بعضهم إن فرنسا هي ديكارت.
ديكارت على هذا الأساس لم يرِث (شك أوغسطين) فقط، وإنما ورث الصفة الأساسية التي ميزته أيضاً، وهي التقلبات الكثيرة التي صادفها في أغلب مساراته، على مستوى المكان، وعلى مستوى كيفيات نظره للأشياء والموضوعات، وطبيعة البيئة التي وُلد فيها، وألزمته بهذا الشتات الذي طبع أغلب مراحل شبابه، لدرجة أن أوغسطين أيضاً فقد قدرته على التعامل مع هذه التركيبة المعقدة، التي طبعت حال الناس في شمال أفريقيا، حيث التقاء العقائد والأجناس والأعراق والثقافات واللغات.. وكما تشي بذلك اعترافاته، وجد في البدء صعوبات كثيرة في التعامل مع هذا الشتات، الذي لزمه من يوم فتح عينه على بيت هو جماع أب وثني وأم مسيحية، منحاه كل شيء ما عدا إمكانية السفر إلى قرطاجة، في البدء لعدم قدرتهما على تأمين شروط هذا السفر، فانطلق في رحلة البحث عن الذات، دون خضوع لأي إقرارات كانت تصدر عن رغبة الوالدين، في رؤية ما بدا لهما أنه الحق، وبخاصة والدته التي كانت متشبعة بمسيحيتها، إلى حد اعتبارها الإمكانية الوحيدة الممكنة للحياة... ولم تكن هذه سوى بداية لمراحل أخرى متسلسلة من المطبات، وهي ذاتها التي عبر عنها بكامل الوضوح في كتابه الاعترافات، قبل أن يرثها منه ديكارت تماماً كما ورث أشياء أخرى.
بل إنه من غرائب الأمور أن السفر والتجوال والترحال الذي طبع فلسفة ديكارت، التي تدين في جزء منها لمفهوم (المراسلات) واللقاءات التي جمعته مع الشخصيات العلمية والسياسية والأصدقاء؛ لم تكن لدواعي تتعلق بالخوف كما في بعض التفسيرات، أمام حقيقة أنه لم يكن محسوباً في الغالب على الأقليات الموضوعة في خانة المُكون المضطهد خلال تلك الفترة؛ وإنما كانت بغرض السفر والترحال وتقصي أحوال الآخرين، والانخراط في سجالات ونقاشات علمية بشأن مشروعه الفكري. بل حتى افتراض أن هولندا كانت خلال هذه الفترة أكثر انفتاحاً وحرية من فرنسا؛ لا يبرر سبب السفر الدائم، لأنه لم يكن دائم الإقامة فيها أيضاً، وغالباً ما اختار العزلة والتأمل، لكن من خلال فعل الترحال والتجوال، الذي سمح له بمجاورة كنوز الطبيعة وجداولها وحدائقها وغاباتها، تأكيداً لهذا الطابع الرومانسي، الذي يمثل هو نفسه عمود فعل الترحال والاستكشاف والانكشاف، وإن كان ديكارت هو مؤسس صرامة القول العلمي، التي هي من حيث المبدأ مخالفة لأي تفسيرات رومنطيقية للعالم.
والحق أن ارتباط ديكارت بالسفر، لم يكن حاسماً في حياته وحدها، وإنما ارتبط بقصة موته وترجله من صهوة الحياة، ذلك أنه في حال اعتمدنا الرواية الرسمية حول واقعة الوفاة، وتجاوزنا ما ورد بشأن موته ضمن كتاب البروفيسور (تيودور إيبيرت) بعنوان (لغز موت ديكارت)، والذي شكك في رواية الموت نتيجة لمرض (الالتهاب الرئوي)؛ فإن النتيجة ستكون بأن ديكارت فارق الحياة بعلة سفره، وأن انتقاله إلى قصر سيدة السويد الأولى (الملكة كريستين)، وعدم تحمله برودة الطقس هناك، كانت السبب الرئيس في قصة نهايته المعروفة. والعجيب في الأمر أن صلة حياة وموت ديكارت بالسفر، لم تنته هنا، أو على الأقل هذا ما يحكيه لنا كتاب كتب بلغة الضاد صدر حديثاً:
ثالثاً: أعجوبة ديكارت.. أو حياة وموت
لا نقاش بشأن أن (موت ديكارت) لم يكن نهايته، وإنما كان بالأحرى بدايته الحقيقية، بدليل أن المنظومة الغربية مدينة له، في كل ما بلغته من محددات العلم والمعرفة ودقة المنهج، وأن صيته ذاع في العالم والجامعات والمدارس والمعاهد وصار حديث الصالونات الثقافية ومجالس المعرفة، بين الصغار والكبار إلى الآن، وفي غالب الظن سيبقى. لكن بعيداً عن هذا الأثر، هناك سفر من نوع آخر فرضه ديكارت على العالم، بما في ذلك معشر الكتاب والقراء العرب، حين تحولت قصة (سفر جثمانه)، إلى أن تكون هي أيضاً موضوعاً للإعجاز والجدل، وحين تحول هو نفسه إلى (مَزار) بحمولات سياحية وروحانية وفكرية وتاريخية خاصة.
هذه الحمولات هي التي يحكيها لربما كتاب جديد، جرب أن ينتقل من تجربة ديكارت الزائر والمسافر والمتجول، إلى ديكارت باعتباره مزاراً، ويقدم نفسه جزءاً من تاريخ فرنسا وماضيها وحاضرها، وأقصد هنا كتاب الباحث المغربي (محمد كزو)، بعنوان (رحلة ميدانية في عالم ديكارت.. حول تعثر الحداثة عربياً)، وسِمته أنه يوثق لتجربة سفر شخصية قام بها الكاتب للأماكن المُخلدة لذكراه، بداية من منزله الذي ولد فيه والمدرسة الابتدائية التي ارتادها (لافليش)، مع تضمين هذه الرحلة صوراً التقطها بعدسته الخاصة لهذه المآثر، جامعاً بين (أدب الرحلة) والتعريف بمشروع ديكارت الفكري، إذ في خضم حديثه عن مسارات هذا السفر، كان يشير إلى كتابات ديكارت وأطروحاته ومتونه وسياقات وظروف التأليف.
الكتاب عدا عن تشابكه مع أطروحات ديكارت ومساره، يتحدث أيضاً عن استمرار ديكارت في أن يكون موضوعاً للسفر حتى بعد موته، حين يُشير إلى ما أشار إليه أستاذ الفلسفة الحديثة، المختص في ديكارت والديكارتية (ديزموند كلارك)، بشأن أن تلك القرية الصغيرة التي وُلد فيها صاحب التأملات، والتي تدعى (لاهاي إن تورين)، صارت الآن تسمى باسمه (ديكارت)، وأنها اشتُهرت به أكثر ما أنه اشتهر بها، وأن الوفود تصلها من كل بقاع العالم، لأنها موطن ولادته، وباعتبارها مزاراً تاريخياً وثقافياً، يُنظر إليها إرثاً رمزياً بسببه. وهذا بالذات ما وثقه (محمد كزو) في رحلته، حين يحكي كيف أنه استشعر هيبة المكان وعظمته، وانبهر وهو في حضرة بيت جرى تحويله إلى مزار سياحي، ليس لأنه منزل جميل وموجود في قرية هادئة، أو لنوعية عمرانه وبنايته وجدرانه؛ وإنما لكونه يحمل ذاكرة تحيل إلى ديكارت في شخصه ومكانته، خصوصاً أنه أصبح تحت تصرف (وزارة الثقافة والاتصال الفرنسية).
ومن الطرائف التي يعيد الكاتب النبش فيها، هي المتعلقة بـ(الترحال) الذي طال جثمان فيلسوف فرنسا، حيث ينقل عن لسان الموظفة المسؤولة عن (منزل/ متحف) ديكارت، تفاصيل تتعلق بسفره ما بعد مرحلة وفاته، وهي تحكي كيف أن جمجمته توجد داخل (متحف الإنسان) بالقرب من برج إيفل رمز باريس، في حين أن رفاته كما تقول الموظفة التي وصفها بأنها مهووسة بشيء اسمه ديكارت، موجود في الجانب الآخر من المدينة، ويفصل بينهما نهر السين الشهير، وينقل عنها قولها، بأن (ديكارت عاش حياةً عنوانها الترحال)، قبل أن تكون نهايته أيضاً على نفس الشاكلة، حينما تعذر جمعها ودفنها في المكان الواحد، إلى جانب أن الكتاب يعرض تفاصيل محنة الخلاف الذي نشب بين السلطات الفرنسية ونظيرتها السويدية، لما طالبت الأولى باسترجاع رفاته، وكيف أن الثانية اضطرت للاستجابة، رغم أن هذه الاستجابة كلفت حفر قبره في مرات عديدة، وجرى نقل ما تبقى من رفاته إلى كنيسة (سان جينيفيف)، وبعدها (كنيسة سان جيرمان دي بري)، ومقبرة العظماء، وغيرها من التفاصيل المتعلقة بالاكتشاف المتأخر لسرقة جمجمته.
كل هذه التفاصيل، تكرس حقيقة أن سفر الفلاسفة، أو السفر بالفلسفة، أو السفر نحو الفلاسفة والفلسفة، هو المبدأ الأساسي للعلاقة الجامعة بين محبة الحكمة وفعل (الترحال)، وليس ديكارت إلا مثالاً من ضمن أمثلة أخرى كثيرة، تؤرخ لهذا الجدل والترابط الحاصل بين الأمرين، تأكيداً لفرضية أن التعاطي مع الفلسفة لا يكون دوماً مع رؤاها التنظيرية، وما يجري الحديث عنه من أبراج عاجية، تفصل الحكماء عن واقعهم ومعيشهم اليومي الموضوع في خانة (الحياة العادية)، وإنما يكون في أحيان كثيرة مع هذه التفاصيل البسيطة لمعيش هؤلاء الكبار، بدليل أن الكثير من الناس يحملون شغف السفر إلى مقابر ومنازل وجامعات ومدارس هؤلاء، جنباً إلى جنب مع شغف التعرف على أطروحاتهم ومواقفهم ورؤاهم ومتونهم، تيمناً بنصيحة (مارك توين) عن أن المرء ملزم بالسفر لكي يتعلم.

ذو صلة